ترجمة موقع تبيان عن الجارديان
في قلب قطاع غزة، يقع مخيم جباليا، الذي كان وما زال رمزًا للصمود والحياة رغم شظف العيش، هنا، أرض مكتظة بالسكان وممتلئة بالآمال، عاش آلاف اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجِّروا قسرًا من قراهم ومدنهم عام 1948م، المخيم، الذي حمل أجيالًا من الأحلام والآلام، تحوّل إلى مشهد مروع من الدمار والخراب.
لم تكن حياة سكان مخيم جباليا سهلة أبدًا؛ فقد واجهوا على مدى عقود حصارًا خانقًا ونقصًا في الموارد الأساسية. ومع ذلك، ظلوا يحتفظون بالأمل في وجه المعاناة، لكن هذا الأمل لم يصمد أمام آلة الحرب الإسرائيلية التي شنت هجومًا كاسحًا في أكتوبر 2023م، حوّل المخيم إلى مقبرة للأحياء وجعله أثرًا بعد عين.
كنا نعيش وسط الخوف والرعب، نتشبث بالحياة بكل ما لدينا، لكن كل شيء انتهى في لحظة. أحلام التلولي إحدى الناجيات من القصف، تصف الكارثة التي حلت بالمخيم.
الدمار لم يقتصر على المباني والبنية التحتية، بل طال أرواح الناس، فقد دمرت الغارات المنازل فوق رؤوس ساكنيها، وأحالت الأسواق والمدارس والعيادات إلى ركام، أطفالٌ كانوا يلعبون في الأزقة، تحولوا إلى ضحايا تحت الأنقاض. عائلاتٌ شُرِّدت، وآخرون فقدوا كل شيء، حتى أحباءهم.
حول ما يجري في مخيم جباليا نشرت صحيفة “الجارديان” البريطانية تحقيقًا موسّعًا قبل أيام، شارك فيه طاقم من 7 صحفيين، سلطت فيه الضوء على تحويل الكيان المحتل مخيم جباليا للاجئين في شمال قطاع غزة إلى أكوام من ركام، في ظل حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ 14 شهرًا.
واستندت الصحيفة في تقريرها إلى روايات شهود العيان، وصور الأقمار الصناعية، ومقاطع الفيديو، كاشفة أن الحملة الإسرائيلية المدمرة في مخيم جباليا، تم تنفيذها على ثلاث مراحل، مما أدى إلى تحويل المخيم إلى أرض قاحلة مليئة بالأنقاض لا يمكن التعرف عليها.
هذا التحقيق لا ينقل فقط شهادات الناجين وصور الأقمار الصناعية التي توثق حجم الكارثة، بل يروي قصة إنسانية عن الألم والمعاناة، يحكي عن الأمهات اللواتي فقدن أطفالهن، وعن العائلات التي عاشت أيامًا من الجوع والتشرد والخوف، يحكي عن سكان جباليا الذين وقفوا أمام مشاهد الدمار وقد تُركوا بلا وطن، بلا مأوى.
لكن قبل استعراض نص تحقيق صحيفة الجارديان، من المناسب التعرف على تاريخ مخيم جباليا وقصته.
مخيم جباليا: مخيم .. في وجه آلة الإبادة
أحد أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة، أُنشئ بمحاذاة بلدة جباليا بعد نزوح آلاف الفلسطينيين إليه قادمين من قرى ومدن جنوب فلسطين عقب النكبة عام 1948م، تشرف وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين (الأونروا) على مختلف الخدمات الاجتماعية المقدمة لسكان المخيم، الذي يعاني من الاكتظاظ.
يقع مخيم جباليا في الشمال الشرقي لقطاع غزة بمحاذاة مدينة تحمل الاسم ذاته، وعلى مسافة كيلومتر واحد عن الطريق الرئيسية غزة-يافا، تحده من الشمال قرية بيت لاهيا ومن الجنوب والغرب مدينة جباليا وقرية النزلة ومن الشرق بساتين الحمضيات.
يرتفع المخيم على سطح البحر حوالي 30 قدمًا، ويبعد عن مدينة جباليا مسافة كيلومتر تقريبًا، وهو من أقرب المخيمات إلى معبر إيريز المنفذ الوحيد لسكان غزة إلى الكيان المحتل.
