ثقافة وفكر
أخر الأخبار

رئيسي “سيد الشهداء” أم “قاضي الموت”؟

في وقت متوتر للغاية بالنسبة إلى طهران التي تعيش تحت وطأة الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، خسرت فجأة اثنين من أهم الشخصيات السياسية والأكثر نفوذًا في البلاد.

إذ لقي الرئيس الإيراني الثامن، إبراهيم رئيسي، حتفه صباح يوم الأحد الماضي مع وزير خارجيته إلى جانب مسؤولين آخرين، في حادث تحطم المروحية وسط ضباب كثيف شمال غرب إيران، وذلك بعد عودتهم من رحلة افتتاح سدّ قيز قلاسي بالاشتراك مع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف على حدود البلدَين.

لا شكّ أن خسارة رئيسي الذي تمتع بعلاقات قوية على جميع مستويات المؤسسات الإيرانية موجعة للنظام الإيراني، خاصة أن طهران فقدت في السنوات الأخيرة العديد من خيرة شخصياتها البارزة وكبار القادة العسكريين في سوريا.

ولعدة سنوات وعلى نطاق واسع، نُظر إلى رئيسي البالغ من العمر 63 عامًا ليس فقط كثاني أعلى سلطة في إيران والمنافس القوي لولاية رئاسية ثانية، بل كربيب وخليفة للمرشد الأعلى الثمانيني، والرجل الذي من المتوقع أنه سيشكّل مستقبل إيران لسنوات قادمة.

 الإيرانيون يحتفلون بوفاة إبراهيم رئيسي بالألعاب النارية

وبينما حزن البعض لوفاة الرئيس الإيراني الذي سمّته الحكومة الإيرانية بـ”سيد الشهداء”، ونزلت الجماهير إلى شوارع طهران لتشييعه، أمل آخرون أن موته سيعجّل بنهاية هذا النظام، كما تذكر ضحايا آخرون وحشية رئيسي كونه الوجه السياسي للنظام الإيراني وأحد أعمدة النظام الذي قتل وشرد الأبرياء، ولذا احتفل البعض في الشام وغزة وطهران أيضًا بموت رئيسي، سواء بتوزيع الحلوى أو بإظهار مشاعر الفرح على مواقع التواصل، أو بالألعاب النارية الاحتفالية في سماء إيران.

وظهرت مقاطع فيديو على منصة إكس لبعض سكان طهران وهم يرقصون ويقولون: “دعونا نحتفل بتحطم مروحية إبراهيم رئيسي”، وكذلك خرج الإيرانيون في لندن لإظهار سعادتهم وأقاموا حفلًا أمام السفارة الإيرانية. فمن هو إبراهيم رئيسي؟ وما السبب الذي جعل هؤلاء الناس يبتهجون لموته؟

كتبت الممثلة والمنتجة الإيرانية شيفا نيجار في منشور على موقع إكس: “وداعًا لجزار طهران، لن نشتاق لك”.

البدايات: سنوات الغليان

ينحدر رئيسي من عائلة اشتغلت في الميادين الدينية والقضائية، كما تدّعي أن نسبها يتصل بعلي بن الحسين بن زين العابدين. وفي الفترة التي كانت فيها إيران تمرّ بتغييرات عميقة وتحديثات واسعة، كقوانين الإصلاح الزراعي (1960-1963) وبرنامج الثورة البيضاء التي قام بها الشاه، وُلد إبراهيم رئيسي في 14 ديسمبر/ كانون الأول 1960 بشمال شرق البلاد في مدينة مشهد، وهي مركز ديني هامّ للشيعة الاثني عشرية.

ووسط عائلة محافظة من طبقة وسطى، نشأ رئيسي وتأثر بالبيئة التي ترعرع فيها، لكن رغم أن إيران كانت تمرّ بموجة تحديث واسعة، إلا أن المؤسسات الدينية التي عمل فيها أشخاص من عائلة رئيسي كانت محرومة من إصلاحات الشاه، وبشكل خاص مدينة مشهد.

وفي الخامسة من عمره، توفي سيد حاجي والد رئيسي الذي كان رجل دين بارزًا، وتلقى الصغير تعليمًا تقليديًا، لكنه في سن الـ 15 أراد أن يقتفي خطى والده، فارتحل إلى مدينة قم المقدسة لدى الشيعة من أجل الدراسة في الحوزة العلمية، وهناك درس على يد نخبة من أبرز علماء الدين الشيعة في ذلك الوقت، ومن الواضح أنه تأثر بالمناخ السياسي في قم، إذ كان العديد من العلماء والطلاب غير راضين عن نظام الشاه، وانخرط العديد منهم في نشاطات ثورية.

مدرسه علمیه معصومیه، قم

ثم بعد الحوزة العلمية في قم، التحق رئيسي بجامعة شهيد مطهري في طهران، وبينما لا يزال طالبًا في بداية العشرينات من عمره، انضم إلى الاحتجاجات الجماهيرية ضد الشاه (1978-1979) مثل العديد من طلاب المعاهد الدينية.

وكما أوضح آراش عزيزي، فبعد هروب الشاه من البلاد ونجاح الثورة الإسلامية التي استبدلت نظام الشاه بنظام حكم يعتمد على رؤية الخميني، واجهت الجمهورية الإسلامية الوليدة عددًا من التحديات، أهمها اختيار الأشخاص الموالين للنظام الجديد، وهنا وجد رئيسي في الثورة نقطة انطلاق لطموحاته، ومنذ البداية كرّس حياته لدعم النظام الناشئ، ومن الواضح أنه تمتع بمؤهّلات قوية لفتت انتباه الخميني.

وبالفعل بدأ رئيسي مسيرته في النظام الإيراني الجديد وهو في أوائل العشرينيات من عمره، وشغل مناصب مهمة في النظام القضائي، إذ تم تعيينه بعد الثورة كمدّعٍ ​​عام في مدينة كرج وعدة مدن.

وعلى مدى السنوات الستّ التالية، اكتسب المزيد من الخبرة كمدّعٍ عام في ولايات مختلفة، ومثل العديد من الشباب الآخرين من جيله الذين استفادوا من الثورة، سيجد رئيسي نفسه في منصب شديد الأهمية، إذ تمّت ترقيته ليعمل كنائب للمدعي العام في طهران عام 1985 وهو لا يزال في الـ 25 من عمره، وبعدها مدّعٍ عام في طهران بين عامَي 1989 و1994.

إلى المشنقة: قاضي الموت

بينما كانت حرب إيران الطويلة مع العراق على وشك الانتهاء، عمل رئيسي في ما أصبح يُعرف باسم “محاكم الموت”، وهي أهم جانب أسود في حياة رئيسي، إذ لعب دورًا محوريًا في الإعدام الجماعي لآلاف السجناء السياسيين عام 1988، وأشرف على سلسلة من عمليات الإعدام السياسي في جميع أنحاء إيران.

فبعد أن وافق الخميني على وقف إطلاق النار مع العراق، عبرت مجموعة من مجاهدي خلق المدجّجين بالسلاح الحدود الإيرانية وحاولوا القيام بهجوم مفاجئ، وفي نهاية المطاف تصدّت إيران للهجوم، حيث مهّد هذا الأمر الطريق لمحاكمات انتقامية استمرت بضع دقائق فقط، ووُصفت عمليات القتل بأنها تطهير سياسي لم يسبق لها مثيل في التاريخ الإيراني الحديث.

إبراهيم رئيسي أحد أعضاء “لجنة الموت”

وتقول منظمات حقوق الإنسان إن رئيسي البالغ من العمر 27 عامًا في ذلك الوقت كان واحدًا من 4 قضاة تم تعيينهم في ما يُسمّى بـ”لجان الموت”، وهي محاكم سرّية أُنشئت عام 1988 بأمر من الخميني لمحاكمة السجناء السياسيين، لكن انتهى الأمر بمعظمهم عند المشنقة.

ورغم أنه لم يتم تأكيد عدد الأشخاص الذين قُتلوا في هذه المحاكم من قبل طهران، إلا أن تقرير منظمة العفو الدولية لعام 1990 يقدِّر إعدام 5 آلاف سجين سياسي، معظمهم من منظمة مجاهدي خلق.

وأكد رئيسي على أنه لم يكن له دور مباشر في عمليات الإعدام الجماعية، وقال إن أحكام الإعدام أصدرها أحد القضاة وأيّدتها المحكمة العليا، لكنه في لقاء آخر له عام 2021 حين سأله الصحفيون عن دوره في إعدامات عام 1988، قال: “إذا دافع القاضي عن أمن الناس فيجب الإشادة به، وأنا فخور لأنني دافعت عن حقوق الإنسان”.

وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات جزئية على رئيسي، وأشارت إلى أن سبب تلك العقوبات تورّطه في الإعدام الجماعي لآلاف السجناء السياسيين عام 1988.

في خدمة المرشد

من عام 1994 إلى عام 2004 عمل رئيسي مديرًا لهيئة التفتيش العامة المكلفة بالتحقيق في الفساد والمخالفات المالية، ثم بعد سلسلة من الترقيات في صفوف الجهاز القضائي، أصبح رئيسي النائب الأول لرئيس السلطة القضائية في عام 2004، ليصبح فعليًا ثاني أقوى شخصية في النظام القضائي الإيراني، وهو المنصب الذي شغله لمدة 10 سنوات إلى أن وصل في نهاية المطاف إلى رئاسة المحكمة العليا في البلاد.

أما خارج السلطة القضائية، فقد أصبح رئيسي عضوًا في “مجلس الخبراء” (2007-2024)، وهو الهيئة الدينية المكونة من 88 عضوًا والمسؤولة عن انتخاب المرشد الأعلى القادم عندما يغادر آية الله خامنئي.

وجدير بالذكر أن رئيسي ظل دائمًا مخلصًا للمرشد، ومن خلال مناصبه لعب دورًا رئيسيًا في قمع المعارضين، وخصوصًا بعد أن أثارت الانتخابات الرئاسية في عام 2009 أسابيع من الاحتجاجات العامة، حيث دعم رئيسي حملات القمع والاعتقالات الجماعية عندما كان نائبًا لرئيس السلطة القضائية، وأعلن أنه يجب إعدام المتظاهرين.

واستمر رئيسي في الترقي في المناصب، ففي 7 مارس/ آذار 2016 قام خامنئي بتعيين رئيسي وصيًا على مؤسسة الإمام الرضا، وهي أضخم شبكة وقف ديني في طهران، إذ تدير مجموعة واسعة من الشركات والأوقاف في البلاد، ولا تخضع لأي محاسبة أو سلطة إلا للمرشد الأعلى، كما تقدر قيمتها بعشرات المليارات من الدولارات لأنها تمتلك ما يقرب من نصف الأراضي في مشهد.

ويرى المراقبون أن هذا التعيين كان بهدف تعزيز نفوذ رئيسي لدى النخبة الدينية ورجال الأعمال في البلاد. فعند تعيين رئيسي في مؤسسة الإمام الرضا، وصفه خامنئي بأنه “شخص جدير بالثقة ويتمتع بخبرة واسعة”، وهو ما أدّى إلى تكهُّنات بين كبار ضباط الحرس الثوري الإسلامي بأن رئيسي هو المرشح الثالث لمنصب المرشد، وعاملوه كمرشد مستقبلي.

قبضة من حديد: من القضاء إلى الرئاسة

في عام 2017 خاض رئيسي الانتخابات الرئاسية ضد حسن روحاني الذي كان يُنظر إليه كسياسي معتدل، لكن باءت محاولة رئيسي لإزاحة روحاني بالفشل، وفاز الأخير بأغلبية ساحقة، ومع ذلك لم يخسر رئيسي كل شيء، وعيّنه خامنئي رئيسًا للمحكمة العليا من عام 2019 إلى عام 2021 قبل أن يبدأ حياته في الرئاسة.

ولم تردعه الهزيمة الانتخابية الأولى، وتنافس رئيسي للمرة الثانية عام 2021 في الانتخابات الرئاسية، وحصل على الدعم الكامل من المرشد الأعلى، لكن انتشرت تقارير بأن النخبة الحاكمة قامت بتصميم عملية الانتخابات بعد أن استبعد مجلس صيانة الدستور المرشحين الذين شكّلوا التحدي الأكبر لرئيسي.

وبالفعل أصبح رئيسي الشخصية المهيمنة في الانتخابات، ومن السلطة القضائية وصل إلى رئاسة إيران. ورغم أنه حصل على نسبة بلغت 62% من الأصوات، لكن نسبة مشاركة الناخبين كانت الأدنى منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية، إذ بلغت 41%.

ومع تضرر الاقتصاد الإيراني بسبب سنوات من العقوبات، وعد رئيسي بتحسين الأمور الاقتصادية، لكن بدلًا من ذلك شهد الاقتصاد مزيدًا من التدهور مع ارتفاع التضخم وتزايد البطالة، بجانب انخفاض العملة الإيرانية إلى أدنى مستوياتها، لكن الأهم من ذلك عودة نهج رئيسي القاسي مرة أخرى، عندما اجتاحت البلاد مظاهرات قادها الشباب ضد حكم رجال الدين والظروف الاقتصادية في أواخر عام 2022.

ألقى رئيسي باللوم على الجهات الأجنبية في المظاهرات، وسُحقت انتفاضة الشباب بوحشية، وانتهت بمقتل حوالي 500 شخص عندما تدخلت قوات الأمن لتفريق الاحتجاجات، واعتقال أكثر من 22 ألف، وأيضًا أُعدم 7 أشخاص لدورهم في الاحتجاجات.

ورغم أن رئيسي حقق نجاحًا دبلوماسيًا بعد توقيع اتفاق مفاجئ لاستعادة العلاقات مع السعودية، إلا أنه عمل خلال السنوات الثلاث التي قضاها في الرئاسة على مواصلة السياسة الخارجية لأسلافه وتوسيع نفوذ إيران، ولم تتغير سياسة إيران في سوريا، وتعرضت أحياء إدلب السكنية لقصف عنيف من الميليشيات المدعومة من طهران.

كذلك هدد رئيسي أذربيجان أكثر من مرة وعزز من الحشود العسكرية في المنطقة الحدودية المحاذية لأذربيجان، والواقع أن هيبة إيران على الصعيد الدولي اهتزت في عهد روحاني بشكل كبير، خاصة بعد مقتل قادة الحرس الثوري في سوريا.

نار هادئة: تأثير وفاة رئيسي

هذه هي المرة الأولى التي تخسر فيها إيران رئيسًا استثمرت فيه المؤسسة الدينية بشكل كبير وشرعت في إعداده لقيادتها. ويتوقع آراش عزيزي أن صراعًا شرسًا على السلطة سينشأ بعد وفاة رئيسي المفاجئة، كذلك اعتبرت مريم رجوي، رئيسة المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، أن موت رئيسي يمثل ضربة استراتيجية هائلة، وقد يجلب عواقب على مستقبل البلد.

لكن نظرًا إلى الديناميكيات السياسية المعقدة في إيران، فمن المبكّر التكهُّن بأن الفصل الأخير من التجربة الدامية للنظام الإيراني قد شارف على التفكُّك. بالنظر إلى هيكل السلطة في إيران، فمن غير المرجّح أن تثير وفاة رئيسي أزمة سياسية كبيرة أو عواقب على علاقة إيران بالمنطقة. لن يغير موته شيئًا من الفاعلية والتواجد الايرانيَّين بالخارج، فالرئيس ليس وحده صانع القرار النهائي، ويبدو واضحًا أن سلطة اتخاذ القرار النهائي في إيران تقع بشكل كبير على عاتق المرشد الأعلى والحرس الثوري.

وقبل ساعات قليلة من الإعلان الرسمي لوفاة رئيسي، لوحظ حضور لافت لقوات الأمن بالزيّ الرسمي والمدني في وسط المدن. كما ألقى خامنئي خطابًا لاحتواء تداعيات وفاة رئيسي، وطمأنة الناس على أن إدارة شؤون البلاد لم تتغير نتيجة هذا الحادث، ويشير هذا الخطاب إلى أنه من غير المتوقع القيام بتغيير جذري، وأن نفس السياسات الإيرانية ستستمر ولن نرى أي تحول كبير نتيجة وفاة رئيسي.

ربما الجانب الأهم من وفاة رئيسي ليس الفراغ الذي تركه في النظام السياسي، بقدر ما أثار أسئلة حول الاتفاق على ارتداء عباءة خامنئي الذي يحكم البلاد منذ عام 1989 ويبلغ من العمر 85 عامًا، ولم يشغل هذا المنصب سوى رجلَين منذ الثورة الإسلامية عام 1979.

وبحسب المراقبين، كان رئيسي أحد المنافسين المحتملين، والشخص الآخر هو مجتبى نجل خامنئي البالغ من العمر 55 عامًا، لكن مع ذلك يعترض البعض على انتقال المنصب إلى أحد أفراد أسرة خامنئي، خاصة بعد أن أطاحت الثورة بالنظام الملكي الوراثي للشاه. وما زال هناك إرث مشحون لمفهوم الحكم الوراثي، بجانب أن قادة الثورة الإسلامية عام 1979 عارضوا بشدة أي نوع من النظام يشبه النظام الملكي الذي أطاحوا به.

ومن الممكن القول إن تعيين خامنئي الأصغر سيكون محفوفًا بالمخاطر، مع العلم أنه شخصية غامضة وليس لديه شعبية أو دعم حقيقي بين الجماهير، ولم يشغل أي منصب حكومي ولم يظهر للعلن إلا نادرًا.

نون بوست

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى