
سيكرر (ترامب) استخدام إستراتيجيته (الرجل المجنون) في علاقاته الدولية مرة أخرى، ورغم أن العالم أصبح مدركًا لطريقة حُكمه، وقد لا يصدقه هذه المرة، فإن عجز (ترامب) عن إقناع الآخرين بأنه رجل مجنون حقًا، سيدفعه إلى تنفيذ تهديداته الأكثر تهورًا، ما قد يؤدي إلى تفاقم الصراعات بشكل خارج عن السيطرة.
منذ أن عاد إلى البيت الأبيض مرة أخرى في 20 يناير 2025، أطلق الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) سلسلة من التصريحات التي بدت للوهلة الأولى غير عقلانية، ما عزز فكرة أنه قد عاد لتبني إستراتيجية (الرجل المجنون) في الحكم، فقد هدد بضم كندا، وشراء جزيرة جرينلاند، والسيطرة على قناة بنما، والاستيلاء على غزة، قبل أن يتراجع عن بعضها لاحقًا، كما وقّع العديد من الأوامر التنفيذية المثيرة للجدل منذ يومه الأول في السلطة.
لكن في الواقع، يبدو أن هذه التصريحات الجنونية تخدم أكثر من غرض، فمن ناحية، هي وسيلة لصرف الانتباه عن التغييرات الجوهرية التي يجريها فريقه داخل الولايات المتحدة، حيث يقوم رجال إدارته، مثل “إيلون ماسك” بإعادة هيكلة جذرية لمؤسسات ونظام الدولة الأمريكية، وتنفيذ “إصلاحات” كبيرة تقضي على “الدولة العميقة” وتعيد أمريكا عظيمة مرة أخرى.
ومن ناحية أخرى، لا يمكن اعتبار هذه التصريحات مجرد تكتيك للإلهاء فقط، إذ إن بعض هذه التهديدات قد تكون لدى (ترامب) نية حقيقية للمضي فيها، أو ينفذ أجزاءً منها على الأقل، فمن خلال تبني استراتيجية (الرجل المجنون)، يصنع (ترامب) حالة من الغموض حول نواياه، مما يضع خصومه في موقف صعب، حيث يضطرون إلى أخذ تصريحاته على محمل الجد واتخاذ احتياطاتهم بناءً على احتمال تنفيذها بالفعل.
مؤخرًا نشرت مجلة (فورين بوليسي) الأمريكية مقالا لـ”دانيال دبليو دريزنر” أستاذ السياسة الدولية في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية في جامعة تافتس، بعنوان: (هل ستعمل نظرية الرجل المجنون بالفعل؟.. Does the Madman Theory Actually Work?)
تناول المقال كيف عَمَدَ (دونالد ترامب)، منذ حملته الانتخابية في 2016، إلى ترسيخ صورته كرئيس غير تقليدي ومندفع، متبنّيًا أسلوبًا مليئًا بالغضب والتصريحات النارية، ويسرد المقال عدة مواقف جسدت نهج ترامب كـ”رجل مجنون” في السياسة الخارجية، أبرزها تعامله مع كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، ففي عام 2017، صعّد ترامب من خطابه العدائي تجاه كوريا الشمالية، مهددًا باستخدام “النار والغضب” ضدها، وفي الوقت ذاته، استخدم تهديدًا مشابهًا ضد كوريا الجنوبية في مفاوضات التجارة، طالبًا من مساعديه إبلاغ سيول بأن “ترامب قد ينسحب في أي لحظة .. لأنه مجنون”!
لكن، وفقًا للمقال، فإن نتائج هذه السياسة كانت محدودة، فبينما حصل (ترامب) على بعض تنازلات طفيفة من كوريا الجنوبية، فإن لقاءاته مع “كيم جونغ أون” رئيس كوريا الشمالية، لم تسفر عن إنجازات حقيقية، بل كانت مجرد استعراض إعلامي، كما أن سياساته الاقتصادية القسرية لم تحقق نجاحًا ملموسًا، باستثناء “اتفاقيات أبراهام”، التي أُبرمت بأسلوب الترغيب أكثر من الترهيب.
