الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعجبه الفأل، ويُحبّه، ويستبشر خيرًا بالكلمة الطيبة واللفظ الحسن؛ يقول الحافظ ابن حجر: «… وإنما كان صلى الله عليه وسلم يُعجبه الفأل؛ لأن التشاؤم سُوء ظنّ بالله تعالى بغير سبب مُحقّق، والتفاؤل حُسْن ظنّ به».
والتفاؤل هو نزوع النفس للنظر إلى الجوانب الفضلى من الأمور، وتوقُّع ما هو خير في الحياة، وأصل ذلك هو حُسْن ظن العبد بربه.
والأمة اليوم في حاجة ماسة للشعور بالأمل في التغيير، والاستبشار بأن مع العسر يسرًا، وأن بعد العسر فرجًا، وأن مع شدة الألم والتضييق يأتي الفرج والسَّعة، وبعد الخوف والجوع تأتي الأمنة والسلامة، ويحدوها الأمل بزوال الظلم، والتفاؤل بهزيمة الباطل واندحار مخططات الأعداء وكيدهم، وإن عظُم تآمُرهم، وكبر مكرهم.
وحقيقة التفاؤل أنَّه قوة دافعة تشرح الصدر للعمل، وتبعث النشاط في الروح والبدن، وشهر رمضان يحمل معاني التفاؤل إلى النفوس المؤمنة، ويمنح الأمة كلها فسحة الأمل.
ويأتي رمضان شهر الخيرات والبركات، ومن خيراته وبركاته أنه مدرسة للمؤمن في جوانب عديدة، فهو مدرسة في التقوى، ومدرسة في الصبر، ومدرسة في العطاء، وأيضًا مدرسة في التفاؤل، وكيف لا يكون رمضان شهر التفاؤل وفيه تُفتح أبواب الجنان، وتُغلق أبواب النيران، وفيه تتضاعف الحسنات، وتنتشر الرحمة والتواصل والبرّ بين الناس، وفيه يَقصر باغي الشر، ويَرجع المذنب، ويتوب العاصي؛ فتقترب الأمة من صفة عبوديتها لله، وتتعرَّض لنفحات التغيير؛ فإن الله لا يُغيِّر ما بقوم من ألم وشدة، وضيق وهوان حتى يغيروا ما بأنفسهم من ضعف وغفلة.
وما انفكَّ هذا الشهر «شهر رمضان» أن يكون محلًّا ومضمارًا لأمجاد وبطولات وانتصارات هذه الأُمَّة عبر التاريخ، فكم تغيَّر حال المسلمين فيه من هزيمة إلى نصر! ومن ضعف إلى قوة!
وانظر كيف تغيَّر حال المسلمين في المدينة بعد انتصارهم في غزوة بدر الكبرى في رمضان! وكيف تغيرت حالهم، وصاروا أعزَّة، ودانت لهم العرب جميعًا بعد فتح مكة في رمضان! وما أبلغ وصف الله لحال المسلمين: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: ٣٢١] .
وكثرت الانتصارات في رمضان؛ فكان فتح مكة، وموقعة البويب بقيادة المثنى بن الحارثة، وفتح جزيرة رودس في البحر الأبيض المتوسط، وفتح الأندلس، وفتح عمورية، وتحرير مدينة صفد، وفتحت أرمينيا الصغرى، وموقعة عين جالوت، ومعركة شقحب، وفتحت بلاد البوسنة والهرسك، وغيرها، وكأن رمضان ضرب موعدًا مع النقلات الكبيرة في تاريخ أُمتنا.
ومع ما بلغت الأمة اليوم من ضعف وهوان، يبقى حبل عزّتها موصولًا بتمسكها بدينها، وما من موسم أرجى من رمضان أن تعود فيه الأمة إلى ربها فينصرها على عدوّها.
ورمضان شهر الصبر، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول: «شهرُ الصبر، وثلاثةُ أيام من كل شهر: صومُ الدَّهر». فسمى النبي صلى الله عليه وسلم رمضان شهر الصيام بشهر الصبر، وفيه أنواعه كلّها؛ صبر عن المعاصي، وصبر على الطاعات، وصبر على أقدار الله.
