ثقافة وفكر
أخر الأخبار

جذور التفكير اليوتوبي في ‘المدينة الفاضلة عبر التاريخ’

تنوعت النماذج اليوتوبية عبر التاريخ، فتم التعبير عنها في أشكال أدبية مختلفة، منها المقالة والقصة والرواية والقصيدة، أو في شكل نظريات سياسية تقدم صورة نظام سياسي نموذجي بمؤسساته المختلفة، مع تصور كامل لكل تنظيمات الحياة “كما عند توماس مور أول من صاغ كلمة يوتوبيا ووضعها عنوانًا لكتاب له هو أشهر يوتوبيا في العصر الحديث” أو في بعض نظريات فلسفة التاريخ “كما عند كوندورسيه”.

 وهذا الكتاب “المدينة الفاضلة عبر التاريخ” للناشطةٌ السياسية الأناركية ماريا لويزا برنيري، الذي صدرت ترجمته الأولى عام 1997 للمترجمة د.عطيات أبو السعود، ومراجعه د.عبد الغفار مكاوي، صدر طبعته الثانية أخيرا عن مؤسسة هنداوي عام 2023. ترجع أهميته كونه يلقي الضوء على جذور التفكير اليوتوبي، حيث تتبعت المؤلفة رحلته الشاقة والمشوقة بدءًا من أفلاطون إلى العصر الحاضر. ومما يزيد من أهميته أن المؤلفة تناولت بعض اليوتوبيات التي كادت تسقط في أعماق النسيان، كما تعرضت لتلك التي لم يُلتفت إلى أهميتها في عصرها ولا في العصور اللاحقة. وعلى الرغم من ارتباط الكتاب بظروف تأليفه “أي في السنوات التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية، والانتصار على النازية والفاشية، والكشف عن فظائع الشمولية الستالينية” فإنه لا يزال يحتفظ بقيمته وأهميته في الأدبيات اليوتوبية التي توالت بعد ذلك في صور وأشكال لا حصر لها.

تقول أبو السعود أن الكتاب كان مشروعه الأصلي هو تقديم أهم النصوص اليوتوبية التي تعد علامات أساسية على طريق الفكر اليوتوبي، غير أن المؤلفة آثرت الجمع بين أكبر قدر ممكن من النصوص وبين التحليل والتفسير والنقد، وهو الشيء الذي لم تُوفق فيه دائمًا، إذ أسرفت في كثير من الأحيان في اقتباس النصوص غير المعروفة وغير المتاحة، على حساب التحليل والنقد والتقييم. ويقدم الكتاب نماذج من مجتمعات يوتوبية متنوعة، ربما يتشابه بعضها في جوانب عديدة مع البعض الآخر، وربما تختلف الظروف والرؤى اليوتوبية فيها اختلافًا بيِّنًا، وتتنوع اجتهادات أصحابها في تقديم الحلول لمشاكل مجتمعاتهم. ولكن العامل المشترك الذي يجمع معظم هذه اليوتوبيات هو طابع الشمولية وإلغاء الفردية وقهر الحرية في مجتمعات يفترض أنها مثالية، في حين أن حرية التفكير والتعبير واحترام الفرد هما أساس المجتمع الأفضل وغاية الإنسان في كل زمان ومكان. وربما يخرج القارئ في نهاية الكتاب بانطباع يائس عن اليوتوبيا وتحولاتها ومصيرها، غير أن هذا يؤكد حقيقة مهمة، وهي أن الكتابات اليوتوبية تقع في خطأ فادح عندما تتوهم أنها تقدم لنا تصورات نهائية عن مجتمعات كاملة ومنظمة بشكل آلي، لأنها ستكون بالتأكيد مجتمعات مغلقة وخانقة وخالية من نسمات الحرية. وربما يكون من أهم الدروس المستفادة من هذه الرحلة في أرجاء المجتمعات اليوتوبية أنه ليس هناك مجتمع أو تصور يوتوبي كامل أو تام من كل ناحية، بحيث يمكن تطبيقه على كل المجتمعات وفي كل مكان أو زمان. فلكل عصر متطلباته، ولكل مجتمع احتياجاته المتجددة باستمرار، مما يحتم على الكُتَّاب اليوتوبيين أن يقدموا رؤًى وتصورات لمجتمع قابل للتجدد.

وترى المؤلفة ماريا لويزا برنيري أنه ليست كل اليوتوبيات كانت ثورية وتقدمية. وتقول “كانت الغالبية العظمى منها تجمع بين الصفتين، ولكن القليل منها كان ثوريًّا بشكل كامل. كان الكُتَّاب اليوتوبيون ثوريين عندما دافعوا عن مشاعية السلع في وقت كانت تُعَدُّ فيه الملكية الخاصة مقدسةً، وعن حق كل فرد في الحصول على لقمة العيش في وقت كان يُشنَق فيه الشحاذون، وكانوا ثوريين عندما دافعوا عن المساواة بين الرجل والمرأة في عصور كانت تُعتَبر فيها المرأة أفضل قليلًا من العبيد، وعن كرامة العمل اليدوي الذي كان يُنظَر إليه على أنه عمل مهين أو مخزٍ، وعن حق كل طفل في طفولة سعيدة وتعليم جيد، بعد أن كان ذلك الحق مقصورًا على أبناء النبلاء والأغنياء. كل هذا ساهم في جعل كلمة يوتوبيا مرادفة للسعادة أو مرتبطة بها، وجعلها شكلًا اجتماعيًّا مرغوبًا فيه. وفي هذا المقام تمثل اليوتوبيا حلم الجنس البشري بالسعادة، واشتياقه الخفي للعصر الذهبي، أو لجنَّته المفقودة كما تصور البعض. بيد أن هذا الحلم كانت له جوانبه المظلمة. فقد كان هناك عبيد في جمهورية أفلاطون، وفي يوتوبيا مور. وكانت هناك جرائم قتل جماعية للعبيد في أسبرطة ليكورجوس، وحروب، وإجراءات ونظم صارمة، وتعصب ديني، جنبًا إلى جنب مع المؤسسات التنويرية إلى حد كبير. هذه الجوانب التي لم يلتفت إليها في الغالب المدافعون عن اليوتوبيات التي كانت تهدف إلى تحقيق الحرية الكاملة.

وتوضح أن هناك اتجاهين رئيسيين يتكشَّفان في الفكر اليوتوبي عبر العصور: اتجاه يبحث عن سعادة الجنس البشري من خلال الرفاهية المادية، وإذابة فردية الإنسان في المجموع وفي مجد الدولة. واتجاه آخر يتطلب درجة معينة من المادية، لكنه يعتبر أن السعادة هي نتيجة التعبير الحر عن شخصية الإنسان، ويجب ألا يضحي بها لأجل قانون أخلاقي استبدادي أو لمصالح الدولة. وتتطابق هاتان النزعتان مع التصورات المختلفة للتقدم، لأن اليوتوبيات المضادة للنزعة التسلطية تقيس التقدم، كما يرى هربرت ريد “عن طريق درجة التمايز داخل المجتمع. فإذا كان الفرد وحدة في كتلة المجموع، فإن حياته لا تكون فظة وقصيرة فحسب، بل تكون كذلك حياة متبلدة وآلية. وإذا كان وحدة في ذاته، أي لديه المجال والإمكانية للعمل المستقل، فربما يكون أكثر خضوعًا للمصادفة والحظ، ولكنه سيستطيع على الأقل أن ينمو ويعبر عن نفسه. وسوف يمكنه أن يتطور في الوعي بالقوة والحيوية والبهجة”. ولكن هذا، كما يؤكد أيضًا هربرت ريد، ليس تعريفًا للتقدم “فهناك العديد من البشر الذي يجدون الأمان وسط الأعداد الكبيرة، ويجدون السعادة في أن يبقوا مجهولين، والكرامة في العمل الروتيني. إنهم لا يسعون إلى شيءٍ أفضل من أن يكونوا رأسًا في قطيع يسوقه راعٍ، أو جنودًا تحت إمرة قائد، أو عبيدًا تحت سطوة طاغية. والقليلون منهم فقط هم الذين يتطورون بحيث يصبحون الرعاة والرؤساء والقادة لأولئك الذين اختاروا بإرادتهم أن يكونوا تابعين”. لقد كان هدف اليوتوبيات التسلطية تسليم الشعوب لرعاة أغنام وقادة وطغاة، سواء تحت اسم الحرَّاس “الفيلاركس” أو الساموراي. وكانت تلك اليوتوبيات تقدمية، بقدر ما أرادت إلغاء عدم المساواة الاقتصادية، لكنها استبدلت بنظام العبودية الاقتصادية القديم نظامًا آخر جديدًا، فلم يعد الناس عبيدًا لأسيادهم أو لأصحاب العمل، بل أصبحوا عبيدًا للأمة أو الدولة. وقامت قوة الدولة على السلطة الأخلاقية والعسكرية، كما في جمهورية أفلاطون، أو على الدين كما في مدينة المسيحيين لأندريا، أو على ملكية وسائل الإنتاج والتوزيع كما في معظم يوتيوبيات القرن التاسع عشر. بيد أن النتيجة بقيت دائمًا واحدة، وهي اضطرار الفرد لاتباع مجموعة من القوانين أو قواعد السلوك الأخلاقي المحدود بشكل مصطنع.

وتؤكد لويزا برنيري إن التناقضات الكامنة في معظم اليوتوبيات ترجع لهذا الأسلوب التسلطي. فقد زعم مؤسسو اليوتوبيات أنهم منحوا الحرية للشعب، ولكن الحرية التي منحوها توقفت عن أن تكون حرية. وكان “ديدرو” هو أحد كُتَّاب اليوتوبيا القلائل الذي أنكر على نفسه حتى الحق في أن يعلن أن لكل فرد أن يفعل ما يريده، غير أن أغلبية مؤسسي اليوتوبيات تشبثوا بأن يبقوا أسيادًا في دولهم المتخيلة. فبينما يزعمون أنهم يمنحون الحرية لشعوبهم، تجدهم في نفس الوقت يصدرون مجموعة من القوانين التي يتعين اتباعها بصرامة. فهناك المشرِّعون للقوانين، والملوك، والقضاة، والكهنة، ورؤساء الجمعيات الوطنية في يوتوبياتهم، ومع ذلك فبعد أن أعلنوا أنهم قد سنُّوا القوانين، ونظموا شئون الزواج وأمور السجن وإجراءات الإعدام، ظلوا على ادعائهم بأن الشعب حر يفعل ما يريد. ومن الواضح كل الوضوح أن توماسو كامبانيلا تخيل نفسه “الميتافيزيقي الكبير” في مدينة الشمس، وأن بيكون جعل من نفسه الأب الراعي ﻟ “بيت سليمان”، وكابيه نصب نفسه المشرِّع في جزيرته إيكاريا، وعندما كان لديهم ذكاء توماس مور، كانوا يعبِّرون عن أشواقهم الخفية بتهكم شديد “لا يمكنك أن تتخيل كم أنا مبتهج”. هكذا كتب توماس مور لصديقه إرازموس، “ولا كيف تعاظمت ورفعت رأسي عاليًا، ودائمًا ما كنت أتصور نفسي في دور الحاكم الأعلى ليوتوبيا، بل إنني تخيلت نفسي أختال في مشيتي وفوق رأسي تاج من سيقان الذرة، لابسًا عباءة راهب فرنسسكاني، وحاملًا في يدي سنبلة من الشعير أشبه بصولجان، ومحفوفًا بحشد كبير من أبناء شعب أموروت”. وأحيانًا يضطر أناس آخرون إلى إبراز تهافت أحلامهم، كما نجد جونزالز في مسرحية “العاصفة” لشكسبير عندما يقول لرفاقه في دولته المثالية التي أراد تأسيسها على جزيرته:

جونزالز :

أنا الدولة، وسوف أنجز كل شيء عن طريق الأضداد.

لن أسمح بأي نوع من أنواع التجارة،

ولا باستخدام قاضٍ،

والأدب لن يُسمح بالاطلاع عليه،

ولن يكون ثمة غنًى ولا فقر ولا خدمات،

لا عقود، ولا توريث، ولا حدود للأراضي،

لا حرث، ولا كرم، ولا شيء من هذا،

لن يصرح باستخدام المعادن، ولا الذرة، ولا النبيذ ولا الزيت،

لا وظائف، فالناس جميعهم كسالى متعطلون،

والنساء أيضًا، وإن كن بريئات ونقيات.

لا سيادة ولا تسلُّط.

سبستيان : ومع ذلك يتمنى أن يكون ملكًا عليها.

أنطونيو : إن النهاية الأخيرة لدولته تُنسي البداية.

وتلاحظ لويزا برنيري إن الدولة اليوتوبية التسلطية لا تسمح بوجود أي شخصية تكون من القوة والاستقلال، بحيث تتصور إمكان التغيير أو التمرد. وما دامت المؤسسات اليوتوبية تعتبر كاملة، فمن البديهي أنها لن تكون قابلة للإصلاح. إن الدولة اليوتوبية في جوهرها دولة سكونية، ولا تسمح لمواطنيها بأن يناضلوا أو حتى أن يحلموا بيوتوبيا أفضل. أيضا إن الدولة اليوتوبية أشد شراسة في قمعها لحرية الفنان. فالشاعر والرسَّام والنحَّات يفترض فيهم أن يكونوا في خدمة الدولة، وأن يتحولوا إلى عملاء الدعاية لها. إن التعبير الفردي محظور عليهم سواء لأسباب جمالية أو أخلاقية، ولكن الهدف الحقيقي هو سحق أي مظهر من مظاهر الحرية. ولا مراء في أن معظم اليوتوبيات ستفشل فشلًا ذريعًا في “اختبار الفن” الذي اقترحه هربرت ريد: «لقد طرد أفلاطون، كما يعرف الجميع، الشعراء من جمهوريته. ولكن هذه الجمهورية كانت نموذجًا مضللًا للكمال. ربما استطاع بعض المستبدين أن يحققوها في الواقع، غير أنها لن تؤدي وظيفتها إلا كالآلة، أي بشكل آلي. فالآلات تعمل بشكل آلي لمجرد أنها مصنوعة من مواد ميتة وغير عضوية. ولو أردت أن تعبر عن الفرق بين مجتمع تقدمي وعضوي وحكومة شمولية سكونية، فيمكنك أن تعبر عن هذا بكلمة واحدة: هذه الكلمة هي الفن. ولا يستطيع المجتمع أن يجسد مُثُل الحرية والتطور العقلي، وهي التي تجعل الحياة في نظر الغالبية منا جديرة بأن نحياها، إلا بشرط السماح للفنان بأن يمارس عمله بحرية”.

وتؤكد إن اليوتوبيات التي تنجح في هذا الاختبار هي تلك التي تعارض مفهوم الدولة المركزية باتحاد فيدرالي للجماعات الحرة، حيث يستطيع الفرد أن يعبر عن شخصيته دون أن يخضع لرقابة قانون مصطنع، وحيث لا تكون الحرية كلمة مجردة، بل تتجلى بشكل عيني في العمل، سواء أكان عمل الرسام أم البَنَّاء. هذه اليوتوبيات لا تتعلق بالبناء الميت للتنظيم الاجتماعي، وإنما تتعلق بالمُثُل التي يمكن أن يقوم عليها المجتمع الأفضل. أما عن اليوتوبيات المضادة للتسلطية، فهي أقل عددًا، وقد مارست نفوذًا أقل من اليوتوبيات الأخرى، لأنها لم تقدم خطة جاهزة، بل طرحت أفكارًا جريئة غير متزمتة، ولأنها تتطلب من كل منا أن يكون متفرِّدًا، وليس رأسًا في القطيع. وحين تشير اليوتوبيات إلى الحياة المثالية دون أن تتحول إلى خطة، أي بغير أن تتحول إلى آلة مجردة من الحياة تطبق على مادة حية، عندئذٍ تستطيع بجدارة أن تصبح هي التحقق الواقعي للتقدم.

meo

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى