ثقافة وفكر
أخر الأخبار

حكاياته لونٌ وضوء.. في الدلالة اللونية عند البردّوني

تعد الألوان مكوناً رئيساً من مكونات التعبير الأدبي، فاللون هو الناظم المشترك بين الصورة القوليّة والصورة التشكيليّة كما يقول البستاني.

ففي دراسة أدب العميان وحضور الألوان فيها؛ يبرز في البدء سؤال مهم: ما الذي يراه الأعمى وهو يصف ويعبّر؟

وقد كان شاعر الإغريق الملحمي هوميروس حين يذكر البحر في قصائده يصفه بالظلام النبيذي، فهل غياب زرقة البحر له علاقة بعمى الشاعر؛ ويؤكد هايدجر مستشهداً بأشعار هوميروس وغيرها على اختفاء اللون الأزرق في الثقافات القديمة وآدابها.

أصيب الشاعر اليمني البردّوني (1929-1999) بالجدري وهو في حوالي الخامسة من عمره، وفقد بصره بسببه.

وفي جوابه على سؤال “كيف يُحسّ بالألوان” يقول البردّوني:

“يكون التصوّر آنيّاً، قد لا يوافق اللون المشهود ولكنه يخلقه أحسن دون أن يتجاوز السماع اللوني[1]“

وللمفارقة فإن تجربة العمى المبكّر لدى البردّوني تتطابق مع تجربة أبي العلاء المعري الذي أصيب بالجدري طفلاً، وفقد بصره هو الآخر.

يقول البردّوني عن هذه التشابه بينهما في قصيدة “زحف العروبة” من ديوان “في طريق الفجر“:

وأهزُّ في تُرَبِ المعرّةِ شاعراً

مثلي، توحّدَ خطبُه ومصابي

يتحدّث المعري عن عماه فيقول:

“لا أعرفُ من الألوان إلاّ الأحمر، فإني أُلبستُ بالجدري ثوباً مصبوغاً بالأحمر، فأنا لا أعقلُ غير ذلك”

أما الشاعر الأرجنتيني بورخيس فقد كان عماه متأخراً؛ حيث فقد بصره في حوالي الخمسين من عمره.  يقول بورخيس إن الألوان عنده بدأت بعد فقدان البصر. ويؤكد أن العمى لا يعني الظلمة؛ لكنه قوس قزح جميل، ويفلسف الأمر بأن الألوان تكمن في أغوارنا لا خارجها. إذ يتحدث في مقال له عن عماه الخاص أو المتواضع كما يسمّيه؛ لأنه بدأ كعمى كليّ في عين وجزئي في الأخرى يقول:

“ما زلت قادرا على أن أميز بعض الألوان؛ أستطيع، حتى الآن، رؤية الأزرق والأخضر. وقد بقي الأصفر بشكل خاص، وفياً لي”.

وبالعودة إلى سؤال البداية عما يراه العميان، يجيب بورخيس في المقال ذاته:

“الناس بشكل عام يتخيلون العميان مسجونين في عالم أسود. هناك، على سبيل المثال، عبارة شكسبير:

 Looking on darkness which the blind do see.[2]، والترجمة لها:”النظر للظلمة التي يراها الأعمى”، فإذا فهمنا الظلام (darkness) على إنه السواد (blackness) فشكسبير على خطأ.”

ويؤكد أن اختفاء اللون لا يعني الظلام أو سواده، إذ الأسود لون لا يراه:

“أحد الألوان التي لا يراها العميان ـ أو على الأقل لا يراها هذا الأعمى الذي أمامكم ـ هو الأسود؛ وآخر هو الأحمر. الأحمر والأسود هما اللونان اللذان تنكرا لنا[3].”

يمنيّ المداد قلبي دواتي[4]

قبل الحديث عن تجربة البردّوني مع الألوان، ودلالاتها في قاموسه، لا بدّ من التعريج على الألوان في الثقافة الشعبيّة اليمنيّة، التي تعدّ جذور البردّوني، ومنابعه التي امتدّ منها وصدر عنها. البردوني الذي يصف نفسه في هذا البيت من “مكتبيون والبطل والشاهد” في ديوان “زمان بلا نوعيّة“:

لستُ إلاّ يمنيّاً قلبهُ

من تمنّي شرعبٍ، من شوق لاعه

فالواقف على تجربة البردّوني، يجد هذا الحضور المحتشد لوطنه، جغرافيا وثقافة وتاريخ.

كما يعبّر عن ذلك في قصيدة “من أرض بلقيس“ التي جعل اسمها عنواناً لأول مجموعة شعرية يصدرها:

من أرض بلقيس هذا اللحنُ والوترُ

من جوّها هذه الأنغامُ والصورُ

فقد تشرّب ثقافة شعبه، شعراً وغناءً وأمثالاً وتعابير، ونمى من هذا المزيج، وصاغ رؤاه وفق هذا “العصير الشعبي” بحسب تعبيره.

يقولُ في قصيدة “سباعية الغثيان الرابع” من ديوان “زمان بلا نوعية”:

واستنبت الشبثي[5] مشمشاً

وأخضرّ في شفتيه مثل

في كتاب “الثقافة الشعبيّة.. تجارب وأقاويل يمنية” الصادر عام 1988 عن دار المأمون للطباعة والنشر، للبردّوني مقال يمكن الاهتداء به في محاولة فهم دلالة الألوان في شِعره، هو “الألوان في التعابير اليمنيّة“.

في ضوء فهم البردّوني الشخصي للألوان، كما يرد في هذا المقال، نستطيع قراءته بصورةٍ أوضح.

في قصيدة “الأخضر المغمور ” من ديوان “وجوه دخانية في مرايا الليل” يقول البردّوني:

لأنّ خطاهُ تُنبتُ الوردَ في الصفا

وفي الرمل أضحى يعشقُ الحسن أحمرا

لكي نفهم حمرة الحسن هذه؛ نعود لمقال البردّوني فنجده يتحدّث عن استخدام هذا اللون للحديث عن النقاء من الشوائب والعيوب، وجماع الصفات الحسنة،” فلان ذهب أحمر” وفلان بُرّ أحمر.

أما في الأغاني اليمنيّة فيحضر اللون الأخضر بكثرة في وصف المحبوب، والتغني به، والتشبيب بجماله:

“الأخضري من العدين بكّر”

“أخضر لِمه خضّرت لازوردك”

“أخضر خضاري فرشت القلب لك وحدك”

“الخضر جننوني”

يناقش البردّوني هذه النقطة في المقال فيقول:

لعلّ الأخضر في اليمن يعادل الأسمر في مصر والشام والعراق. ويضيف “إن التعبير عن الشباب الأنثوي بالخضرة أتى لانتظام صفات النعومة والرشاقة والرّواء والامتلاء فيها”.

وفي تأصيله لسبب وصف الحسان بالخضرة يقول:” إن لذلك أصلٌ تصوّري، لأن الماء أصل الخضرة، واليمنيون يقولون عن كلّ ما هو بليل بأنه أخضر.” ويستدرك إن صفة الخضرة في التعبير اليمني لا تأتي مغايرةً للبياض أو مقارنةً به، كصفة “السمار” في الأغاني العربية. في الأغاني اليمنية الحلوة الميّاسة أخضرية سواء كانت بيضاء أو سمراء[6].”

أما في المجاز الشعبي فتتعدد دلالات اللون الأخضر، فقد يراد به الشباب والحيوية والمرح “فلان قلبه أخضر” أو غاية الجود والسخاء “فلان يده خضراء” أو في الحثّ على البذل “خضّر إيدك”.

أما اللون الأسود فيحمل دلالات الفأل الحسن والبشارة، فاسوداد الغمام يعقبه المطر، واسوداد الوديان أو خضرتها الداكنة دليل الخصب والخير الوفير.

وقد يرد في سياقات أخرى، ويراد به التشنيع وإلحاق العار، مثل “عيب أسود” في كل خيانة عهد أو نكث اتفاق أو فعل مشين يخالف الأعراف، أو تعبير “سوّدت وجهي” الذي يقال لمن جاء بما لا يَجمُل.

وعكسه يأتي الأبيض كرمز للوفاء والنبل وكل فعل حسن “وجهك أبيض_بيّض الله وجهك” أو الإعذار وانتفاء العيب والملامة: الوجه من الوجه أبيض.

أما الأحمر فإلى جانب دلالة النقاء التي سبق الحديث عنها، فيقال لوصف الذكاء والحنكة أو القدرة “فلان أحمر عين”

أما الأصفر فيحضر في سياقات الخوف الشديد، أو المرض والهزال “وجهه مصفّر”أما الأغبر فكل دلالاته تدور في معاني الشؤم والسوء “يوم أغبر، وعد أغبر، سنة غبراء”

وفي الاستخدام الشعبي للألوان هناك ملاحظة طريفة، ففي كثير من مناطق اليمن هناك عكس لأسماء بعض الألوان، كتسمية الأزرق أخضر، ففي صفوف الدراسة الأولى لمن نكن نعرف القلم الأزرق إلا أنه “أخضر”، كذلك يدعى صاحب العيون الملونة بغير الأسود “أزرقاً” أياً كان لونها. 

حكاياته لونٌ وضوءٌ عرفته

كشعبٍ كبيرٍ، وهو فردٌ من الورى[7]

في لقاء مع البردّوني[8] يقول: “إن اللون عندي يُرى بالأذن، ويُلمس بهجسات الوجدان؛ ولهذا أعطيه غير ألوانه، لأني أخلق له ألواناً من تصوري، في ضوء ما عرفته قبل العمى، حتى أنني أخلق للمعنويات ألواناً كالسماحة والسخاء وكالحبّ والوطنية والشجاعة.”

الأخضر هو أكثرُ الألوان حضوراً في شعر البردّوني. نجده عنواناً لقصيدتين “السفر إلى الأيام الخضر” والأخضر المغمور“، وقد أصبحت الأولى عنواناً لأحد دواوينه.

الخضراء هذه الصفة التي صارت اسماً، ترد كثيراً كاسم آخر لليمن في قصائد البردّوني، كقوله في قصيدة “من أرض بلقيس“:

يا أمّي اليمن الخضرا وفاتنتي

منك الفتونُ ومنّي العشقُ والسهرُ

هذا يجعلُ الأخضر لوناً للوطنية، وصدق الحبّ ومنتهى الانتماء، في قصيدة “الأخضر المغمور” يقول:

لأنّ دم الخضراءِ فيه معلّبٌ

يذوبُ ندىً، يمشي حقولاً إلى القرى

اللون الذي يصبحُ اسماً في نهاية القصيدة:

تُرى ما اسمُهُ؟  لا يعرف الناس ما اسمه

وسوف تسمّيه العصافيرُ أخضراً

والأخضرُ أيضاً رمز للمستقبل الهانئ الذي حلُم به البردّوني وتمناهُ لشعبه في قصيدة “السفر إلى الأيام الخضر“:

سوفَ تأتي أيّامُنا الخضر، لكن

كي ترانا؛ نجيئها قبل تأتي

وفي قصيدة “صنعاء في طائرة” يقول:

 متى منكِ تمضين عجلى إليكِ

ترينَ اخضرار الحياة النظيفة

والأخضرُ لون الحبّ، وهمسات الحبيبة العِذاب في قصيدة “عائد“:

همساتها الخضرُ الرقاق

أشفّ من ومض السراب

وفي قصيدة “من أين” يقول:

وتهمسين لي، كما يندى اخضرار الأودية.

وهو لون اعتذار الحبيبة في قصيدة “كانت وكان“:

فاخضرَّ في شفتيها العذرُ والأسفُ.

بل إنّ لحظة الحبّ ذاتها تهمي خضرةً في قصيدة “عائد“:

أترينَ كيف اخضوضرت

للقائنا مقلُ الشعابِ.

والخضرة لون الأُنس في قصيدة “ذكريات شيخين“:

لم نعد نهنى ولا نأسى ذوت

خضرةُ الأنس، خبت نار الفرح

والأخضر لون النضال والتضحية وثمرتهما في قصيدة “ثائران“:

ويطيرون يضفرون النجوم الخضر

“غاراً” يتوّجون النضالا

وفي قصيدة “حكاية سنين” يقول:

أوما رأى الشهداء كيف اخضوضرت بهم الفصول!

أما الأحمر فكما يرد في الثقافة الشعبية للدلالة على الذكاء “أحمر عين” يأتي عند البردّوني بذات الدلالة، في قصيدة “الضباب، وشمس هذا الزمان“:

أتراه يحمرّ، يرنو بعيداً

ومناهُ تجتازُ عينيهِ حدسا

وكما أن الأحمر رمز للنقاء كما تقدّم، هو كذلك عند البردّوني في قصيدة” من آخر الكأس“:

وحتى يرى كلّ النصاعات حمرةً

وحتّى يحسّ الأخضر النضر أسودا

ويأتي الأحمر كرمز للكفاح والنضال والثورة في قصيدة “فنقلة النار والغموض“:

هذا الغبارُ على عيوني

ثورةٌ حمراء كحلى

هذه الثورة التي تخضّب أنامل الحاضر وأحلام المستقبل في قصيدة” تحوّلات يزيد بن مفرّغ الحميري“:

أنامله كأحلامي قواني

ثم هذه الصورة الممتدة حتى أقاصي الذهول في قصيدة “الحَبَل العقيم“:

هل لمحتَ الأظافر الحمر؟، تبدو

دونَ أيدٍ، تُخفي ذراعاً كمينا

هذا الخيال الذي يفتّح الذهن حركة وحياةً، ويكلّل المشهد المهيب عزاءً وسلوى، ويخصّب اللحظة الدامية بالأمل والجدوى.

الأحمرُ إذن هو لون الحلم والتضحية في سبيله، لون زمان الحلم ودربه وثمنه، كما في قصيدة” عرافة الكهف“:

أحلى الثواني التي تحدوك حمرتها

لها احمراري، وللأخرى صباباتي

لون الثورة هذا، ترفُّ به الأرضُ وتضوع في قصيدة “وردة من دم المتنبي“:

كيف ندمى ولا نرى لنجيعٍ

حمرةً تنهمي رفيفاً وشمّا

وليست الدهشة هنا في وصف اللون وتوظيفه في المشهد؛ بل في رؤية ما لا تراهُ العيون فيه.

يقول في قصيدة “رابع الصبح“:

مثلهم ينظر النجوم، ولكن

يتجلّى ما لا يرون ويثقُبْ

أما الأصفر فكلّ دلالته سلبيّة في شِعر البردّوني. فهو يجيءُ في سياقات المرض، في قصيدة “في الغرفة الصرعى“:

يصفرُّ كالسلّ، يهمي من عباءته.

وفي قصيدة “استقالة الموت“:

هذي الرؤي المصفرة الأوردة

وجعى كهذي الليلة المجهدة

ويعني الموات في قصيدة “من ذا هنا“:

كيف ماتت؟ كما يموتُ شبابُ العطرِ

في صفرة الغصون الخليعة.

والزيف في قصيدة “13 حزيران“:

حماسةٌ صفراء معروقةٌ

أنشودةٌ مسلولةٌ واجفة

وفقدان الأمل كما في قصيدة “الحَبَل العقيم“:

وكانت الهضبة الصفراء مثقلة

أولادها في طوايا صلبها اكتهلوا

وكما يدل الأصفر على الخوف في التعابير الشعبية، كذلك هو عند البردّوني كما في قصيدة “غريبان وكانا هما البلد:

عرفته يمنيّاً في تلفّته

خوفٌ.. وعيناهُ تاريخٌ من الرمدِ

من خضرة القات في عينيه أسئلةٌ

صفرٌ، تبوحُ كعودٍ نصفِ متّقدِ

كما يرى بالسمع قلبُ الكفيف[9]

كما يعطيُ البردّوني الألوان معانيَ ودلالات، كذلك يعطي الأصوات ألواناً، يقول في قصيدة “بين القلب والقلب“:

ما لونُ صوت القلب حين يخفقُ؟

وهل يشمّ الوردُ ماذا يعبقُ؟

ويقول في قصيدة “استقالة الموت“:

ألوانُ أصواتٍ كهجس الحصى.

وفي قصيدة “من آخر الكأس“:

وألون أصواتٍ تطقّ كأنها

جدارٌ تهاوى فوق ماءٍ تجمّدا

بل يصبحُ هذا الصوت الملوّن هويةً جغرافية، في قصيدة “تحولات يزيد بن مفرغ الحميري” يقول:

يدلُّ عليكَ يا ولدي جبينٌ

معينيٌّ، وصوتٌ زعفراني

وفي القصيدة ذاتها يقول:

أذا صوتي أنا؟، أم لونُ بغضي!

أفي جلدي سوى الرجل اليماني؟

أما في قصيدة “شاعر ووطنه في الغربة” فقد وَشَى لون صوتُ المضيفة بوطنها:

حين نادت إلى الصعود فتاةٌ

مثل أختي، بنيّة الصوت ربعة

من أنت يا ذاك؟

من لو شمّ من كندا..صنعا

لأورقَ فيه البُنّ والقات[10]

القات والبنّ ولونيهما في قصائد البردّوني رمز لليمن وإحالة إليه

في قصيدة “زامر القفر العامر” التي يتحدّث فيها البردّوني عن نفسه، ناطقاً باسم الشعب، ومعبراً عنه يقول:

لأنّ حروفكَ عشبيّةٌ

كعينيكَ يا بُنّي الإهتمام

وفي قصيدة “وجه الوجوه المقلوبة” يقول:

ردّي يا ضوضاء الموتى

صوتي، بُنيّة أحزاني

وهو أحد ألوان قصائده في قصيدة “الصديقات“:

تلك بُنيّةٌ، وهذي نبيذٌ

تلك قمحيّةٌ تشعُّ اخضرارا

وهو لون حبّه وانتماءه لوطنه في قصيدة “سكران وجندي ملتحي“:

إليكِ عشقي بلون البنّ فابتهجي

ومثله القات، في قصيدة “طيف ليلي“:

علّهُ شمَّ عبيرَ القات؛ فاخضرّ وفوّف

وهو هوية في الغربة في قصيدة “غريبان.. وكانا هما البلد“:

من خضرة القات في عينيه أسئلةٌ

وتتجلى الرمزية حين يصبحُ لوناً مستقلاً في قصيدة” الصديقات“:

تلك قاتيّةٌ كأهداب أروى

هذا الارتباط اللوني “بأهداب أروى” التي تحيل لمرحلة استقلال وشموخ، في قصيدة “صنعاء في طائرة” تحضر أهدابُ أروى في سياق التقريع والاستنهاض:

وبعتِ أخيراً لحى تُبّعٍ

وأهداب أروى وثغر” الشريفة”

وليس الصوتُ وحده ما أضفى عليه البردّوني لوناً؛ فها هو يلوّن الصمت في مناجاته في قصيدة “رسالة إلى صديق في قبره”:

ها هنا عندي غريباتُ العوادي

عندكَ الإصغاءُ والهجسُ الرمادي

أمّا غياب اللون في قصائد البردّوني فيعني غياب المعنى، والوجود الباهت، الذي لا حياة فيه ولا روح، ففي قصيدة “الصاعدون من دمائهم” يقول:

وكلّ مرأى كان من لونه

يفرّ، يلغي طعمه السكّرُ

وهو غيابٌ لكل تلك القيم والمعاني والمبادئ التي تغنّى بها البردّوني ومجدها، يقول في قصيدة “13 حزيران“:

شيءٌ بلا لون ولا نكهةٍ

ماذا تسميه اللغى الواصفة

هذا الغياب الذي تغيب معه وبسببه الصفات المميّزة، في قصيدة “أبو تمام وعروبة اليوم“:

عروبة اليوم أخرى لا ينمّ على

وجودها، اسمٌ ولا لونٌ ولا نسبُ

تغيب الألوانُ عن الشعر، فيفقد معناه وجدواه، في قصيدة “ساعة نقاش مع طالبة العنوان“:

الشعرُ اليوم كما تدري

ألوانٌ ليس لها ألوان

وتغيب الألوان عن الأحلام والذكريات، فيبهت حضورها، كقوله في قصيدة “ليال بيروتية في حقيبة سائح عربي“:

كعصفورٍ بلا لونٍ

يجيءُ الحلمُ والذكرى

وتغيبُ الألوان عن المشاعر، فيذبلُ الفرح، وتتيبّسُ الأحزان في الدماء كما في هذا البيت من قصيدة “كانوا رجالاً“:

أضاعت الأفراحُ ألوانها

وفي عروق الحزن جفّ الدمُ

ويُتوّج هذا الغياب بهذا السؤال الذي يعبر عن منتهى الخواء في قصيدة “عينة جديدة من الحزن“:

من يردّ اللون للألوان من

يهبُ الأكفان شيئاً من خلابة

ويشير إلى أن هذا الغياب نتيجة لتماهي الألوان وتداخلها، بينيّة تغيب فيها شخصية الألوان ومعانيها.

في قصيدة “من آخر الكأس“:

لأن اشتباه اللون باللون ينتهي

إلى غير لونٍ مثل بغضٍ توددا

وفي قصيدة” وجه الوجوه المقلوبة” يقول:

الألوان الشتى امتزجت

شيئٌ يهذي: ما ألواني؟

هكذا تشرّب البردّوني ألوان الشعب، وعبّ عبير أحلامه، ولمس هواجسه وهمومه، وانمحت فيه تلويحات تاريخه وأشواقُ مستقبله، يقول في قصيدة “كائنات الشوق الآخر“:

أتذكرُ كنتَ بُنيّاً

ولونُ البابِ رُمّاني

وكان السورُ قاتيّاً

ومرأى الصحن مرجاني

وكنتَ تشيرُ بالكاذي

وبالورسِ الغويداني

وأعاد تشكيل ملامح “اليمن المنشود” وأبرز قسماته، كما في قصيدة “لعينيك يا موطني“:

أفصّلُ للياء وجهاً بهيجاً

وللميمِ جيداً، وللنون طرف

أصوغُ قوامك من كلّ حُسنٍ

وأكسوك ضوءً ولوناً وعرف


[1] حوار مع البردوني في مجلة البيان، الكويت، عدد سبتمبر 1995م

[2] سوناتة شكسبير السابعة والعشرين

[3] خورخي لويس بورخيس: العمي ترجمة كريم جواد /العمي،_بورخيس

[4] قصيدة” الأيام الخضر” ديوان “السفر إلى الأيام الخضر” 

[5] حزام مرشد الشُبثي، شاعر وحكيم يمني من جهران آنس ويُقال من قيفة،  ترد على لسانه الكثير من الحكم الشعبية والأشعار، ويشير البردّوني أنه الحكيم الثالث إلى جانب علي ولد زايد والحُميد بن منصور.

[6] الألوان في التعابير الشعبية_ الثقافة الشعبية/البردوني، دار المأمون 1985م

[7] قصيدة “الأخضر المغمور” ديوان “وجوه دخانية في مرايا الليل”

[8] حوار مع البردّوني، مجلة المجلة، بريطانيا لندن، ديسمبر 1985م، ص61

[9] قصيدة “حوارية الرصيف” ديوان “كائنات الشوق الآخر”

[10] قصيدة “العصر الثاني في هذا العصر“ ديوان “رواغ المصابيح”

-عبدالرحمن الزراف – المدنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى