في كتابه الجديد بعنوان «كيف تعلمت الحواسيب الكتابة: نظرية الأدب للروبوتات» يُلقي أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة كولومبيا الأمريكية، دينيس يي تينين، نظرةً شاملة على الذكاء الاصطناعي، وما مرّ به من تطور عبر العصور. وفي أقل من 200 صفحة، يستعرض المؤلِّف السابقات الفلسفية والتكنولوجية التي ساهمت في بناء هذه التقنية الثورية، متسائلا عن مزاياها وعيوبها.
الجذور التاريخية للذكاء الاصطناعي
يستهل تينين كتابه بتحدي الاعتقاد السائد بوجود فروقات شاسعة بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي. ولدعم وجهة نظره، يستخدم خبرته في حقل اللغة ويستند إلى تعريف «الذكاء» في المعاجم، مفندا وجود حدود واضحة بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي. من هذه المعاجم قاموس ويبستر الأمريكي الذي يعرف الذكاء بأنه «استخدام العقل بمهارة». ويوضح أن المصطلح مشتق من كلمتين، تعني الأولى (العمل الماهر) والثانية (الصنع) ما يعني أن الذكاء الاصطناعي، من حيث المعنى، مزيج من العقل والمهارة. وبالتالي، لا توجد حدود حقيقية بين العقل البشري وتوسعاته التكنولوجية. فالذكاء البشري والذكاء الاصطناعي يحيان معا في انسجام وتآلف وتكامل. يشير تينين في كتابه إلى أهمية بناء فهم شامل للذكاء الاصطناعي اعتمادا على تاريخ العلوم الإنسانية. ويؤكد أن التقنيات الحديثة مثل روبوتات الدردشة ومحركات البحث وأدوات معالجة اللغة، لها أصول تعود إلى تقاليد قديمة تتعلق باستخدام الرموز وتقنيات معالجة اللغة، تضرب بجذورها في أعماق التاريخ.
ولدعم حججه، يسلط تينين الضوء على الارتباط التاريخي الوثيق بين البشر والآلات. فالإنسان يستخدم الآلة منذ قديم الزمان، مستفيدا من خدماتها تماما مثلما تستفيد الآلة من خدماته. فالعقل واليد والأداة تعمل في تناغم وانسجام. ويؤكد دينيس على دور رواد علم المنطق والرياضيات في تطور الذكاء الاصطناعي. فقد سعى فلاسفة أمثال أرسطو لوصف نظم منطقية باستخدام السيلوجيزمات ـ وهي حجج منطقية تحتوي على فرضيتين واستنتاج. في ما بعد، قدم علماء منطقيون أمثال غوتفريد لايبنيتز وجورج بول أنظمة منطقية رسمية، تستند إلى قيم ثنائية صحيح/خاطئ وعمليات جبرية، ما ساهم في إرساء أسس المعالجات الحسابية وبروز الذكاء الاصطناعي في نهاية المطاف. ويشير تينين أيضا إلى الرموز القديمة للتنبؤ، والأوراق الدوارة التي صنعها رامون لول في القرن الثالث عشر (والتي يمكننا أن ننظر إليها على أنها «روبوتات دردشة» مبكرة) ويذكر أيضا اقتراح جون ويلكنز في عام 1668 لغة فلسفية تهدف إلى تسهيل الترجمة بين الثقافات المختلفة، مؤكدا أنها كلها أدلة على الإلهام المبكر للذكاء الاصطناعي.
دور العالم العربي في بروز الذكاء الاصطناعي
ويتطرق تينين في دراسته إلى أصول اللغات والآليات المتخصصة في نشأتها واستخدامها أداة للتفاهم والتواصل والاستدلال، مؤكدا دور العالم العربي في بروز الذكاء الاصطناعي، لاسيما اجتهاد ابن خلدون وجهاز الزيرجة. فالعالِم والمؤرخ الشهير ابن خلدون، هو من وثَّق تقنيات حسابية متقدمة، في مقدمتها جهاز الزيرجة الذي يُعدّ من الدعائم التي ارتكز عليها الذكاء الاصطناعي. في كتابه «المقدمة» وصف ابن خلدون الطرق المعقدة التي يستخدمها الإنسان لاكتساب معرفة، وفهم أعمق بالعالم المجهول، استنادا إلى المعلومات المتوفرة في الواقع. وهذه التقنيات تشمل التحويلات الرقمية واستشارة الرسوم البيانية والعمليات المعقدة. فاستخدام العرافين جهاز الزيرجة في العصور الوسطى يُعدّ صيغة مبكرة للأفكار التي ساهمت في إرساء دعائم الذكاء الاصطناعي. من خلال التعمق في هذه الأساليب المعقدة للتنبؤ، قدم ابن خلدون رؤى قيمة عن ارتباط العقل البشري بالعمليات التكنولوجية، ما فسح المجال لاحقا لتطوير مفاهيم الذكاء الاصطناعي، وفهم هذه التكنولوجيا فهما عميقا.
توسع نطاق الذكاء الاصطناعي في مختلف التطبيقات والصناعات
وفي عصرنا هذا، يشهد الذكاء الاصطناعي نموا سريعا ليصبح جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية. فها هو مساعد الذكاء الاصطناعي يحقق نجاحا باهرا، مكتسحا مجالات الحياة كافة، ففي حقل الرعاية الصحية، يُستعمل في خدمات الفحص وتشخيص الأمراض. ويمكن استخدام التقنيات البصرية لتحليل الصور الطبية والكشف عن التشخيصات والأمراض بدقة أعلى وبسرعة أكبر. ويساعد الذكاء الاصطناعي على تسجيل محادثات المرضى والأطباء وتحويلها إلى رموز تأمينية يمكن استشارتها لاحقا. ويدعم الذكاء الاصطناعي اليوم محركات البحث وأنظمة التوصية وروبوتات خدمة العملاء. وأصبح أداة حاسمة في التنبيه بالمحتويات المسيئة على الشبكات الاجتماعية وتصفية البريد المزعج في صناديق الوارد. ويمكنه حتى التنبؤ بمؤامرات إرهابية واعتداءات محتملة، أو أعمال تخريب، أو عنف على منصات التواصل الاجتماعي. ويعتمد رجال القانون على الذكاء الاصطناعي لجمع الأدلة على احتيال الشركات وارتكاب شتى أصناف المخالفات. ويستخدم الطلاب برامج معالجة نصوص تعمل بالذكاء الاصطناعي لإعداد مقالات وأبحاث في شتى المواضيع. وقد فجّر الذكاء الاصطناعي ثورة في عالم التسوق عبر الإنترنت، حيث تلعب روبوتات المحادثة دورا مهما في تقديم خدمة العملاء والقيام بالمهام الإدارية. وفي المجال الأمني، تزداد تقنية التعرف على الوجه انتشارا في المطارات الكبرى والمرافق الحيوية، ما يساهم في تعزيز الأمن وتطبيق القانون، بالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي المعزز بالذكاء البصري في التطور الزراعي بتحسين التنبؤات الدقيقة ومراقبة المحاصيل بشكل تلقائي. ويتوقع أن يسهم الذكاء الاصطناعي بنسبة 15.7 تريليون دولار سنويا في الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2030، ما يؤدي إلى زيادة الدخل الحقيقي للفرد على مستوى العالم بنسبة 26%. ويساعد استخدام الذكاء الاصطناعي على تحسين المنتجات والخدمات وتوفير تقنيات صديقة للبيئة تساعد على تخفيض أثر الكربون.
وها هو الذكاء الاصطناعي اليوم يغزو الحقل الفني والأدبي، فقد أصبح في إمكان الفنانين استخدام هذه التكنولوجيا لرسم صور واقعية قادرة على خداع الخبراء وإيهامهم بأنها أعمال فنية أصلية من تصميم أياد بشرية، بالإضافة إلى ذلك، يمكن للروبوتات الأدبية استخدام الذكاء الاصطناعي لكتابة نصوص نثرية وشعرية في منتهى الجمال والإبداع. وقد تطور الذكاء الاصطناعي ليصل إلى حد قدرة الكمبيوترات على المشاركة في المحادثات والإصغاء وتقديم الاقتراحات والنصائح وتبادل وجهات النظر كما لو كانت بشرا!
مخاطر أنظمة الذكاء الاصطناعي
رغم الإيجابيات والفرص اللامحدودة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي، فإن هذه التقنية لا تخلو من العيوب والأخطار. ولعل التحدي الأكبر الذي تواجهه البشرية خطر استشراء التحيزات والصور النمطية، إن تم تدريب الأنظمة الذكية وفق بيانات تعكس أوجه التمييز وعدم المساواة في المجتمع. يضاف إلى ذلك صعوبة تحديد المسؤولية والمساءلة عندما ترتكب هذه الأنظمة أخطاء، أو تتخذ قرارات ليست في محلها. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك «قضية جيك موفات وشركة طيران كندا» التي ذكرتها صحيفة «واشنطن بوست» مؤخرا. اشترى جيك موفات، أحد سكان كولومبيا البريطانية، تذكرة من موقع طيران كندا الإلكتروني، وأثناء ذلك، أبلغته روبوتات الدردشة المدعمة بالذكاء الاصطناعي أنه مؤهل للحصول على خصم بموجب سياسة الشركة الكندية، لكنّ شركة الطيران امتنعت عن الدفع بحجة أن معلومات برنامج الدردشة لم تكن صحيحة، ما حمله على رفع دعوى أمام محكمة كندية. شركة طيران كندا سعت لتبرير موقفها، بحجة أنّ برنامج الدردشة الآلي هو الذي أخطأ. وسعت الشركة لإقناع المحكمة بأنّ الذكاء الاصطناعي كيان قانوني مستقل ومسؤول عن أفعاله، غير أن القاضي حكم لصالح الزبون، مؤكدا أن شركة طيران كندا لم تضمن دقة برامج الدردشة الآلية التي تستخدمها، فأمرت شركة الطيران بدفع تعويضات ورسوم لموفات تجاوزت 600 دولار. وفي الميدان الاقتصادي، تتجلّى أخطار الذكاء الاصطناعي في هيمنة العمل الآلي وصرف اليد العاملة واندثار وظائف كان يمارسها الإنسان من قبل. من الأخطار الأخرى الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي. فالاعتماد المتكرر والمفرط على الذكاء الاصطناعي لفهم المسائل وحلها قد يضعف قدرة الإنسان على التفكير والإبداع، وقد يؤدي إلى عزلة الذكاء البشري وإضعاف قدرته على مواصلة التطور. لم يعد الطالب يبذل جهدا في الدراسة بعدما أصبح في وسع الذكاء الاصطناعي القيام بشتى الواجبات الدراسية. وها هو الكاتب اليوم يستعين بالذكاء الاصطناعي للتعبير عن مشاعره وأفكاره، ما جعل الكاتب تينين يقرع ناقوس الخطر قائلا، «يجب أن نتهيأ لمستقبل يكون فيه «الكُتاب والمبرمجون غير قادرين على تأليف سطر واحد دون الحاجة إلى مساعدة».
وفضلا عن ذلك كله، يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يهدد وجود الإنسان نفسه على سطح هذا الكوكب، إن خوّله الإنسان القدرة على التطور بشكل مستقل عن إرادته ومن غير الخضوع لرقابته – وإن بقي ذلك افتراضيا في عصرنا.
نظرة إلى مستقبل الذكاء الاصطناعي
يؤكد تينين في نهاية كتابه، أنّه على الرغم من صعوبة التنبؤ بمستقبل الذكاء الاصطناعي، فإن هذه التكنولوجيا قادرة على إحداث تحولات عميقة في المجتمعات والاقتصادات والحياة اليومية. ويرى أنّ طريقة تعامل الإنسان مع هذه التقنيات وتسييرها هي التي ستحدد ما إذا كانت أثارها ستكون إيجابية أو سلبية. فإن أحسن الإنسان التعامل معها بحكمة وروية ووجهها لخدمة الصالح العام، ستكون بلا ريب أفضل اختراع في تاريخ البشرية. وإن أساء استخدامها، فاللوم على الإنسان، لا على التكنولوجيا التي صنعها بيده، وهو ما يتجلى في قوله، «ومع ذلك، يجب علينا الإصرار على تحميل الجهات الفاعلة السيئة المسؤولية عن أفعالها، بدلاً من تبرير أفعالها بإلقاء اللوم على التكنولوجيا».
القدس العربي