المقال يشير أيضًا إلى أن هناك دراسات أكاديمية قديمة وحديثة حول فعالية “نظرية الرجل المجنون”، فبينما كانت النظريات الكلاسيكية، مثل التي طرحها “مكيافيلي”، ترى أن هناك فائدة في إظهار الجنون أحيانًا، فإن الباحثين المعاصرين لديهم آراء متباينة، فبعض الدراسات تشير إلى أن استخدام هذه الاستراتيجية بشكل محدود قد يكون فعالًا، لكن استمرارها يؤدي إلى فقدان المصداقية، وهو ما واجهه (ترامب) حين أدرك القادة الأجانب أسلوبه ولم يعودوا يأخذون تهديداته على محمل الجد.
المقال يثير نقطة محورية: هل يمكن أن يكون التصرف كـ”رجل مجنون” استراتيجية ناجحة في العلاقات الدولية؟ تاريخيًا، اعتمد بعض القادة على هذا الأسلوب، لكنه لم يكن مجديًا دائمًا، فالرئيس الأمريكي السابع والثلاثين “ريتشارد نيكسون” 1969-1974، على سبيل المثال، لم يحقق نجاحًا في فيتنام رغم محاولته ترهيب الخصم بالسلاح النووي، أما (ترامب)، فقد استخدم هذه الاستراتيجية بشكل أكثر صخبًا، لكن هل حصل على نتائج ملموسة؟
الإجابة وفقًا للمقال: ليس تمامًا، صحيح أن أسلوب (ترامب) أثار قلق بعض الحلفاء ودفعهم لتقديم بعض التنازلات، لكنه لم ينجح في إرغام الخصوم مثل الصين وروسيا على تغيير سياساتهم، بل إنه غالبًا ما حاول التودد إليهم بدلاً من ممارسة ضغوط حقيقية عليهم.
يرجح المقال أن (ترامب)، بصفته رئيسًا في ولايته الثانية، سيحاول إعادة تطبيق هذه الاستراتيجية، لكنه قد يواجه تحديات أكبر، فخلال ولايته الأولى، كانت تصريحاته غير المتوقعة تثير صدمة لدى القادة الأجانب، لكنهم اليوم باتوا أكثر دراية بأسلوبه، مما قد يجعل تهديداته أقل تأثيرًا، والأهم من ذلك، أن نجاحه السياسي غير المتوقع، رغم الفضائح والاتهامات الجنائية، قد يجعله أكثر جرأة في اتباع سياسات محفوفة بالمخاطر.
المقال يحذر من أن اتباع هذا الأسلوب قد يكون خطيرًا إذا فقد (ترامب) قدرته على الإقناع، لأن الطريقة الوحيدة لإثبات أنه “رجل مجنون” حقًا، ستكون بتنفيذ تهديداته الأكثر تهورًا، مما قد يؤدي إلى تصعيد غير محسوب في الصراعات الدولية، وربما إشعال نزاعات لا يمكن احتواؤها بسهولة.
يناقش المقال نظرية “الرجل المجنون”، ويخلص إلى أن هذه الاستراتيجية قد تحقق بعض النجاحات المؤقتة، لكنها تفقد فعاليتها مع مرور الوقت، خاصة عندما يدرك الآخرون أنها مجرد تكتيك متكرر، و(ترامب) الذي اعتمد على هذا النهج في ولايته الأولى، سيواصل تطبيقها في ولايته الثانية، لكن العالم بات أكثر دراية بأسلوبه، مما قد يجعلها أقل نجاحًا، وربما أكثر خطورة.
إذا كان التاريخ يعلمنا شيئًا، فهو أن السياسة الدولية لا تتسامح مع “الجنون” طويل الأمد، وأن اللعب بالنار قد يؤدي في النهاية إلى الاحتراق.
وقبل استعراض نص المقال، من المناسب الحديث حول (نظرية الرجل المجنون).
مفهوم نظرية الرجل المجنون:

نظرية “الرجل المجنون” هي استراتيجية سياسية تفترض أن القائد الذي يتصرف بشكل غير متوقع أو يبدو غير عقلاني، قد ينجح في إجبار خصومه على تقديم تنازلات خوفًا من العواقب غير المتوقعة، هذه النظرية تعتمد على جعل الخصم يعتقد أن القائد قد يتخذ إجراءات غير محسوبة أو خطيرة، مما يدفعه إلى الحذر والتنازل.
تعود جذور الفكرة إلى الفيلسوف السياسي “نيكولا مكيافيلي”، ففي كتاب: “Discourses on Livy” أشار إلى أنه «في بعض الأحيان يكون من الحكمة التظاهر بالجنون».
وبرزت هذه النظرية بوضوح خلال الحرب الباردة، حيث استخدمها الرئيس الأمريكي “نيكسون” لإقناع الاتحاد السوفييتي وحلفائه بأنه قد يتخذ قرارات خطيرة وغير متوقعة لإنهاء حرب فيتنام، فوفقًا لمستشاره “هاري روبنز هالدمان” قال “نيكسون”: «أريد أن يعتقد الفيتناميون الشماليون أنني قادر على فعل أي شيء لإنهاء الحرب، حتى لو كان ذلك يعني استخدام الأسلحة النووية».
إلا أن هذه الاستراتيجية لم تحقق نجاحًا ملموسًا، إذ سرعان ما أدرك السوفييت أن “نيكسون” لم يكن جادًا في تهديداته.
ناقش العديد من علماء السياسة (نظرية الرجل المجنون) في العصر الحديث، ومن أبرزهم:
توماس شيلينغ (Thomas Schelling) في كتابه The Strategy of Conflict، أكد أن عدم القدرة على التنبؤ قد يكون ميزة في المفاوضات، حيث يجعل الخصم غير قادر على توقع ردود الفعل.
دانييل إلسبرغ (Daniel Ellsberg) حلل كيف يمكن أن يؤدي التظاهر بالجنون إلى تعزيز الردع النووي خلال الحرب الباردة، لكنه حذّر من المخاطر المرتبطة بفقدان السيطرة.
روزان ماكمانوس (Roseanne McManus) أستاذة العلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا، خلصت في أبحاثها إلى أن هذه الاستراتيجية قد تنجح إذا كانت سمعة القائد كـ”رجل مجنون” ترتبط بموقف معين وليس بشخصيته ككل.
روبرت جيه. أرت (Robert J. Art) وكيلي جرينهيل (Kelly Greenhill) بحثا في كيفية تأثير عدم القدرة على التنبؤ على قرارات الخصوم، مشيرين إلى أن المصداقية عامل حاسم في نجاح هذه الاستراتيجية.
هل هذه الاستراتيجية ناجحة؟
تشير الأبحاث إلى أن “نظرية الرجل المجنون” قد تحقق بعض النجاح في الحالات القصيرة الأمد، لكنها تصبح أقل فاعلية إذا أدرك الخصوم أنها مجرد خدعة، كما أن هذه الاستراتيجية تحمل مخاطر كبيرة، حيث قد تؤدي إلى تصعيد غير محسوب للنزاعات، خاصة إذا قرر القائد تنفيذ تهديداته فعليًا.
نظرية “الرجل المجنون” ليست مجرد مصطلح إعلامي، وليست مجرد تكتيك قديم بل هي أداة سياسية لها جذور فلسفية وتطبيقات عملية، وما زالت تُستخدم من قبل قادة عالميين لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية، وبينما قد تكون فعّالة في بعض الحالات، إلا أن الإفراط في استخدامها قد يؤدي إلى فقدان المصداقية أو حتى اندلاع صراعات خطيرة، في النهاية، تبقى هذه الاستراتيجية سلاحًا ذا حدين في عالم السياسة الدولية.
نص المقال:
“عندما ترشّح (دونالد ترامب) للمرة الأولى لمنصب رئيس الولايات المتحدة في عام 2016، بدا في كثير من الأحيان رجلًا مجنونًا بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، ولم تكن لديه مشكلة في إظهار سخطه خلال الحملة الانتخابية، وخلال مناظرة تمهيدية للحزب الجمهوري عام 2016، اختار أن يبقى غاضبًا، حين قال أنه «يقبل بكلّ سرور ارتداء عباءة الغضب»؛ اعتقادًا منه بأنّ البلاد تعيش في حالة من الفوضى ويديرها أشخاص غير أكفّاء، كما اعتقد عن نفسه أنه شخص مختلف نوعًا ما عن الآخرين، ومشددًا على أنه سيكون رئيسًا مختلفًا لأنه مستعد لأن يكون (مجنونًا) بعض الشيء، وغير متوقع إلى حد ما.

في مقابلة معه، اقتبس وتباهى بقول رجل أعمال آخر عنه: «هناك قدر معيّن من عدم القدرة على التنبّؤ بـ(ترامب) وما سوف يفعله، وهذا أمر رائع»، وفي أوّل خطاب رئيسي له حول السياسة الخارجية خلال تلك الحملة الانتخابية، انتقد السياسة الخارجية للولايات المتحدة خلال سنوات “باراك أوباما”، قائلاً: «يجب علينا أن نكون أمّة يصعب التنبّؤ بما تفعله».
بدا (ترامب) مختلفًا عن رؤساء أمريكا ما بعد الحرب الباردة، لكنّ مشاعره تشبه مشاعر “ريتشارد نيكسون”، الذي كان أيضًا يحب إظهار غضبه بشكل واضح وعلني، وفقًا لمساعده “هاري روبنز هالدمان”، فقد ابتكر “نيكسون” مصطلح “نظرية الرجل المجنون” لتعتقد (فيتنام الشمالية) أنّه قادر على فعل أيّ شيء لإنهاء حرب فيتنام، بما في ذلك استخدام الأسلحة النووية، لكن في وقت لاحق، أنكر “نيكسون” أنّ المفاوضات قد تمّت.
تفترض نظرية الرجل المجنون أن القائد، الذي يتصرف كما لو كان بإمكانه فعل أي شيء، لديه فرصة أفضل لإقناع اللاعبين العالميين الآخرين بتقديم تنازلات لم يكونوا قادرين على تقديمها في الأحوال الطبيعية، وفكرة نظرية (الرجل المجنون) تقوم على أساس فكري يعود تاريخه إلى “نيكولا مكيافيلي” كما أنّ الأدبيات العلمية حول النظرية قد تغيّرت في السنوات الأخيرة، ما يشير إلى أنّه في ظلّ ظروف معيّنة، قد تنجح مثل هذه الحيلة مع شخص في مثل موقف (ترامب)، فهل يمكن لنظرية (الرجل المجنون) التي يتبنّاها (ترامب) أن تكون مجنونة لدرجة أنها قد تنجح؟
تطبيق (ترامب) لنظرية (الرجل المجنون)
في بعض الأحيان، تعمّد (ترامب) خلال فترة ولايته الأولى تعزيز سمعته كرجل مجنون، وكان هذا واضحًا للغاية في تعامله مع الكوريتين الشمالية والجنوبية، وعلى مدار عام 2017، صعّد (ترامب) لهجته تجاه كوريا الشمالية، وصرّح للصحافيين في أغسطس من ذلك العام قائلاً: «من الأفضل لكوريا الشمالية ألّا تطلق المزيد من التهديدات ضدّ الولايات المتحدة، سيواجَهون بالنار والقوة والغضب بطريقة لم يعهدها العالم من قبل».
وفي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد شهر واحد، أطلق (ترامب) على الزعيم الكوري الشمالي “كيم جونغ أون” لقب “الرجل الصاروخي” وأكد أنّ الولايات المتحدة قادرة على «تدمير كوريا الشمالية بالكامل”.
بالإضافة إلى ذلك، امتدّ نهج الرجل المجنون الذي يتبعه (ترامب) إلى كوريا الجنوبية، ففي عام 2017 أيضًا سعت إدارته إلى إعادة التفاوض على شروط اتفاقية التجارة الحرّة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، وقد قال “جوناثان سوان” من موقع “أكسيوس” بأنّ (ترامب) أمر صراحة كبير المفاوضين التجاريين “روبرت لايتهايزر” بإخبار نظرائه الكوريين الجنوبيين أنّ (ترامب) رجل مجنون: «قل لهم: هذا الرجل مجنون جدًا، وقد ينسحب في أيّ لحظة.. أخبرهم أنّهم إذا لم يقدّموا التنازلات الآن، فإنّ هذا الرجل المجنون سينسحب من الصفقة».
كما أشار “سوان” إلى أنّ «الكثير من زعماء العالم يعتقدون بأنّ الرئيس مجنون فعلًا، وأن (ترامب) يَنظُر إلى الجنون باعتباره ميزة»!!
ونتيجة لذلك، توقّف (ترامب) عن السخرية من الرئيس الكوري الشمالي “كيم” مقابل عقد ثلاثة اجتماعات لم تسفر إلّا عن بعض الصور الدعائية، وأُعيد التفاوض على اتفاقية التجارة الحرّة مع كوريا الجنوبية بنجاح، على الرغم من أنّ التغييرات التي طرأت على الصفقة كانت طفيفة، ومع ذلك، يمكن لأنصار (ترامب) أن يكابروا بأنه قد حقق العديد من المكاسب للولايات المتحدة.
