بعد اعتقال الرئيس عبدربه منصور هادي في صنعاء نهاية يناير (كانون الثاني) 2015 فرت معظم القيادات اليمنية من صنعاء وبقية المدن بمبرر الخشية على حياتهم من الاعتقالات أو القتل على يد الميليشيات الحوثية، واليوم أتساءل ماذا لو أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينيسكي وبقية القيادات قرروا هم أيضاً الهرب من عاصمة بلادهم التي كانت ولا تزال تحت القصف، وفضلوا البدء بقيادة المعركة ضد روسيا من عاصمة مجاورة.
ومن حين بدأت الحرب في بلاده لم نشاهد زيلينيسكي يوماً ببدلة أنيقة ونظارة شمسية جميلة، ولا ساعة يد ثمينة، ولا يصطحب فريقاً لتصويره من زوايا مختلفة لإظهار وسامته، ولا أظنه يجاهد للحصول على مكاسب شخصية أو بدلات سفر أو فرض تعيينات مزاجية.
بالطبع فإن هذا السؤال الافتراضي له جواب واحد، سيخسر الأوكرانيون الحرب أياً كان حجم المساعدات والدعم الخارجي لأن المواطنين والجنود حين يغيب قائدهم عن أنظارهم، ويبتعد عن صفوفهم، ولا يشعرون بأنه قريب منهم، فإنهم سيشعرون حتماً بالإحباط والانكسار.
وهذا بالضبط ما لم يحدث في اليمن حتى بعد إخراج مسلحي جماعة الحوثيين التي انقلبت على “الدولة” في الـ21 من سبتمبر (أيلول) 2014 من عدن التي تم اختيارها عاصمة “موقتة”، ويبدو أنها ستظل على هذه الحال لمدة أطول مما يتمنى المتفائلون.
إن الحديث، وتكراره، عن قضيتي “استعادة الدولة” و”إنهاء الانقلاب” صارا مملين ومحل سخرية على رغم أهميته القصوى في حياة اليمنيين، كما يعيد إلى السطح موضوعاً تحدثت عنه كثيراً بأن القضيتين مرتبطتان كلياً بأداء الأجهزة والقيادات التي تزعم أنها تعمل على إنجاز الأمر.
ويعود ذلك إلى عوامل ذاتية وأخرى عضوية، وفي الحالين فهي مفقودة. وهذه هي العقدة العصية التي لم يتمكن الرئيس عبدربه منصور هادي من تجاوزها طيلة سبعة أعوام، ولم يظهر حتى الآن في الأقل، أن الذين خلفوه أكثر قدرة على الفعل الإيجابي والمأمول منهم.
كان الرئيس هادي عاجزاً عن الخروج من الدائرة الضيقة جداً التي مارس الحكم من خلالها، وأدى ضعف خياله السياسي إلى الشلل في قمة هرم السلطة. ولم ينغمس في العمل اليومي لإدارة بلد في فترة حرب مصيرية تستدعي الحضور اليقظ والدائم.
ومع غيابه المستدام انتقلت السلطة الفعلية إلى منزله ومكتبه. ومن دون رقابة ولا متابعة ولا محاسبة، سواء من الأجهزة الرسمية أو من مجلس النواب، فإن ذلك يقود طبيعياً إلى انتشار الفساد والمحسوبية وتعطل تنفيذ كافة المشاريع الحيوية. وهكذا طالت الحرب وستبقى في هذه الدورة المتكررة.
إن مفردات الحديث المتكرر عن قضيتي “استعادة الدولة” و”إنهاء الانقلاب” جعلت الأمر يبدو أقرب إلى الهزل منه إلى الجد، فالعمل على تحقيق هذين الهدفين لن يتم عبر القوة المسلحة، وهي مهمة للغاية، ولكن الأكثر حسماً هو، كما سأظل أكرر، خلق نموذج جاذب للناس للاقتراب من السلطة الحاكمة ودعمها والنظر إليها باحترام وتقدير وإعجاب، فهل استطاعت “السلطة” خلق هذا المناخ؟ بالطبع لا.
وهنا نسأل أنفسنا، هل يتعايش الحاكم مع المناخ المحيط والناجز أم أنه مطالب بتهيئته وهيكلته بما يهدف القضيتين؟ من المحتم أن النجاح يبدأ بأن يصير القائد ومحيطه نموذجاً للنزاهة المالية والكفاءة الإدارية والابتعاد عن الوله بالأضواء ومشاهدة صوره معلقة على الجدران وفي الشوارع، والاكتفاء بها بمظنة أنها ستخلق له مكانة يجب أن يعي أنه لا يصل إليها إلا بالعمل الجاد والدؤوب الذي يلمسه الناس ويرون محصلته في حياتهم.
إذا ما ذهبنا إلى صنعاء، فإن كل ما أسمعه عما يدور فيها يبعث الحسرة والأسى والغضب حد القهر، فالسلطة هناك منشغلة بتعزيز قدراتها عبر السيطرة على كل الأدوات الاقتصادية والموارد المالية وتعزيز أجنحتها الأمنية بإسكات كل صوت مختلف حتى وإن لم يكن معارضاً. ومهمتها الأولى هي خلق نموذج أبعد ما يكون عن عمل المؤسسات الخاضعة للرقابة والمحاسبة، وهو أقرب إلى نموذج الأخ الأكبر حد وصف جورج أورويل في روايته الشهيرة 1984.
كما تواصل “السلطة” في صنعاء هوايتها المفضلة عبر حملاتها لقمع وإغلاق كل المنابر المستقلة بعد عرض قائمة اعترافات واتهامات لا أحد يعلم مدى صحتها ناهيك بقانونيتها، ولكن المؤكد أنها ضمن خطوات للسيطرة والتحكم في كل موارد ومشاريع المنظمات غير الحكومية وحتى الدولية واعتقال الموظفين لترهيب كل من يعمل في الحقل الإنساني والتطوعي ومن يمارس أي نشاط سياسي.
يسقط اليمنيون في فخ معضلة الاختيار بين سلطتين لا تقدمان نموذجاً نزيهاً يمكن اللجوء إليه أو التفكير في أفضليته. في عدن نموذج “سلطة” عندها كل الدعم الخارجي ورغبة الناس في حكم رشيد لكنها لا تقدم جهداً (غير الصور والبيانات) يشفع لها خطاياها. وأخرى في صنعاء لا يعنيها رأي الناس ولا تقيم لهم وزناً في حساباتها فهي التي تفكر وتقرر وتنفذ وتترك لهم حقهم الوحيد في السمع والطاعة.
*إندبندنت عربية