ثقافة وفكر
أخر الأخبار

تنقيب في ثورته اللغوية.. “معجم لغة نزار قباني الشعرية” وكيف جعل الشعر يتخلى عن أرستقراطيته

قال امرؤ القيس في العصر الجاهلي متغزلا: غدائرها مستشزرات إلى العلا/ تضل العقاص في مثنى ومرسل.

وقال لاحقا: وما ذرفت عيناك إلا لتضربي/ بسهميك في أعشار قلب مقتل.

ففهم معنى البيت الثاني بسهولة فيما كان عصيا على الفهم البيت الأول، كونه صعب الكلام والتصور. وكثيرا ما ثارت بين أهل النقد الشعري ومتذوقيه موضوعة اللغة الشعرية وطبيعتها وموسيقاها ومدى تقبل الناس لها وبالتالي تقربهم من شعر محدد يفهمونه وابتعادهم عن آخر لا يدركون معانيه.

ولم تغب هذه الجدلية عن حركة الشعر العربي حتى زماننا المعاصر الذي برز فيه الشاعر الكبير نزار قباني كواحد من الذين تناولتهم هذه المعارك الأدبية. فمع تاريخ صدور ديوانه الأول “قالت لي السمراء” عام 1944، خرج قباني على حركة الشعر العربي بلغة جديدة، صحيحة رشيقة، تحمل جرسا موسيقيا خاصا، تميز بها عن كل مجايليه. البعض قبلها وبعض آخر رفضها، ولكن نزار قباني تابع مسيرته حتى صارت تجربة كاملة لها تكوينها الشعري الخاص، وصارت مخصوصة بشعره، وابتدع بعض أهل النقد بسببها ما سمي لاحقا باللغة الشعرية النزارية.

الفصحى والعامية

حول هذا الموضوع صدر في دمشق حديثا كتاب عن وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب، مؤلف للباحث محمد رضوان الداية حمل عنوان “معجم لغة نزار قباني الشعرية” احتوى على مقدمة في لغة نزار الشعرية خصائصها المكانية والزمانية والحالية.

وجدير بالذكر أن الباحث محمد رضوان الداية متخصص في الأدب الأندلسي من جامعة القاهرة عام 1968. وقد واكب عملية البحث في التاريخ الأدبي العربي بحثا وتحقيقا منذ عقود وله في ذلك العديد من المؤلفات التي تزيد عن السبعين.

يكتب محمد رضوان الداية عن تجربة نزار قباني اللغوية في كتابه “ناقش نزار قباني قضية اللغة، وأطل وهو يحدث قراءه عن اللغة التي ينظم بها شعره. وهي مناقشة تقصد إلى أمرين: أحدهما تصوير حال اللغة في الجمع بين الفصحى التي يتعلم الناس بها ويكتب العلماء والأدباء والشعراء نتاجهم بها والتي تدار بها الندوات وتلقى بها المحاضرت ويجري بها التقاضي والتدوال في القضايا الرسمية (…) وبين العامية التي تتحرك على ألسنة الناس في الحياة اليومية فتؤدي الغرض ويبلغ بها المتكلم والكاتب لو كتب بها الغاية والمقصود”.

ويتابع الداية متمثلا بما قدمه سابقا الكاتب المصري توفيق الحكيم في بيانه الشهير الذي كتبه بمناسبة إصدار مسرحيته الصفقة فيقول الحكيم عن اللغة العصرية التي يجب أن يكون الأدب عليها أنها “لغة مما يستطيع أن ينطقه كل أحد، لغة سليمة يفهمها كل جيل وكل قطر وكل إقليم ويمكن أن تجري على الألسنة، تلك هي لغة المسرحية، قد تبدو لأول وهلة أنها مكتوبة بالعامية ولكن القارئ إذا أعاد قراءتها طبقا لقواعد الفصحى فإنه يجدها منطبقة على قدر الإمكان”، والهدف هو امتلاك لغة وسط بين الفصحى والعامية تكون مفهومة بين كل الناس ومبنية على قواعد صحيحة في اللغة العربية، وهي ما أمكن تسميته لاحقا باللغة الثالثة.

يكتب نزار في هذا المعنى في كتابه “قصتي مع الشعر” واصفا هذه اللغة المبسطة بأنها “تأخذ من اللغة الأكاديمية منطقها وحكمتها ورصانتها ومن اللغة العامية حرارتها وشجاعتها وفتوحاتها الجريئة، وهي تجعل القاموس في خدمة الحياة والإنسان وتبذل ما بوسعها لتجعل درس اللغة العربية في مدارسنا مكان نزهة لا ساحة تعذيب”.