وعلى الرغم من كلّ صخبه وهذيانه، فقد نجح (ترامب) في تأمين تنازلات تجارية متواضعة من كوريا الجنوبية ووقف قصير للتجارب الصاروخية التي تجريها كوريا الشمالية، وكلّ ذلك من دون الاضطرار إلى تنفيذ تهديداته المجنونة، بعبارة أخرى، كان يبدو شخصًا غير عقلاني لأسباب عقلانية.
كان هذا مختلفًا عن قيام موظفي (ترامب) ومرؤوسيه بإخبار المراسلين بأنه يتصرف كرجل مجنون، وكانت هذه الخدعة كافية لـ”جيم سكيوتو” من شبكة “سي إن إن” لتأليف كتاب عن سياسة (ترامب) الخارجية بعنوان “نظرية الرجل المجنون – The Madman Theory”.
ووفقاً لكتاب (الخوف – Fear) لـ”بوب وودوارد” فقد أمضى سكرتير موظفي البيت الأبيض “روب بورتر”، ثلث وقته في إقناع (ترامب) بالتخلّي عن أفكاره المتهورة، وخلص “وودوارد” إلى أنّ الولايات المتحدة «كانت مقيّدة بكلمات وأفعال رئيس معقّد عاطفياً ومتقلّب المزاج ولا يمكن التنبّؤ بتصرّفاته».
ومع ذلك، فإنّ فكرة أنّ الرئيس يمكنه تحقيق الربح في السياسة العالمية من خلال التصرّف كرجل مجنون، تعود لفترة أبعد من “نيكسون”، ففي كتاب: (Discourses on Livy) أشار “مكيافيلي” إلى أنه «في بعض الأحيان يكون من الحكمة التظاهر بالجنون»، وفي السنوات الأولى من الحرب الباردة، فكّر الخبيران الاستراتيجيان “دانييل إلسبيرغ” و”توماس شيلينغ” في الفضائل المحتملة لتعزيز الجنون في مواقف المساومة القسرية.
فقال “شيلينغ” في كتاب (استراتيجية الصراع – The Strategy of Conflict): «أن تكون عقلانياً بشكل واضح وراسخ لا يُعدّ ميزة عالمية في الصراعات».
وفي حال اعتقد الآخرون بأنّ الرجل المجنون قد يفعل أيّ شيء إذا لم يحقّق مراده، فإنّ التهديد بالتصعيد يصبح أكثر مصداقيّة، ما يجعل تقديم المزيد من التنازلات لتهدئة التصعيد أمرًا منطقيًا.
لم يدعُ كل من “إلسبيرغ” أو “شيلينغ” على الإطلاق إلى أن يتصرّف رئيس الولايات المتحدة بهذه الطريقة، ولم يكن ليعتقد أيّ منهما أنّ حيلة الرجل المجنون ستنجح بشكل جيّد على المدى الطويل، وإلى وقت قريب، كانت الأدبيات العلمية حول نظرية الرجل المجنون تتشكك بالقدر نفسه في احتمالية نجاحها، حيث إن حيلة “نيكسون” بالتظاهر بالجنون لم تسفر عن أيّ تنازلات، وذلك حسب الكثير من الروايات الأكاديمية والشخصية.
المشاكل التي تواجه “نظرية الرجل المجنون”

اتفاقية أبراهام
إلا أنّ هناك أسبابًا كثيرة تدعو إلى الشكّ في قدرة (ترامب) على تأدية دور الرجل المجنون بفعّالية خلال ولايته الثانية، الأكثر وضوحًا هو أنّ جهود (ترامب) خلال فترة ولايته الأولى في المساومة القسرية ذهبت سدى إلى حد كبير، وكان سجل إدارته الحافل في اتخاذ تدابير اقتصادية قسرية أقلّ من ممتاز، والمهمة الأعظم الذي حقّقها (ترامب) في السياسة الخارجية، وهي (اتفاقية أبراهام)، تعود إلى الإغراءات المقدّمة وليس إلى التهديدات المجنونة.
لقد نجح أسلوب (ترامب) المجنون مع حلفاء الولايات المتحدة بشكل أفضل من خصومها، فهذه الدول، التي أخافتها تهديداته بالانسحاب من التحالفات والمعاهدات التجارية طويلة الأمد، أبدت، على الأقل، بعضًا من مظاهر الطاعة والولاء في العلن، في المقابل كان (ترامب) مشغولًا بمحاولة التقرّب من حكّام الصين وروسيا، ولم يتمكّن من التصرّف بجنون أمامهم، في حين كانت جهوده لاستخدام استراتيجية الرجل المجنون مع إيران متفاوتة، فقد وافق على الضربة الجوية التي قتلت “قاسم سليماني”، قائد فيلق القدس الإيراني، ولكنه بعد ذلك تراجع في اللحظة الأخيرة عن الردّ على الهجمات الإيرانية ضد المملكة العربية السعودية، وفي مقابلة أجريت معه مؤخّرًا، أشار (ترامب) إلى أنّه في هذا الموضوع، كان الشخص الهادئ والعقلاني مقارنة بمستشار الأمن القومي “جون بولتون”.
المشكلة الأخرى هي أن معظم القادة الأجانب أصبحوا الآن على دراية جيدة بأسلوب (ترامب) فسابقًا فشلت خدعة الرجل المجنون مع “نيكسون” لأن المسؤولين السوفييت، الذين كانوا يعرفونه منذ عقود، كانوا يعلمون متى كان يمثل الجنون، وقال أحد المسؤولين السوفييت ذات مرة: «كان السيد نيكسون يبالغ في إظهار نواياه بانتظام».
لقد أصبح (ترامب) أكثر توقعًا بالنسبة لعدد كبير من القادة الأجانب الذين تعاملوا معه في ولايته الأولى، وكما هو واضح، فإن القاعدة الأولى في نظرية (الرجل المجنون) هي أنه ينبغي ألا تتحدث عن استخدام نظرية (الرجل المجنون) لكن توقع أن يظل (ترامب) صامتًا بشأن مثل هذه الأمور، هو ضرب من المستحيل.
لقد أكّدت الأدبيات العلمية، بأنّ المساومة القسرية الناجحة تتطلّب نوعين من الالتزام الجدير بالثقة:
أولًا، يجب على الطرف المُستهدَف أن يصدّق أن الطرف الآخر سينفّذ تهديداته، بغضّ النظر عن مدى تكلفتها.
ثانيًا، يجب أن يصدّق الطرف المُستهدَف أيضًا أنّ الجهة المهدِّدة ستتوقّف وتكفّ عن فرض ضغوطات بمجرّد التوصّل إلى اتفاق، وعليه، فإنّ التصرّف كرجل مجنون قد يجعل النوع الأوّل من الالتزام أكثر قبولًا، ولكنه يجعل النوع الثاني من الالتزام أقلّ قبولًا، فالتصرف كرجل مجنون قد يجعل النوع الأول من الالتزام أكثر مصداقية، لكنه يجعل النوع الثاني أقل مصداقية، أو بعبارة أخرى:
ما مدى احتمال أن يصدق أي قائد عالمي وعود (ترامب) بشأن أي شيء؟ وكما قالت “روزان ماكنوس” أستاذة العلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا في رسالتها الإلكترونية إليَّ: «معظم المجانين لا يستفيدون من صفة الجنون التي يدّعون امتلاكها».
(ترامب) على الأرجح سيحاول تكرار استراتيجيته كرجل مجنون في علاقاته الدولية، لكن من غير المرجح أن تنجح، فـ(ترامب) رجل يتحرك وفق نمط محدود من الحيل، وهذه واحدة منها، وكما قال أحد حلفائه السياسيين خلال ولايته الأولى: «في معظم الأحيان، لا يلعب (ترامب) الشطرنج ثلاثي الأبعاد، بل يأكل القطع فحسب».
المقلق في الأمر هذه المرة، أن (ترامب) قد يعتقد أنه قادر على تنفيذ استراتيجيته، حتى لو لم يصدقه العالم، فنجاحه من كونه مجرمًا مدانًا، إلى رئيس الولايات المتحدة لفترة ثانية، قد يدفعه إلى اتخاذ المزيد من المخاطر، وكما قال أحد مستشاريه لمجلة “بوليتيكو”: «لقد نجا من محاولتي اغتيال، وتم اتهامه جنائيًا عدة مرات، إنه يشعر الآن وكأنه لا يُقهر بصورة غير مسبوقة».المشكلة هي أنه إذا لم يتمكن (ترامب) من إقناع أي شخص آخر بأنه رجل مجنون حقًا، فإن الطريقة الوحيدة لإثبات ذلك هي تنفيذ تهديداته الأكثر تهورًا، وربما ينجح في تحقيق ذلك، لكنه قد يؤدي أيضًا إلى تفاقم الصراعات بشكل خارج عن السيطرة، وهو ما يبدو، بصراحة تامة، فكرة مجنونة للغاية”.