سُميّ المخيم نسبة إلى مدينة جباليا التي يقع بمحاذاتها، وهو اسم مشتق من الجبل بحسب بعض المصادر، فيما تقول مصادر أخرى إنه مشتق من كلمة “أزاليا”، البلدة الرومانية القديمة التي بُنيت عليها قرية النزلة.
نشأة المخيم:
بدأ أوائل اللاجئين الفلسطينيين يستقرون في المخيم بعد نكبة 1948م، وأشرفت عليه جمعية “الكويكرز” البريطانية ووزعت الخيام على اللاجئين إلى حين تأسيس وكالة الأونروا، بناء على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 302 الصادر في 6 ديسمبر 1949م.
شهد قطاع غزة عام 1950م شتاءً قارصًا وعاصفًا أدّى إلى اقتلاع جميع الخيام وتشريد العائلات النازحة، فاستعاضت الأونروا -التي شرعت في عملها في العام نفسه- عن الخيام ببيوت صغيرة من طابق واحد مبنية من الإسمنت وألواح الزينكو، وكانت الوحدات السكنية متكدسة ومتقاربة لا تفصلها سوى أزقة ضيقة تتحول إلى طرقات موحلة في فصل الشتاء.
لم تكن تلك الغرف تحتوي على دورات مياه، بل كانت في الشوارع، إذ تم تخصيص قسم منها للنساء وقسم للرجال، ولم تكن كافية للسكان، مما دفعهم إلى إدخال إصلاحات على تلك الغرف وإضافة غرف ومراحيض ومطابخ وبناء طوابق جديدة بطريقة عشوائية.
عدد السكان:
استقر في المخيم بعد النكبة 35 ألف لاجئ، معظمهم كانوا قد هُجروا من القرى والمدن الواقعة جنوب فلسطين، مثل اللد والرملة ويافا وبئر السبع وأسدود، ويتوزعون على 5587 عائلة.
ارتفع عدد السكان عام 1995م إلى حوالي 80.137 نسمة، أما في عام 2023م فيكشف الموقع الرسمي للأونروا أن عدد سكان المخيم بلغ 116.011 نسمة، يتوزعون على مساحة لا تتجاوز 1.4 كيلومتر مربع.
تعرض السكان للترحيل القسري على مدار السنوات، ففي عام 1970م رحّلت إسرائيل حوالي 975 عائلة من سكان المخيم إلى مشروع بيت لاهيا والنزلة المتاخم لحدود المخيم، وفي عام 1971م عملت على هدم وإزالة ما يزيد عن 3600 غرفة تسكنها 1173 عائلة، بدعوى توسيع أزقة وطرقات المخيم حتى تتمكن سيارات جنود الاحتلال العسكرية من دخول المخيم وتَعقّب عناصر المقاومة.
منطلق الانتفاضة الأولى:
الانتفاضة الأولى:
انطلقت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى المعروفة كذلك باسم انتفاضة الحجارة من مخيم جباليا في 8 ديسمبر 1987م، عندما دهس سائق شاحنة إسرائيلي مجموعة من العمال الفلسطينيين عند حاجز إيريز، مما أسفر عن استشهاد 4 عمال وجرح 7 آخرين، وتحولت جنازة الضحايا إلى مظاهرات كبيرة سرعان ما انتشرت في جميع أنحاء قطاع غزة والضفة الغربية، واستمرت هذه الانتفاضة إلى حين توقيع اتفاق أوسلو بين الكيان المحتل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993م.
وتشرف وكالة الأونروا على مختلف الخدمات الإغاثية في المخيم، إذ تدير 32 منشأة تابعة لها، وحسب بياناتها يوجد فيها 16 مدرسة تعمل 6 منها بنظام الفترة الواحدة و10 تعمل بنظام الفترتين (صباحي ومسائي)، إلى جانب 3 مراكز صحية، ومركز توزيع أغذية، ومكتبة عامة، و7 آبار، ومكتب صيانة وصحة بيئية.