ويرى الداية أن نزار من خلال هذه اللغة وصل إلى أمرين أولهما تنبيه قارئ شعره إلى صنعته الشعرية من ناحية اللغة والأداء وطرائق التعبير عنده، والثاني الاستغراق في طريقته وأسلوبه الخاص به.

ويخلص للقول “وجدنا بين دفتي الديوان شاعرا عربيا متقنا للغة الفصحى مقتدرا على النظم في موضوعات الحياة المختلفة عارفا بأسرار اللغة وخصائصها مطلعا على التراث العربي من الأدب شعره ونثره ومن سائر المعارف والمناشط الفنية”.

شاعر اللغة المبسط

يكتب نزار قباني في تناوله للغة الجديدة “كانت لغة الشعر متعالية بيروقراطية لا تصالح الناس إلا بالقفازات البيضاء ولا تستقبلهم إلا بالقبة المنشأة وربطة العنق الداكنة وكل ما فعلته أنني أقنعت الشعر أن يتخلى عن أرستقراطيته ويلبي القمصان المشجرة وينزل إلى الشارع”.

وكمثال على بساطة لغة نزار قباني يورد الداية مقطعا شهيرا من قصيدته “رسالة من تحت الماء” التي لحنها لاحقا محمد الموجي وغناها عبدالحليم حافظ وصارت من رموز كلاسيكيات الغناء العربي يقول، قباني:

إن كنت صديقي

ساعدني كي أرحل عنك

أو كنت حبيبي ساعدني كي أشفى منك

لو أني أعرف أن البحر عميق جدا ما أبحرت

لو أني أعرف خاتمتي ما كنت بدأت.

ويرى الباحث أن ما يتحكم في طبيعة أسلوب القصيدة مسائل مختلفة: الموضوع المعالج أولا وحال الشاعر ثانيا والجهة التي يوجه إليها الخطاب ثالثا ثم الأفق الذي يرسمه للقصيدة.

ويبين أن شعر نزار تشكل وفقا لذلك في أحد اتجاهين، الأول في نمط الشكل الشعبي المتسم بالسهولة والسلاسة والانسياب والثاني في شكل الأناة والإحكام والجزالة وما بينهما أحيانا. ففي الشكل الأول المتسم بالشعبية والبساطة يورد جزءا من قصيدة غرناطة:

في مدخل الحمراء كان لقاؤنا/ ما أطيب اللقيا بلا ميعاد

عينان سوداوان في حجريهما/ تتوالد الأبعاد من أبعاد

هل أنت إسبانية؟ ساءلتها/ قالت: وفي غرناطة ميلادي

غرناطة، وصحت قرون سبعة/ في تينك العينين بعد رقاد

وفي الجانب الثاني يكتب:

وهل منامتك الصفراء ما برحت/ تفتر عن طيب الأنفاس معطر

ويقول الباحث في شرح ما ذهب إليه الشاعر “المنامة في اللغة موضع النوم والقطيفة والدكان وغيره مما ينام عليه ووضع مجمع اللغة العربية المنامة للبيجاما ولم تشع في الاستعمال وفي المعجم الوسيط المنامة ثوب ينام فيه”.

كما يرى الداية أن قباني تأثر بالبيئة اللغوية الإسلامية، فمن خلال الآية القرآنية في سورة الأعراف “وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم” التي قال القرطبي في تفسيرها في كتابه الجامع لأحكام القرآن “أي بين الجنة والنار حاجز أو سور” وهذه الصورة وجدت في شعر نزار على هيئة:

اختاري الحب أو اللاحب/ فجبن ألا تختاري

لا توجد منطقة وسطى/ ما بين الجنة والنار

 كذلك كتب نزار فيما وردت فيه أفكار في المأثور منها ما قيل في العشق: من عشق فكتم فمات فهو شهيد، وجاءت تلك في شعره:

يا ولدي قد مات شهيدا/ من مات فداء للمحبوب

كذلك استفاد الشاعر من التاريخ والأسطورة في التراث العربي ومن القصص الشعبية وهي التي تؤكد تمكنه من تاريخ ثقافته العربية فكتب في قصيدة “تريدين” وفيها يقول:

تريدين في لحظتين اثنتين

بلاط الرشيد وإيوان كسرى

وقافلة من عبيد وأسرى

تجر ذيولك يا كليوباترا

ولست أنا

سندباد الفضاء

وليس لدي سراج علاء

لآتيك بالشمس فوق إناء

كما تتمنى جميع النساء

موسيقى شعر قباني

للموسيقى في شعر نزار مكانة هامة، يقول الداية “تميز نزار بإحساسه العالي بموسيقى الكلمة مفردة وفي سياق العبارة أيضا، وهذا سوغ للملحنين أن يأخذوا أيديهم إلى دواوينه وتلحينها وعرضها للإنشاد والغناء”. ومن الحس اللغوي العالي استعمال صيغة التصغير بما يناسب مقاصد الكلام كما في قوله من قصيدة “دورة القمر” يقول فيها:

ملتفة بشالها/ لا يرتوي منها النظر

أصبى من الضوء/ وأصفى من دميعات المطر

تخفي نهيدا نصفه/ دار ونصف لم يدر

فقام الشاعر بتصغير الدمعة ترققا وجمعها مصغرة تلطفا ثم صغر النهد تحببا، وهنا يبدو لعبه على إيقاع الكلمة ومعناها من خلال موسيقاها.

ويتابع الباحث “فهو عنون إحدى قصائده بعبارة مذعورة الفستان وواحدة ثانية بـ’كم الدانتيل’ وعنون ثالثة بـ’مانيكور’ وفي رابعة بـ’تلفون’” قال في مطلعلها:ومما جاء في القاموس اللغوي في شعر نزار ما دخل من مفردات دخيلة فوجدت في سياقات تناسب الكلام يقول الداية في ذلك “تكثر هذه الكلمات في أسماء الأنسجة والملابس وأسماء أنواع التطرية والعطور وفي مصطلحات الموسيقى والغناء وفي أسماء النباتات والأشجار والشجيرات وفي أسماء الأشياء الجديدة الطارئة على الحياة المدنية وأسماء الجواهر والأحجار الكريمة”.

همستك الحلوة في الهاتف/ أحلى من المعزف والعازف

وعنون قصيدة له بـ”كريستيان ديور” قال فيها:

شذاي الفرنسي هل أثملك حبيبي فأني تطيبت لك

ويصل بنا الداية إلى ما ابتدعه نزار قباني في قاموسه اللغوي من أصل عربي، فاشتقه أو ارتجله، منها قوله كوم الزهر جمعا لكومة وتهزهز من مادة هز وناهد بدلا من النهد ومعطور بدلا من معطر ومئذنات بدلا من مآذن.

قاموس لغوي نادر

لغة نزار هي ليست اللغة الثالثة فحسب بل ما دخلها كثير من الترصيعات من كلام الناس الدمشقي والشامي الشعبي والدخيل والمبتدع وكل هذا بحسب الباحث الداية ما كوّن خصوصية القاموس اللغوي في شعر نزار قباني. وخصص الكتاب جزءه الثاني في تدوين القاموس الشعري الذي خرجت به لغة نزار قباني. وجاء في هذا القاموس ما كان كتبه قباني في قصيدة “سيمفونية على الرصيف”:

أنا هنا وفي يدي ثروة/ عيناك والليل وصوت البيان

والبيان هو البيانو وبحسب رضوان الداية كان قباني من السباقين لاستعمال هذا التعريب الذي كتب عنه في المعجم الوسيط “البيان آلة موسيقية لها أصابع بيض وسود ينقر عليها بالأنامل”. وفي المورد الحديث جاءت “البيان، البيانة، البيانو وهي كلمة معربة ومولدة”.

وفي مثال آخر من القاموس يظهر كيف تعامل نزار مع كلمة حدقة، بمعنى حدقة العين، فكتب في قصيدة “خمس رسائل إلى أمي”:

دمشق دمشق يا شعرا

على حدقات أعيننا كتبناه

ويقول الداية “وحدقات في هذا الشعر جمع حدقة على ما أراد نزار. وفي كتب اللغة الحدقة: السواد المستدير وسط العين، والجمع: حدق وحداق وجمع الجمع أحداق”.

فقول نزار حدقات جمعا لحدقة من اقتراحه هو وقد ذكر الأحداق وقال في قصيدة “رسالة من تحت الماء”:

علمني كيف تموت الدمعة في الأحداق

علني كيف يموت الحب وتنتحر الأشواق

ويورد الداية استعمال قباني كلمة ريشة قبل أن يقرها مجمع اللغة العربية. فكتب في قصيدة “حبيبي”:

محاسن لا ضمها كتاب ولا أبدعتها ريشة الأديب

والريشة قلم مركب من نصاب من الخشب ونحوه وسن من المعدن ونحوه يكتب به، أدرجه المجمع اللغوي في ما يدخل المعجم العربي. كذلك اشتق نزار قباني دلالة لغوية خاصة به، فكتب:

أين الزمان وقد غصت خزانتها/ بكل مستهتر الألوان معطور

 وجاء في المعجم الوسيط عطّر يعطّر عطرا، تطيب بالعطر وعطره طيبه بالعطر فهو معطر واشتق نزار مفعولا (معطورا) للدلالة على معطر وهو من ابتداعه.

-نضال قوشحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى