بالتوازي مع أفعال الإبادة اليومية التي تمارسها آلة القتل والدمار الإسرائيلية على مدار الساعة منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 تثار أسئلة لا تنتهي عن التصفيات الجسدية التي طاولت عدداً كبيراً من قيادات “حزب الله” وعلى رأسهم أمينه العام الراحل حسن نصرالله ثم خلفه هاشم صفي الدين، لكن أخطرها، في نظري، هو السؤال عن الاختراق المعقد والمركب الذي تمكنت من خلاله أجهزة الاستخبارات من تحقيق التجاوز المذهل لكل طبقات الحماية والحصانة التي كان الحزب يظن أنه يمتلكها.
هكذا جاءت العمليات الدقيقة المتتابعة لتخلق أجواء ملبدة بالشكوك حول مستقبل “حزب الله” سياسياً وعسكرياً، وتحديداً سلاحه الثقيل على اعتبار أن كل الأحزاب اللبنانية تمتلك سلاحاً غير ثقيل.
ما من شك أن الضربات العنيفة التي يتلقاها “حزب الله” ستضعف المكانة التي تصدرها في المشهد السياسي اللبناني منذ 2006، ومن غير المحتمل أن يكون مسموحاً له بعد انتهاء الحرب، تكرار تجربة الأعوام الماضية التي كان المتحكم خلالها في محددات السياسات الداخلية والخارجية في لبنان، والكل يعرف مدى قدرته خلال الأعوام الـ30 السابقة على إنجاح أو عرقلة العملية السياسية إذا لم تتوافق مع استمرار نفوذه وضمان مصالحه.
كان “حزب الله” يمارس السياسة بيقين مطلق أنه أهم اللاعبين، في الوقت نفسه كان خصومه يشعرون بخطره فلم يتمكن من إشاعة الطمأنينة عند شركائه في الوطن بأن سلاحه ليس مصدر قوته الوحيد داخلياً، ولم يستطع تهدئة مخاوفهم بأنه لن يفرض به رؤاه.
وكما لم يكن يخفي عمق علاقته وعضويتها مع السلطة في إيران وأنها مرجعيته الدينية والدنيوية، وفي وقت كانت علاقة طهران في المنطقة متوترة للغاية ومشوشة، كان الكثير يرون في الحزب أداة إيرانية متقدمة تقوم بمهمات تنسجم مع السياسات الإيرانية وتتقدم على المصالح الوطنية.
يجب الاعتراف بأن النفوذ الإيراني المتعاظم في المنطقة حدث بسهولة لملء الفراغات التي يسرها الانشغال بالخلافات البينية من ناحية، والصراعات الداخلية في هذا القطر أو ذاك من ناحية أخرى، وتمكنت طهران من ربط عدد من الكيانات عضوياً بسياساتها تسليحاً وتمويلاً وتدريباً.
وكان العمل العربي المشترك غائباً، بل إن بعض مكوناته تماهت مع التدخلات الإيرانية، وصارت مدافعة عنها، في اللحظة نفسها التي تراجع فيها دور الدول المحورية وانكسرت القوى الليبرالية، مرة أخرى صارت الكيانات المذهبية هي الملجأ، وتحول الصراع إلى ساحة فسيفساء دامية من المذاهب وتخلى الجميع عن القبول بالشراكة داخل الأوطان.
في الطرف الثاني من العالم العربي تحاول جماعة “أنصار الله” الحوثية في اليمن استنساخ التجربة اللبنانية بدعم من طهران استمر لعقود تعاملت معها السلطة خلالها بمحاولات الاحتواء حيناً، وبالقوة المفرطة أحياناً أخرى، ولكن الفارق الجوهري هو أن “حزب الله” في لبنان كان يمتلك تجربة سياسية عميقة ومتنوعة بحكم العيش في مناخ من التنوع الثقافي والانفتاح السياسي والاجتماعي مما سمح له بالتمدد في كافة الاتجاهات.