يعيش سكان المخيم ظروفًا اجتماعية متدنية وقاسية بسبب الاكتظاظ السكاني وضيق المساحة، وترتفع معدلات البطالة فيه، إذ يعتمد معظم السكان على المساعدات الغذائية والنقدية التي تقدمها الأونروا لتغطية احتياجاتهم اليومية، كما يعانون من انقطاع الكهرباء المتكرر ومن تلوث إمدادات المياه، إذ إن 90% من المياه غير صالحة للاستهلاك البشري.
معقل المقاومة المستهدف:
يعد مخيم جباليا أحد المعاقل الرئيسية للمقاومة الفلسطينية، مما يجعله مستهدفًا من إسرائيل في كل عملياتها العسكرية بغاية إخضاع سكانه وكسر شوكة المقاومة، وكان المخيم ساحة مفتوحة لعمليات قصف واغتيالات ومجازر لسنوات، كما تعرض المخيم طيلة عقود لمجازر سقط فيها مئات المدنيين، ودمرت خلالها المباني السكنية والمؤسسات المدنية والخدماتية؛ ما زاد من استفحال ظروف الحياة في المخيم.
ونفذت إسرائيل عملية عسكرية أطلقت عليها “أيام الندم” عام 2004م بدعوى تأمين منطقة عازلة؛ لحماية المستوطنات الإسرائيلية من صواريخ كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، وقصفت خلال هذه العملية المخيم لمدة 17 يومًا، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 100 فلسطيني وتشريد أكثر من 600 وتدمير مئات المباني السكنية والمؤسسات المدنية والصحية والخدماتية.
وفي عام 2005م استهدفت إسرائيل عرضًا عسكريًّا لحركة حماس في المخيم بـ4 صواريخ، مما أسفر عن استشهاد 19 شخصًا بينهم طفلان وإصابة حوالي 80 آخرين بجروح.
وفي يوليو 2014م ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي مجزرة في مخيم جباليا بعدما قصفت مدرسة تابعة لـ”الأونروا” احتمى بها حوالي 3000 فلسطيني مما أدى إلى استشهاد 20 شخصًا وإصابة أكثر من 50 آخرين.
ومع انطلاق العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عقب عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023م، تعرض مخيم جباليا لاستهداف ممنهج من الاحتلال الإسرائيلي، إذ ارتكب فيه الكثير من المجازر.
وارتكب سلاح الجو الإسرائيلي “مجزرة الترانس” يوم 9 أكتوبر 2023م، إذ قصف السوق الشعبي الرئيسي بالمخيم بالقنابل الثقيلة مما أدى إلى استشهاد حوالي 50 مدنيًّا وتدمير عدد كبير من المنازل وممتلكات المواطنين.
وشهد المخيم مجزرة أخرى في 31 أكتوبر 2023م بعد أن دمّر سلاح الجو الإسرائيلي مربعًا سكنيًّا قرب المستشفى الإندونيسي بشكل كامل، وأسفر القصف عن سقوط أكثر من 400 مدني بين شهيد وجريح. وذكرت كتائب القسام أن 7 من المحتجزين لديها من الإسرائيليين قُتلوا في هذا القصف بينهم 3 ممن يحملون الجوازات الأجنبية.
وفي 18 نوفمبر 2023م تعرضت مدرسة الفاخورة التي كان يحتمي بها آلاف النازحين لقصف إسرائيلي عنيف أدى إلى استشهاد 200 فلسطيني، وأدان عدد من الهيئات الدولية والدول هذه المجزرة ودعوا لفتح تحقيق فيها.
وليست هذه المرة الأولى التي تتعرض فيها مدرسة الفاخورة -وهي أكبر مدارس مخيم جباليا- للقصف، إذ قصفها الاحتلال في 2009م مما أدى إلى استشهاد أكثر من 40 مدنيًا، وقصِفت أيضًا عام 2014م واستشهد فيها أكثر من 10 مدنيين.
وفي 2 ديسمبر 2023م استشهد أكثر من 100 شهيد في مجزرة جديدة ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في المخيم، حيث قصفت طائراته بناية سكنية تعود لعائلة آل عبيد بصاروخ وكانت البناية تؤوي عددًا من العائلات والنازحين من المخيم.