والصبر مآله الفلاح؛ يقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: ٠٠٢]، وهو اسمٌ جامع للظفر بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، والصبر مآله الإمامة مع اليقين؛ كما في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَـمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
والصبر والأمل صنوان؛ فلا يكون الصبر إلا بالأمل في المآل، وانتظار الفَرَج أو توقُّع الثواب، ومُؤمِّل في نصرٍ من غير صبرٍ، كمن يَرتجي من الماء جذوة النار.
أما القرآن فشهره رمضان، وفيه نزل، وملازمة القرآن تُهيِّج في النفس الصبر على الطاعات والمحافظة على الصلوات المفروضة، وصلاة القيام والتهجد بالأسحار.
فالمحافظة على الصلوات في جماعة، وصلاة التراويح، وتحرّي ليلة القدر، وقراءة القرآن والاعتكاف، والذكر، والدعاء بخير الدنيا والآخرة، وبقبول العمل؛ من أعظم الأعمال في رمضان، وهي زاد الروح وغذاء القلوب لمواصلة المسلم سيره في هذه الحياة بثبات واستقامة.
فرمضان شهر الصبر كما ذكرنا، فالصيام يُربّيك على الامتناع عن الملذات، والقرآن يربيك على الصبر والطاعات. وكلاهما يُعيدان صياغة حياتك صياغة جديدة.
وانظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُوصيك أن تنتزع نفسك من براثن الشر بداخلك فيقول: «مَن لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»، وقال: «إذا كان يومُ صومِ أحدكم فَلا يرفث وَلا يصخب، فإِن سابَّه أحد أو قاتلَه فليقل: إِني امرؤ صائم»؛ وقال: «رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُبَّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر».
وما معنى هذا إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يضع للأمة برنامجًا للارتقاء والتغيير، بأن تفعل ما تصون نفسك به عن المعاصي وتصقلها بالطاعات، ثم تدفعها للارتقاء، وهذه درجة لا تتأتى إلا بعد مُجابهة حقيقية مع مواطن الضعف والخلل في نفس الفرد فتنزعها، ومواقع الضعف والثلم في جسد الأمة فتسدّها.
ورمضان شهر الصوم، والصوم عبادة فردية محضة لا يطّلع عليها أحد إلا الله، لكنَّه مع ذلك يقوم على عبادات جماعية تُعِين المسلمَ على التغيير نحو الأفضل؛ فالناس يصومون جميعًا، ويقومون الليل جميعًا، ويزيد حضورهم للجُمَع والجماعات، ويُظْهِرون اعتناءَهم بالقرآن، وهذا مما يقوّي التحفيز، ويُشعل الحماسة في نفس المسلم.
رمضان شهر الوحدة والائتلاف، والوحدة مصدر قوة الأمة ووقود انتصاراتها على مرّ تاريخها؛ فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، تراهم يصومون، ويجتمعون على معنى واحد وهو التوحيد لله والوحدة والائتلاف، والمسلم يشعر بألم أخيه في أقاصي الأرض وإن اختلف معه في لون أو جنس أو لغة.
رمضان يشدنا أن نبتعد عن ذواتنا الأنانية لنفكّر بمعنى أكبر في أُمتنا؛ في فقيرها، في ضعيفها، في المنكسرين منها، والمشردين فيها من دون مأوى، لذلك فالصيام في رمضان والصدقة والقيام ورفع الأيادي والدعوات وانهمار الدمعات على الوجوه؛ كلها تربط المسلم بمعنى التغيير الكبير الذي يبدأ من النفس، لكنَّه لا ينتهي بها ولا عندها، وترسل له رسالة أن جهود الإفساد والتغريب يكسرها رمضان.
إن شهر رمضان أشبه بحملة تغيير عامة في المجتمع، يحدوه الأمل والتفاؤل للخروج من كبوته.
وفي لحظات الشدة تنكشف غطاءات كل الحُجَب والأوهام، ويسقط كلّ المرتابين المترددين وينبت الإيمان، ويزدهر في قلوب التائبين المتعلقين بالله والواثقين في نَصْره. كما في الصيام عندما تنقشع عن النفس مصادر اللذة فتصفو النفس لترى الحقيقة، وفي رمضاننا هذا اجتمعت لنا مُجلّيات واقع نفوسنا وحال أُمتنا، ومع كثرة آلامها يحدونا الأمل أن يُهيِّئ الله لنا مخرجًا من الكرب ومركبًا إلى النصر.
.
المصدر : مجلة البيان