في موقع مجلة LRB، اللندنية العريقة يسوق آدم شاتز سلسلة تساؤلات تخصّ الخلفيات المحتملة وراء تلهّف رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو على استدراج «حزب الله» وبالتالي إيران ثمّ الولايات المتحدة، إلى مواجهة عسكرية واسعة النطاق في جنوب لبنان. هل يراهن على ردّ فعل من «حزب الله» يمنح نتنياهو تبريراً مباشراً لفتح جبهة ثانية بعد غزّة؟ هل العدوان الراهن، وقبله ضربة أجهزة الـ»بيجر» القاتلة، جزء من جهود نتنياهو لإعادة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض؟ أم هو خطوة إضافية تمكّنه من البقاء في السلطة فترة أخرى؟
وإذا صحّ أنّ هذه التساؤلات يمكن أن تخطر على بال عشرات المعلقين المختصين بالشرق الأوسط عموماً، وبالصراع الفلسطيني -الإسرائيلي وملفاته المتعددة المتشعبة خصوصاً؛ فقد يكون أكثر صحة، وأعمق مغزى، أنها تأتي من شاتز على وجه التحديد: مدير تحرير القسم الأمريكي لمجلة LRB، الأمريكي، المولود لديانة يهودية، مؤلف أعمال عالية القيمة مثل «أنبياء منبوذون: قرن من الكتابة اليهودية المنشقة عن الصهيونية وإسرائيل» و»كتّاب ومبشّرون: مقالات حول المخيّلة الراديكالية» و»عيادة الثائر: حيوات فرانز كافكا الثورية». هو، إلى هذا وذاك، صاحب الصورة القلمية الأعمق والأشمل، باللغة الإنكليزية وفي منبر مثل «نيويورك تايمز ماغازين» عن محمود درويش وهوية الشاعر الوطني لقضية كبرى كونية بعد أن تكون فلسطينية.
وفي مستهل مقالته يذكّر شاتز بمعلومة بالغة الدلالة، مفادها أنّ أنّ نتنياهو سعى إلى أخذ موافقة واشنطن على الشروع في حرب ضدّ لبنان منذ الأيام الأولى التي أعقبت 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، لكنّ إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لم تمنح الضوء الأخضر، فتوجب أن يضع نتنياهو المشروع على الرفّ. مؤقتاً فقط كما برهنت الأشهر والأسابيع اللاحقة، انحناء أيضاً أمام حقيقة أنّ واشنطن قدّمت كلّ ما تحتاجه دولة الاحتلال لخوض الحرب ضدّ قطاع غزّة: من مقاتلة الـF-15 إلى قنابل الفوسفور الأبيض والتغطية الدبلوماسية في الأمم المتحدة؛ كما أغمضت الأعين عن عربدة الجيش الإسرائيلي والمستوطنين في الضفة الغربية، ومقتل أكثر من 600 فلسطيني، بينهم العديد من الأطفال، فضلاً عن المواطنة الأمريكية عائشة نور إزغي إيدي.
معلّق أمريكي آخر هو روبرت باير، رجل المخابرات المركزية المتقاعد وصاحب كتاب «النوم مع سرير الشيطان» يروي أنه خلال إحدى زياراته إلى العاصمة السورية دمشق، سأل أحد رجال الأعمال السوريين المقرّبين من بشار الأسد شخصياً، عن مستقبل لبنان، فردّ بالتالي: «لم يعد لبنان مشكلة سورية. لقد طردتمونا منه، فأسلمناه إلى إيران». الأمر الذي يعيد الحرب الإسرائيلية الراهنة ضدّ «حزب الله» إلى معادلة الصمت من جانب إيران والنظام السوري معاً؛ إذْ أنّ إدراك المنطق خلف هذا الاعتكاف في طهران ودمشق لا يحتاج إلى فهلوة أو فذلكة أو عميق تبصّر: النظام الأول ليس بصدد اشتباك شامل واسع النطاق مع دولة الاحتلال، ومع أمريكا استطراداً؛ والنظام الثاني أكثر جبناً وصغاراً وغدراً من أن يتورط، أو يخرق صمته المطبق منذ «طوفان الأقصى» فضلاً عن كونه أصلاً في علاقة تبعية تابعة وذيلية مع طهران.
“إذْ يجري تداول هذه الوقائع والعناصر والتحولات والمنعطفات، فإنّ خيبة أمل «حزب الله» وأنصاره في آيات الله وآل الأسد ليست منفصلة عن همجية الإرهاب الإسرائيلي متعدد الأنماط والطرائق”
شتان، من حيث الذاكرة القريبة، بين خطاب نصر الله الشهير الذي توعد فيه بالنزول شخصياً إلى سوريا والقتال لصالح النظام، وبين نبرة التذلل والخيبة والعتب المبطن التي تطبع خطابه الراهن ما بعد اغتيال فؤاد شكر وضربة أجهزة الـ»بيجر» الإرهابية الموجعة؛ وهذا مشهد أقرب إلى استجماع تحصيل الحاصل. لكن شتان، أيضاً، بين هذا الطور من علاقة «حزب الله» مع النظام السوري، وأطوار سابقة منذ تأسيس «حزب الله» في سنة 1982؛ الأمر الذي يأسف له باير، معتبراً أنّ وجود النظام السوري العسكري في لبنان كان مفيداً على الدوام، سواء في ضبط «حزب الله» على الساحة اللبنانية الداخلية وفي الجنوب على امتداد الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية، أو في التأثير على الملفات الإقليمية وتقوية النفوذ الإيراني في المنطقة.
وإذُ يشحذ ذاكرته كضابط سابق في المخابرات المركزية، يروي باير الوقائع التالية للتدليل على رأيه:
ـ في عام 1985، خُطفت طائرة الـ TWA في مطار بيروت، وجرى تهديد ركابها بالإعدام، فاتصل الرئيس الأمريكي آنذاك، رونالد ريغان، بالرئيس السوري حافظ الأسد وناشده التدخل. وكان أن أوعز الأسد لضباطه في لبنان بأن يحرّكوا دباباتهم نحو مواقع «حزب الله» فأسفر هذا عن إطلاق سراح رهائن الطائرة.
ـ وفي عام 1987، وبعد أن خطف رجال «حزب الله» مراسل الـ ABC، شارلز غلاس، مرّوا على حاجز عسكري سوري وهم يظنون أنهم في مأمن، فما كان من أفراد الحاجز إلا أن أنزلوا الخاطفين من السيارة، وأشبعوهم ضرباً، وحرّروا غلاس.
ـ وفي عام 1988، احتجز «حزب الله» اثنين من العاملين في الأمم المتحدة، بين آخرين، فهدد الأسد الأب باعتقال الشيخ محمد حسين فضل الله، أحد كبار الزعماء الروحيين للحزب، إذا لم يُطلق سراح الرهائن. وكان للأسد ما أراد.
ـ وفي عام 1982 خطفت ميليشيا مسيحية القائم بالأعمال الإيراني واثنين من الدبلوماسيين الإيرانيين وصحافياً لبنانياً، فردّ «الحرس الثوري» الإيراني، وعلى سبيل التمهيد لمبادلة ممكنة، باختطاف الرئيس التنفيذي للجامعة الامريكية في بيروت، دافيد لودج، وتهريبه إلى إيران عبر سوريا. وحين احتجت واشنطن لدى الأسد، الأب دائماً بالطبع، الذي لم يكن على علم بالأمر، استشاط غضباً وأبلغ إيران أنه سوف يطرد «الحرس الثوري» من لبنان ما لم يتمّ تحرير الرهينة. ولم يمض وقت قصير حتى كان لودج حرّاً طليقاً!
الشطر الإيراني من المشهد، أو ذاكرته التاريخية غير البعيدة لمَنْ يشاء، تجوز استعادته من خلال الزيارة التي قام بها إلى بيروت الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد، خريف 2010؛ حين أفرط «حزب الله» في تلميع صورة أحمدي نجاد، وتضخيم سجاياه القيادية، ورفع خصاله الشخصية إلى سوية رفيعة (السند العظيم للمقاومين والمجاهدين والمظلومين). واتخذ التوجّه ذاك سمة دراماتيكية أبعد دلالة حين انخرط في التلميع نصر الله شخصياً، فذهب إلى القول: «نشمّ بك يا سيادة الرئيس رائحة الإمام الخميني المقدس، ونتلمس فيك أنفاس قائدنا الخامنئي الحكيم، ونرى في وجهك وجوه كلّ الإيرانيين الشرفاء من أبناء شعبك العظيم».
وأمّا الشطر المشترك الثلاثي، نجاد وبشار الأسد ونصر الله، فقد سبق أن صنعه الإخراج المسرحي للقاء الثلاثة في دمشق، أواخر شباط (فبراير) 2010؛ وذهب البعض، في صفوف المتكلمين باسم «الممانعة» خصوصاً، إلى تسميته بـ»العشاء النووي» نسبة إلى عتوّ اللفظ الرنان والبلاغة الطنانة. لكنه اتخذ وجهة حروب الصورة أيضاً، إذْ كان نصر الله يقوم بزيارة دمشق علانية هذه المرّة (هو الذي، للعلم، لم يجتمع مع الأسد الأب أبداً) من جهة أولى؛ كما كانت لقطة مسير الثلاثة، الهوينى وكتفاً إلى كتف، بمثابة رسالة إلى المراهنين على استدراج الأسد الابن بعيداً ما أمكن عن محور الاعتدال، الذي يفضي أيضاً إلى أمريكا ودولة الاحتلال، من جهة ثانية.
وإذْ يجري تداول هذه الوقائع والعناصر والتحولات والمنعطفات، فإنّ خيبة أمل «حزب الله» وأنصاره في آيات الله وآل الأسد ليست منفصلة عن همجية الإرهاب الإسرائيلي متعدد الأنماط والطرائق؛ كما أنها تنطوي على وطأة كثير جارح، في سياق اكتشاف معادلات الخذلان.