نص تحقيق الجارديان:
جباليا .. “مخيم” في مواجهة “دولة إبادة”
“في صباح يوم 9 أكتوبر 2023م، كانت منطقة الترانس في السوق المفتوح في مخيم جباليا للاجئين تعج بالحركة، وهذا بعد يومين من بدء حرب غزة التي اندلعت بسبب الهجوم المفاجئ لحماس على إسرائيل، ولم تكن المنطقة قد تعرضت لقصف الطائرات الإسرائيلية بعد.
تأسس المخيم، الواقع شمال المدينة التي تحمل الاسم نفسه، في عام 1948م، ورغم أنه لا يزال من الناحية الفنية مخيمًا للاجئين، إلا أنه أصبح في العقود التالية غير قابل للتمييز إلى حد كبير عن بقية المناطق الحضرية في شمال غزة فهو مكتظ بالسكان ومزدحم، بالإضافة إلى السوق الكبير المفتوح في وسطه، كانت هناك مطاعم ومدارس وفريقان لكرة القدم ومخابز وعيادات.
بين الساعة 10.30 صباحًا و11.30 صباحًا في 9 أكتوبر 2023م، مزقت خمس غارات جوية إسرائيلية السوق، مما أسفر عن مقتل العشرات من الناس، وكانت هذه الضربات الجوية بمثابة البداية لحملة إسرائيلية مدمرة، أُجريت على ثلاث موجات، والتي تركت المخيم أرضًا قاحلة من الأنقاض لا يمكن التعرف عليها.
قالت “أحلام التلولي” البالغة من العمر 33 عامًا، التي تأتي من منطقة تل الزعتر في المخيم: «هذا العام هو أحد أسوأ الأعوام التي مررت بها، لقد عشنا الدمار والقتل والجوع والنزوح والخوف والإرهاب والحصار، كل دقيقة تمر تبدو وكأنها عام كامل».
الهجوم الأول .. التضور جوعًا:
الهجوم الأول على جباليا:
الهجوم الأول على جباليا تم في أكتوبر 2023م – يناير 2024م، وتعرض لقصف جوي في الأشهر الأولى من الحرب، وأسفرت أعنف الغارات الجوية، في 31 أكتوبر، عن مقتل العشرات من الناس وترك حفر كبيرة في الأرض عند تقاطع مزدحم.
قالت إسرائيل إن المخيم كان مركزَ قيادةٍ للواء حماس الشمالي، وإنها حددت أنظمة أنفاق حماس تحت المخيم، وطلبت من المدنيين في جميع أنحاء شمال غزة التوجه جنوبًا، لكنّ الكثيرين لم يتمكنوا أو لم يكونوا راغبين في القيام بذلك.
هذا ما تؤكده “أحلام التلولي”: «كان والدي في المنزل ولم يكن بإمكانه المغادرة لأنه أصيب وبترت ساقه، وحتى لو أردنا المغادرة، لم يكن لدينا المال للذهاب إلى أي مكان أو إدارة احتياجاتنا».
في 8 نوفمبر، دخلت قوات جيش الاحتلال المخيم، وأكدت “أحلام التلولي” أنه بحلول ذلك الوقت، لجأ جميع أفراد الأسرة باستثناء والدها إلى المدارس التي تديرها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، قائلة: «كنا نتناوب على العودة إلى المنزل للاطمئنان على والدنا، وذات يوم عندما كانت زوجة أبي عائدة إلى المدرسة، قُتلت برصاص قناص، وبعد بضعة أيام، قُتل والدي برصاص قناص أيضًا».
وكشفت “أحلام التلولي”: أنه «مع اشتداد القتال، اضطرت الأسرة إلى الانتقال من مدرسة إلى أخرى.. كنا نتضور جوعًا وبلا طعام، وحتى عندما كان الطعام متاحًا، لم يكن لدينا المال لشرائه».
في 12 ديسمبر، أعلن وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك، يوآف جالانت، أن القتال في جباليا قد انتهى، مع القضاء على مئات من مقاتلي حماس، بينما قال جيش الاحتلال إن القدرات العسكرية لحماس قد تم تفكيكها، وفي أواخر يناير، انسحبت “إسرائيل” من المخيم.
الهجوم الثاني .. كل المنازل أصبحت أنقاضًا
الهجوم الثاني على جباليا:
أما الهجوم الثاني فقد كان في مايو 2024م، واستمرت الاشتباكات المتقطعة طيلة شهر يناير على الرغم من مزاعم “إسرائيل” بهزيمة حماس في جباليا أظهر مقطع مصور في أبريل حجم الأضرار التي لحقت بالمباني على طول طريقين في المخيم.
في 11 مايو، أفاد جيش الاحتلال أن حماس تمكنت من إعادة بناء قدراتها العسكرية، وأصدر جولة جديدة من أوامر الإخلاء للمدنيين، وبعد يومين، بدأ غزو كامل النطاق.
“أم صهيب صيام”، أرملة تبلغ من العمر 42 عامًا وأم لثلاثة أطفال، حُوصرت في منزلها في منطقة الفاخورة في بلوك رقم 9 عندما بدأ الهجوم الثاني، وتتذكر “أم صهيب صيام” اليوم الذي قررت فيه المخاطرة بمغادرة منزلها، الذي أصيب بقذيفة مدفعية، مما أدى إلى إصابتها وأطفالها، فانتقلت الأسرة إلى عيادة قريبة وبقيت هناك لمدة يومين حتى حاصرها الجيش الإسرائيلي، وتتذكر رجلًا ظهر بمكبر صوت قائلًا إنه يجب إخلاء العيادة لأن المبنى على وشك أن يتم قصفه، قائلة: «بدأ يدلنا على الطريق وهو يتحدث على الهاتف، بينما حلقت فوقه طائرة “كوادكوبتر” مررنا وسط المخيم بجوار السوق الرئيسي، على طول شارع عودة إلى نادي الخدمات لكرة القدم».
وبحلول الوقت الذي انسحبت فيه القوات الإسرائيلية بعد ثلاثة أسابيع -مدعية مرة أخرى أنها فككت حماس- ورد أن 70 بالمئة من مباني المخيم تعرضت لأضرار جسيمة، أظهرت فيديوهات المسيرات التي تم تصويرها في يونيو 2024م مدى الدمار، وشهد حي الفاخورة أسوأ دمار كما قالت “أم صهيب صيام”: «كانت جميع المنازل في حالة خراب أو سويت بالأرض، لم يسلم أي منزل أو شخص أو شجر أو حجر».
الهجوم الثالث.. جباليا أصبحت جحيمًا:
وجاء الهجوم الثالث في أكتوبر 2024م وهو مستمر حتى الآن، وكان الضرر الجسيم الذي لحق بجباليا خلال الهجوم الثاني لا يقارن بالدمار الذي حدث منذ 5 أكتوبر، عندما عادت القوات الإسرائيلية بأعداد كبيرة للمرة الثالثة.
وخلال الهجوم الذي استهدف مدينة جباليا والمخيم، هدمت مجموعات كاملة من المباني، واستبدلت في بعض المناطق بممرات مهدمة بالجرافات لاستيعاب الدروع الإسرائيلية وسواتر الدبابات، وفي بعض الحالات هدمت المنازل بعبوات الهدم، وفي لقطات نشرت على الإنترنت في الأسابيع الأخيرة، يمكن رؤية الجرافات والحفارات الإسرائيلية وهي تهدم المباني.
اختفت بعض الأحياء بالكامل تقريبا، بما في ذلك بلوك رقم 4، الذي يضم المجمع المدرسي الرئيسي في المخيم.
قال “محمود بصل” 39 عامًا مسؤول في الدفاع المدني: «هناك جثث على الطرق وتحت الأنقاض، إنه تدمير كامل».
وكان مقر نادي “الخدمات” الرياضي، الذي تأسس في عام 1951م، الذي ضم فرق كرة القدم وكرة السلة والكرة الطائرة، قد نجا من العمليات السابقة واستخدم لفترة من الوقت كمأوى للنازحين، لكن في مرحلة ما خلال الهجوم الثالث، تم تطهير ملعب كرة القدم، حيث أصبح الآن مقرًا للعديد من المركبات العسكرية الإسرائيلية.
وقال “خالد العيلة” 54 عامًا، وهو محاضر جامعي: «الوضع في جباليا أشبه بالجحيم، يتم هدم المنازل فوق رؤوس السكان، كل ما تراه هو الدمار، لم يتبق شيء، لا منازل ولا مدارس ولا جامعات ولا مستشفيات.. لا شيء».
وقال “سام روز” نائب المدير الأول لشؤون الأونروا في غزة: «إن العمليات الإسرائيلية الأخيرة كانت مختلفة تمامًا عن الصراعات السابقة في المنطقة، هذه المرة يقومون بتسوية المكان بالأرض، لقد أصبح غير صالح للسكن».
وأضاف: «لقد زرت اليرموك (المخيم الفلسطيني في دمشق الذي دمر بشدة في عام 2015) لكن هذا أسوأ بعشرين مرة!! لا أعتقد أن الجيش الإسرائيلي لديه خطة سوى الاستمرار في التدمير، لديه زخم رهيب».
سياسة الأرض المحروقة:
ويكشف مراقبون آخرون أجندة أكثر عمدًا في جباليا وفي جميع أنحاء شمال غزة: التنفيذ البطيء لسياسة الأرض المحروقة المعروفة باسم “خطة الجنرالات”، والتي تهدف إلى طرد المدنيين من المناطق من خلال إعلانها “مناطق عسكرية مغلقة” حيث يعتبر أي شخص يبقى هناك مقاتلًا مستهدفًا بالقتل، ويتم قطع جميع المساعدات والإمدادات الأخرى.
بغض النظر عن النية الإسرائيلية، فقد حدث تدمير واسع النطاق للأحياء في جميع أنحاء شمال غزة، بما في ذلك مخيم جباليا.
في الأسابيع الأخيرة، كشفت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية عن وثيقة تم توزيعها على الجنود الإسرائيليين المقاتلين، تتحدث عن “كشف مناطق واسعة” وهو تعبير ملطف، كما تقول الصحيفة، لتدمير المباني والبنية الأساسية بطريقة لا يستطيع مقاتلو حماس الاختباء فيها، ولكن لا يستطيع أحد أن يعيش فيها أيضًا.
قالت “نادية هاردمان” الباحثة في منظمة “هيومن رايتس ووتش” إن منظمتها حددت نمطا في جباليا وفي مختلف أنحاء الشمال بقيام القوات الإسرائيلية بإخلاء الأراضي لإنشاء مناطق عازلة وممرات أمنية.
وأضافت “هاردمان”: «يمكن للناس أن يجادلوا فيما إذا كانت حملة القصف تدميرًا متهورًا أو جزءًا من الأعمال العدائية، ولكن السيطرة على منطقة وتدميرها عمدًا تبدو أكثر منهجية ووضوحًا».
وفي بيان، قال الجيش الإسرائيلي: «يعمل الجيش حاليًا في شمال غزة ضد أهداف إرهابية بسبب جهود حماس لاستعادة قدراتها العملياتية في المنطقة، جيش الدفاع الإسرائيلي يستهدف الأهداف العسكرية فقط، وتخضع الضربات التي تستهدف الأهداف العسكرية للقانون الدولي ذي الصلة، بما في ذلك اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين».
وحتى المراقبون الإسرائيليون عن كثب يكافحون لفهم لماذا هذا التركيز الكبير على جباليا، يقول “مايكل ميلستين” من مركز “موشيه ديان” بجامعة تل أبيب:
«إنه لغز، أحاول أن أفهمه بنفسي، نحن جميعا ندرك أن هذه العملية لا تهزم حماس، التي من الواضح أنها لا تزال موجودة، حتى في جباليا».
“محمد ناصر” 48 عامًا، من تل الزهار، الذي كان يعمل مشغل كاميرا تلفزيونية يقول: «من الصعب أن نرى ما يمكن تدميره أكثر، فلم تتسبب الحروب السابقة في دمار مثل هذا، لقد اختفت المنازل والشوارع والمرافق الصحية والتعليمية.. كل شيء ذهب»“.