رحيل القاص اليمني أحمد محفوظ عمر: التفرد الأسلوبي الواقعي القصصي

غيّب الموت يوم 27 يناير (كانون الثاني) 2024، في مدينة عدن، الكاتب القصصي، أحمد محفوظ عمر (1936- 2024)، أحد رواد القصة القصيرة في اليمن وصاحب ثاني مجموعة قصصية يمنية “الإنذار الممزق” (1960)، بعد مجموعة “أنت شيوعي” (1957) لصالح الدحان، رائد فن القصة في اليمن.

ترك أحمد محفوظ عمر حزمة إصدارات قصصية هي: “الإنذار الممزق” (1960)؛ “الأجراس الصامتة” (1974)؛ “يا أهل هذا الجبل” (1978)؛ “الناب الأزرق” (1980)، صدرت على التوالي قبل أن يتم جمعها في كتاب الأعمال القصصية الكاملة (2010)، وهناك أيضًا كتاب خامس بعنوان “قطرات من حبر ملون”، هو عبارة عن مقالات نشرها الكاتب في جريدة الأيام ثم صحيفة 14 أكتوبر الصادرتين في عدن. وله مجموعة قصصية وروايتان لم تصدر بعد.

يقول الناقد والأكاديمي اليمني، إبراهيم أبو طالب، لـ”ضفة ثالثة”، إنه قد وضع أحمد محفوظ عمر في دراسته للدكتوراه والمطبوعة بعنوان: “تطور الخطاب القَصصي من التقليد إلى التجريب… القصة اليمنية نموذجًا”، (دار غيداء، عمَّان، ط1، 2017)، في المرحلة التقليدية التي تمتدُّ زمنيًّا بين عامي (1957- 1970)، حيث يعدُّ واحدًا من جيل الرواد الذين رسخت على أيديهم فنية القصة القصيرة.

ويلفت أبو طالب إلى أن من أبرز ملامح تلك المرحلة أنها استطاعت أن تحقِّق وجودًا فنيًّا يستحق الانتماء إلى النوع الأدبي؛ حيث اتضحت البُنية القصصية من خلال تجارب القاصين في هذه المرحلة التي أوجدتْ القصة القصيرة بصفاتها الفنية التقليدية كما شاعت لدى كتَّابها العالميين، “ولعل من الملامح العامة التي نسجِّلها عن هذه المرحلة ظهور الواقعية كاتجاه عام مؤثِّر”، وكانت واقعية منتصف الخمسينيات في اليمن امتدادًا مباشرًا لريح الواقعية التي عمَّت الوطن العربي، لكن أخطر ما عانته القصة في تلك الفترة – وبخاصة في بداية المرحلة- هو وقوعها في أسر السياسة؛ حيث أصبحت أداةً من أدواتها المباشرة. وهنا نشير إلى ما كتبه أحمد سعيد باخبيرة في مقدمته لمجموعة “الإنذار الممزق” ط2، 1983: “والفكرُ وسيلة خطيرة في أيدينا من جملة الوسائل التي يجب أن نلقي بها في المعركة، والقصَّـة كنتاج فكري تشكِّل بالتالي سلاحًا غير بسيط”. ومن هنا، يتابع أبو طالب، فالقصة في نظرهم لا تختلف عن البندقية والمدفع ولا غرابة في أن يكون معظم كتَّاب القصة في تلك الفترة هم في الأصل كتّابٌ سياسيون.

تقنية “الفلاش باك”

ويستحضر أبو طالب، أيضًا، ما قاله سلام عبّود، أن: الواقعية في اليمن قد أنجبت قاصّين لهم تفرداتهم الأسلوبية المميزة في إطار القصة اليمنية، “فقد نحا علي باذيب باتجاه الواقعية ذات المضمون السياسي، وسعى محمد عبد الولي إلى تصـوير الواقع بلمسات إنسانية فسيحة، وكان أحمد محفوظ عمر يبحث عن عيوب مجتمعه الأخلاقية…”.
وحين نقترب من عالمه القصصي على سبيل المثال في قصة “مسألة كرامة” من مجموعة “الإنذار الممزق”، فإننا نجد الحدث القصصي لديه في هذه القصة يبدو أكثر تماسـكًا، وهو يعتمد تقنية “الفلاش باك” flash back في السرد؛ حيث يبدأ باسترجاع أحداث من حياة الطفل من سنِّ الرابعة حتى سنِّ الشَّباب، وذلك من خلال الانتقالات السردية التالية: “إنه يمسك بخيط ذكرياته من الطرف الأوَّل أيام موت أبيه… وهو في الرابعة من عمره، وعندما بقيَ تحت رعاية أمِّه الأرملة…”، “وأخذه عمه إلى منطقة كريتر؛ حيث كان يعيش، وألحقه بالمدرسة الابتدائية هناك… نشأ صاحبنا مُدللًا يغتابُ الناس… وما إن تدرَّج إلى المتوسطة حتى غادرها بحجة أن أحد المعلمين عنَّفه لإهماله أعمال المنـزل… وعندما بدأ صوته يغلظ وساعدُه يشتدُّ، أخذ يقضي جُلَّ وقته في الأندية ووسط صخب المقهى”، وتمضي الأيام ويرفضُ عمُّه ذات يوم أن يسمح له بالخروج ليلًا كعادته، فيهدد بالعودة إلى أمه، فيمنعه، فيحزم أمتعته ويذهب إلى أمه، وهنا ينتهي “الفلاش باك”، وتبدأ الأحداث في حياته الجديدة مع أمِّه، وعلى الرغم من أنَّ ما مضَى من أحداث أرادَ منها القاصُّ التمهيد للتعريف بالشخصية من خلال ماضيها ليصور لنا ضعفَ شخصية الشَّاب بسبب نشأته الأولى في تدليلٍ جعله هروبيًا، يهرب من المدرسة لمجرد تعنيف الأستاذ، وتصاحبه هذه الحالة مع كل موقف يستلزم ثباتًا ومواجهةً، ومن هنا نلتمسُ مبررًا للتطويل بمعنى أنه يعمدُ إلى ذلك عن إدراك لأهمية “الفلاش باك” لما سيبني عليه من أحداث لاحقة في العيش مع أمِّه الأرملة التي يأخذ منها المصـروف يوميًا دون أن يسأل عن مصدر تلك النقود، حتى يكتشف متأخرًا بنفسه بعد كلام الناس أنها تبيع نفسها، وحين يكاشفها بما رأى وسمع ليلًا تضربه، فيهرب تاركًا المنـزل ليبحث عن عمل لدى نجار يغلظ عليه؛ لأنه كان “يريد أن يخلق منه إنسانًا خَشنًا بعد أن لمس فيه الميوعة بكامل صورتها”،  ولكنه يهرب منه ويأخذ بقية حسابه، فيصرفه في أيام يعود بعدها إلى أمه خانعًا، ليأخذ مصروفه منها “ونسي الكرامة إلى الأبد”.

ووفقًا للناقد أبو طالب: هنا نجد أن القصة ذات بداية يظهر فيها الحدث واسعًا وممتدًا بما يمثل إلى حدٍّ ما فضاءً روائيًّا وإن كان القصدُ منه – كما أسلفنا- بيان نشأة الشخصية الضعيفة بما سيترتب عليها من فهمنا لحاضرها، ولكنَّها قد أثقلت القصة؛ ومن حيث البنية فإن القصة تسير في خط سَبَـبي منطقي بوحداتها الثلاث من بداية ووسط ونهاية شأن غيرها من القصص التقليدية. وأكد أن أحمد محفوظ عمر يعد من القاصِّين اليمنيين القلائل الذين تخطّوا الحدود المحلية من خلال النشر في بعض الصحف العربية كالآداب التي كان ينشرُ فيها محمد عبد الولي، فقد نشر قصة “العيون الملطخة بالطين” في مجلة الآداب اللبنانية، العدد 4، السنة 22، أبريل 1974. كما لاقت مجموعاتهم التقديم من قِبل كتَّاب مصريين كتقديم يوسف الشاروني لمجموعة “الأجراس الصامتة”.

وختامًا، يلاحظ أبو طالب، أنه باستقراء النصوص القصصية، ظهر أن المرحلة التقليدية قد غلبت على مجموعاتها الوظيفة السَّردية، والوظيفة المباشرة (التنسيقية)، والوظيفة الإبلاغية التواصلية، وزيادة عليها ظهرت الوظيفة الأيديولوجية كرافدٍ جديدٍ فيما يتعلَّق بالمضمون الوطني في قصص هذه المرحلة كقصِّة “الإنذار الممزق”، وكذلك القضايا الاجتماعية ذات الطابع الوعظي الأخلاقي والتنويري كقصص: “مسألة كرامة، وجريرة العدل، ولعنة الكأس، وخطيئة زينب” وغيرها لأحمد محفوظ عمر.

صدام الزيدي – ضفة ثالثة

Exit mobile version