ورد فراتي
ليس هناك قرار فلسطيني مستقل.. فلسطين هي جنوب سوريا”، قالها نائب حافظ الأسد عبد الحليم خدّام بصوت حازم للسياسي اللبناني وليد جنبلاط بحسب الأخير خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990)، حين كان خدّام مسؤولًا عن الملف اللبناني في نظام حافظ الأسد، الذي كان الحاكم الفعلي للبنان مع انتشار قوات الجيش السوري فيه كأكبر مستفيد من الحرب.
لخصّت كلمات خدام رؤية النظام وملامح سياسته الإقليمية، التي امتازت بالفاعلية في محيطها، فتدخل بجيشه في لبنان وفرض عليه وصايته ثلاثة عقود (1976 – 2005م)، ورعى تشكيل مليشيات لبنانية شيعية بالتنسيق مع إيران، ودعم فصائل فلسطينية تابعة له عمليًّا وضغط على أخرى لاستلاب قرارها، كان هذا دوره مع الجار الغربي. جنوبًا، لم تسلم الأردن من تدخلاته الأمنيّة، وشرقًا، سهّل النظام السوري مرور المقاتلين المسلمين والعرب إلى العراق إبان الغزو الأميركي له عام 2003، مع تسهيل إنشاء مراكز دعم لوجستي لفصائل المقاومة العراقية في سوريا، الأمر الذي صنع وزنًا سياسيًّا لا يستهان به لنظام حافظ الأسد، الذي جمع إلى براعته في استثمار الملفات الإقليمية لتدعيم موقعه، قبضة حديدية داخل سوريا تمكنت لأربع عقود من اجتثاث كل خطر يهدده، معتمدًا على شبكة معقدة من الأجهزة الأمنية، مع نزوعه إلى استخدام القوة بشكل مفرط لقمع أي حراك داخلي واجهه منذ وصوله إلى الحكم.
مرت أكثر من ثلاثين سنة على كلمة خدام، غادرت السيادة النظام دون أن يسقط، تقاسمها مع الأغراب قربانا لمجرد البقاء.
في يوم الأربعاء 21 فبراير/شباط الماضي قتلت غارة إسرائيلية شخصين إثر استهدافها بناءً سكنيًّا في حي كفرسوسة وسط العاصمة السورية دمشق. وقيل إن القتيلين ينتميان إلى صفوف الحرس الثوري الإيراني، الذي صفّت إسرائيل ستة على الأقل من المنتسبين إليه في سوريا بين ديسمبر/كانون الأول 2023 فبراير/شباط 2024، بينهم رضا موسوي الاستشاري البارز في صفوف فيلق القدس الإيراني، وسط تزايد عدد الغارات الإسرائيلية على أهداف إيرانية في سوريا بشكل ملحوظ منذ عملية طوفان الأقصى في محيط قطاع غزة، بل خلال العامين المنصرمين، إذ شهد عام 2023 40 غارة إسرائيلية على أهداف إيرانية أو مرتبطة بالأنشطة الإيرانية مقابل 28 غارة عام 2022، ويبدو أن العام الجاري سيسجل ارتفاعًا في عدد الغارات التي لا تخشى إسرائيل رد سوريا عليها، مع استمراء نظام الأسد “الاحتفاظ بحق الرد”.
في البدء كانت الثورة:
انطلقت عام 2011 الثورة السورية باحتجاجات سلمية توسعت تدريجيًّا حتى عمّت البلاد بمدنها وبلداتها وقراها، ولم تلبث أن انتقلت إلى التسلح في مواجهة القمع الشديد للنظام الذي لم ينتظر طويلًا قبل الانتقال من استخدام الأجهزة الأمنية إلى الزجّ بجيشه في مواجهة الأهالي العزّل، معتمدًا على الانسحاب من المناطق الريفية في الأطراف وتشكيل حواجز عسكرية أشبه بالقلاع في نقاط ارتكاز على الطرق الرئيسية وداخل المدن والبلدات الهامة، منعًا للدخول في حرب عصابات ضد مجموعات الثوار، وسعيًا لجرهم إلى مواجهات مباشرة (معارك تحرير وسيطرة) تفقدهم زخمهم.
لكن الحاضنة الواسعة للثوار، وحركة الانشقاقات المتزايدة عن جيش النظام عززت قوى الثورة، وأعلن عدد من الضباط المنشقين تشكيل لواء الضباط الأحرار في يونيو/حزيران عام 2011 داعين الضباط إلى الانضمام إليهم، ثم لم يلبث العقيد المنشق رياض الأسعد أن أعلن عن تشكيل الجيش السوري الحر نهاية يوليو/تموز عام 2011، الذي أصبح مظلة اصطفّ تحتها حملة السلاح من الثوار والمنشقين، متمكنين مع بدايات عام 2013 من إخراج ما يقارب ثلثي البلاد عن سيطرة النظام.
بيد أن هذا التمدد الميداني لم يرافقه تمثيل سياسيّ جامع منذ البداية، حيث عارضت عدة شخصيات وتجمعات سياسية سورية تشكيل المجلس الوطني السوري في أكتوبر/تشرين الأول عام 2011، ليندمج المجلس بعد عام مع كيانات معارضة أخرى في العاصمة القطرية الدوحة معلنين تشكيل “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”. وقد اعترفت بهذا الائتلاف 114 دولة ممثلًا شرعيًّا للشعب السوري، مشكِّلة بذلك مجموعة أصدقاء الشعب السوري. كما منحت جامعة الدول العربية مقعد سوريا للائتلاف الوطني في مارس/آذار عام 2013، نازعة بذلك الشرعية العربية عن النظام، ومعلنة دعم “سوريا الثورة”.
مع القطيعة الدولية، بقي النظام يدور في فلك روسيا والصين، اللتين استخدمتا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن مطلع عام 2012، لرفض مشروع قرار لجامعة الدول العربية يدعو بشار الأسد إلى التنحي، وذلك بعد تعليقها أعمال بعثة المراقبين التي أرسلتها إلى سوريا أواخر عام 2011 نتيجة عدم التزام النظام ببنود الخطة العربية التي كان من أبرزها وقف الأعمال القتالية.
التدخل الإيراني:
رفع رئيس الولايات المتحدة الأميركية باراك أوباما أصبعه مشيرًا إلى تورط إيران في دعم النظام السوري في أبريل/نيسان عام 2011 ، تلته تقارير عدة تتحدث عن تقنيات مراقبة ورصد، وتجهيزات “مكافحة الشغب” زودت بها إيران النظام السوري، أعقبتها تقارير أخرى تحدثت عن مشاركة ضباط واستشاريين إيرانيين في إدارة قمع الاحتجاجات بل وعناصر ميدانية شاركت فيها بشكل مباشر، أما أول تصريح إيراني بمشاركة قوات عسكرية في سوريا فجاء على لسان نائب رئيس فيلق القدس في مايو/أيار عام 2012، ولكن الموقع الإيراني الذي نشر التصريح لم يلبث أن حذفه.
لم تجدِ التدخلات السريّة في وقف خسارة النظام للأراضي أمام الموجة الثورية، فأعطت إيران الإشارة لذراعها اللبناني للتدخل العلني، حيث شاركت تشكيلات حزب الله جيش النظام في معركة السيطرة على بلدة القصير التابعة لمحافظة حمص السورية على الحدود السورية اللبنانية في مايو/أيار عام 2013، التي كان الجيش الحر قد فرض سيطرته عليها سابقًا، لتتدفق بعدها المليشيات الشيعية بقيادة الحرس الثوري الإيراني إلى سوريا، حيث جاوز عددها 35 ألف مقاتل عام 2014، ثم جاوز 100 ألف مقاتل ضمن صفوف 50 مليشيا متعددة الجنسيات عام 2020.
ثوار شتّى ومليشيات مجتمعة:
لم يقتصر الوجود الأجنبي المبكر في سوريا على صفوف النظام وحلفائه، حيث انخرطت بشكل متزايد أعداد من المتطوعين العرب والمسلمين في مواجهة قوات النظام. وقد دخل جلهم البلاد مستفيدين من خسارة النظام عددًا من أبرز المعابر الحدودية مع دول الجوار، وانضمّ أغلبهم إلى صفوف الفصائل السلفية، وأبرزها جبهة النصرة وحركة أحرار الشام الإسلامية، مع فارق رئيسي هو أن هؤلاء المقاتلين دخلوا أفرادًا دون رعاية دولية مباشرة لطرق إمدادهم.
وشكلوا بناهم ومساحة تحركهم ضمن صفوف المجموعات المحلية السلفية إلى جانب الجيش الحر، تحت الأعين المتوجسة للدول الداعمة للثورة السورية، التي صنّفت كبراها (الولايات المتحدة الأميركية) جبهة النصرة تنظيمًا إرهابيًّا أواخر عام 2012، واستمرت في تصنيف التشكيلات التي شكلت “النصرة” نواتها بالطريقة نفسها، حيث أدرجت آخر تشكيل منها (هيئة تحرير الشام) على قوائم الإرهاب أواسط عام 2018.
ظهور تنظيم الدولة:
كان الثوار بجيشهم الحر وفصائلهم السلفية وناشطيهم بل والمجتمعات المحلية الحاضنة لهم الخاسر الأكبر من ظهور تنظيم الدولة ثم تغوله على المناطق المحررة، حيث خاض التنظيم حربًا شعواء عليهم بسط سيطرته فيها أواسط عام 2014 على أكبر مساحة محررة متصلة، تجاوزت ثلث البلاد، وامتدت من الحدود السورية العراقية شرقًا إلى ريف حلب الشرقي شمالًا وإلى حدود محافظتي حماة وحمص وسط البلاد عبر البادية السورية، مع ما لهذه المنطقة من أهمية إستراتيجية في ربط المناطق المحررة شمالًا وجنوبًا، وأهمية اقتصادية لكونها تشكل خزان البلاد النفطي وسلّتها الغذائية، فضلًا عن حرمان الثورة من أحد أبرز حواضنها المجتمعية، وذلك انطلاقًا من خطاب اعتبر فصائل الثورة “كفارًا مرتدين”، بل كفّر المجتمع نفسه وكل من لا يرضخ له بالبيعة لأميره.
ولم يقتصر أثر ظهور التنظيم على المناطق المحررة وحسب، بل دفع بجرائم مثل سبي النساء والإعدامات الجماعية والفردية التي تفنن في بشاعتها وجودة تصويرها، فضلًا عن رفضه الاعتراف بالحدود الدولية وخطابه العدمي حول قتال كل من لا يذعن له عربًا وعجمًا، إلى مقاربة دولية معلنة أكثر بعدًا عن تأييد الثورة، وأقرب إلى موقف بينها وبين النظام.
لماذا لم يسقط النظام؟
تفترض الصورة العامة للمشهد السوري -حتى بداية عام 2013 على الأقل- ميلان الكفة لصالح الثوار في سوريا، مع تشكل بنى عسكرية جامعة للحراك المسلح، وسيطرتهم على ثلثي البلاد، تحت مظلة كيان سياسي حاز اعترافًا دوليًّا وعربيًّا واسعين، في مواجهة نظام اقتصر دعمه السياسي على دول محدودة، وسط انهيار جيشه واعترافه بهزيمته عسكريًّا مع استنجاده بمليشيات أجنبية لخوض معاركه، لكن هذه الصورة لن تبقى كما هي مع الاقتراب من تفاصيلها.
لم يكن حلف داعمي الثورة الذي ضم دولًا عدة على قلب رجل واحد، فأكثرها لم يكن يقاسم الثوار ضرورة إسقاط النظام، وهو ما أظهره شكل التسليح الذي تلقته الفصائل من قبل الدول الداعمة، والذي لم يكن كافيًا لإنجاز حسم عسكري، ولا توجد مبالغة في القول إنه كان معدًّا بدقة للحفاظ على قدرة الثوار على الصمود في مواجهة ترسانة النظام العسكرية التي عززها الدعم الإيراني والروسي بشكل متزايد، شاملًا أسلحة متطورة من شأنها حسم المعركة عسكريًّا، فضلًا عن الخزان البشري العسكري الذي حشدته إيران لتعويض الانشقاقات في جيش النظام، وخسائره البشرية المتزايدة.
وفي الوقت الذي كان فيه حلف النظام يتحرك بصورة متناغمة سياسيًّا في المحافل الدولية وعسكريًّا من خلال غرفة عمليات مشتركة أدارت العمليات على طول البلاد وعرضها، متخفِّفًا من الضوابط، ومتحركًا إلى حدود غير مسبوقة قتلًا وتدميرًا وتشريدًا، لم تنجح فصائل الثورة في إيجاد تنسيق عسكري شمولي فيما بينها ميدانيًّا، ولم تتمكن من الوصول إلى تناغم تحت المظلة السياسية (الائتلاف) بحيث يمثّل المفاوضون إرادة العسكر في الميدان، ويلتزم العسكريون بتعهدات الساسة.
هذه الفروق الرئيسية إضافة إلى ظهور تنظيم الدولة الذي وجه جل جهده العسكري لضرب الفصائل وقضم المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، مع استثمار ظهوره سياسيًّا من قبل النظام لوصم الثورة بالإرهاب، كان من شأنها إمالة الكفة لصالح النظام.
الهزيمة الإيرانية والتدخل الروسي:
رغم التدخل الإيراني الذي ساهم على مدار عامي 2013 و2015 في كسر الطوق الذي فرضته فصائل الثوار على قوات النظام في مدينة حلب، وعزل المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في محيط العاصمة دمشق إلى جزر متفرقة، فضلًا عن امتلاك اليد العليا وسط سوريا في محافظتي حمص وحماة، مع سيطرة تنظيم الدولة على الشرق السوري، وتوسع قوة “وحدات حماية الشعب الكردية” اعتمادًا على الدعم الأميركي حتى شمل نفوذها شمال شرق سوريا وأجزاء من محافظة حلب شمالي البلاد؛ رغم كل ذلك فإن فصائل الثورة أعادت تنظيم نفسها، فشكلت شمالًا غرفة عمليات فتح حلب وجيش الفتح في النصف الأول من عام 2015 بدعم تركي.
وذلك بعد أن أفاقت تركيا متأخرة من سلبيّتها السياسيّة تجاه الملف السوري، مستشعرة خطر الحضور الكردي على حدودها الجنوبية ممثلًا بوحدات حماية الشعب التي تعتبرها أحد أذرع حزب العمال الكردستاني؛ إذ رأت تركيا أن إخراج محافظتي حلب وإدلب عن سيطرة النظام كليًّا بأيدي فصائل حليفة لها، يمكن أن يشكّل حاجزًا بينها وبين قوات النظام وحلفائه، وقاعدة انطلاق لضرب تنظيم الدولة الذي وصل نفوذه إلى حدودها، وكتلة ضاغطة على المشروع الكردي المدعوم أميركيًّا.
تمكن جيش الفتح من السيطرة على محافظة إدلب كليًّا في النصف الأول من عام 2015، في حين منع اجتياح واسع لريفي حلب الشمالي والشرقي من قبل تنظيم الدولة من سيطرة الثوار على محافظة حلب، بعد استنزاف فصائل فتح حلب ذخائرها ونخبتها العسكرية في صد هجوم التنظيم.
عندما شنّ جيش الإسلام انطلاقًا من الغوطة الشرقية معركة “الله غالب” التي بسط سيطرته فيها على الجبال المشرفة على العاصمة دمشق، وسيطر على طريق دمشق – حمص الدولي الذي يعد صلة الوصل بين العاصمة والمنطقة الوسطى والساحلية، أتى التدخل الروسي المباشر في أيلول/سبتمبر عام 2015 لوضع حد للهجوم على محيط العاصمة، وصرح وزير الخارجية الروسي لافروف بعد ذلك بأن العاصمة دمشق كانت ستسقط خلال أسبوعين أو ثلاثة لولا تدخلهم، فيما يشبه إعلانًا عن هزيمة إيرانية أمام الفصائل، ويدعم ذلك تصريح زعيم حزب الله حسن نصر الله، بأن قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، هو من أقنع الروس بالتدخل العسكري المباشر في سوريا بعد زيارة لموسكو شرح فيها حيثيات الوضع العسكري ميدانيًّا.
شنّ الجيش الروسي بعدها برفقة المليشيات الإيرانية وجيش النظام هجومًا واسعًا أواخر عام 2015 على ريف حلب الجنوبي استبسلت فصائل فتح حلب وجيش الفتح في صده، لكنها لم تتمكن من إيقافه إلا بعد سيطرته على جل مساحة الريف الجنوبي، حيث وصل إلى مشارف الريف الغربي، وذلك في وقت تمكنت فيه قوات النظام والمليشيات الإيرانية من جهة، وقوات قسد من جهة أخرى في عملية مشتركة وفّر الطيران الروسي غطاءها من فصل جيب صغير حول مدينة إعزاز بريف حلب الشمالي عن الأحياء المحررة في المدينة في أبريل/نيسان عام 2016، عازلة بذلك المدينة عن الحدود السورية التركية. وبدا واضحًا حينها أن تحرير حلب أصبح أبعد من أي وقت مضى، وأن الحرب قد دخلت منعطفًا جديدًا لا يشبه أيّ منعطف سابق.
سقوط حلب والتحول التركي:
كانت الفصائل بشمال سوريا تحاول تجميع قوتها بترميم صفوفها وبناء خط دفاعي جديد على تخوم ريف حلب الجنوبي، وفي جيب إعزاز المحاصر من تنظيم الدولة وقسد والمليشيات الإيرانية بريف حلب الشمالي، حين حدثت محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا أواسط يوليو/تموز عام 2016، التي تلتها حملة تطهير واسعة في صفوف الجيش والمؤسسات السيادية التركية، وسط جو عام في إدارة رجب طيب أردوغان الذي اتهم الولايات المتحدة الأميركية بدعم الانقلاب. وقد سمح ذلك بتقارب مع روسيا التي شهدت العلاقات التركية معها توترًا حول الملف السوري، بعد دعمها النظام وتدخلها عسكريًّا لصالحه، حيث تمكنت قوات النظام برفقة المليشيات الإيرانية وبغطاء ناري روسي من إحكام الطوق على الأحياء المحررة في مدينة حلب أواخر يوليو/تموز بعد أيام من محاولة الانقلاب.
كسرت فصائل الثورة انطلاقًا من داخل المدينة، ومن إدلب وريف حلب الغربي خارجها، حصار المدينة بعملية سيطرت فيها على حي الراموسة ومنطقة الكليّات العسكرية في النصف الأول من شهر أغسطس/آب، ثم استعادته قوات النظام بعدها بشهر، وفشلت محاولة أخرى شنتها الفصائل لكسر الحصار عن المدينة، التي سيطرت عليها قوات النظام والمليشيات الإيرانية والقوات الروسية في ديسمبر/كانون الأول أواخر عام 2016 بعد اتفاق تهجير خرجت بموجبه الفصائل منها مع من بقي من الأهالي في أحيائها.
بالتزامن مع معارك حلب بدأت تركيا عملية شاركت فيها للمرة الأولى بجيشها بشكل مباشر إلى جانب فصائل الثورة تحت اسم “عملية درع الفرات” في أغسطس/آب، فسيطروا على ريف حلب الشرقي انطلاقًا من إعزاز، ووصولًا إلى ضفة نهر الفرات، بعد طرد تنظيم الدولة من المنطقة، وشنّت قوات سوريا الديمقراطية معركتها ضد التنظيم على الضفة الأخرى للنهر، للسيطرة على محافظة الرقة (عاصمة التنظيم) في نوفمبر/تشرين الثاني بدعم مباشر من الولايات المتحدة الأميركية، وبمشاركة استشاريين من القوات الأميركية الخاصة.
مسار أستانا:
تزامن تقارب روسيا وتركيا ميدانيًّا مع سيطرة الأولى على مدينة حلب، وسيطرة الثانية على ريف حلب الشرقي أواخر عام 2016، فيما اعتبره عدد من التشكيلات العسكرية “اتفاقًا” ضمنيًّا بين الدولتين، أما أولى نتائج التقارب سياسيًّا فكانت قرار مجلس الأمن 2336 الذي أعدت مشروعه روسيا دعمًا لاتفاقها مع تركيا القاضي بوقف الأعمال القتالية في سوريا، حيث أكد القرار على إجراء عملية سياسية واسعة في سوريا استنادًا إلى بيان جنيف وقراري مجلس الأمن 2254 (عام 2015) و2268 (عام 2016)، اللذين يعتبران أبرز المرجعيات الدولية لمشروع حل سياسي في سوريا بتشكيل حكومة انتقالية وإجراء انتخابات عامة بإشراف أممي، لكن دون آليات تطبيق فاعلة.
أما القرار الروسي الذي تم التصويت عليه بالإجماع فجاء بآلية ممكنة نظريًّا على الأقل من خلال اتفاق وقف العمليات القتالية الروسي التركي، وتلا القرار اجتماع وفود ممثلة للمعارضة مطلع عام 2017، وأخرى ممثلة للنظام، برعاية تركية روسية إيرانية في العاصمة الكازاخية أستانا، حيث انضمت إيران إلى المسار الجديد بعد عرقلتها تنفيذ اتفاق وقف العمليات القتالية الذي استُثنيت من مباحثاته.
وقد تكللت جهود مسار أستانا بما عرف باتفاق مناطق خفض التصعيد (أو خفض التوتر) في مايو/أيار عام 2017، الذي اقترحته موسكو خلال جولة مفاوضات أستانا الرابعة، حيث شمل الاتفاق أربع مناطق تسيطر عليها فصائل الثورة، تقع أولاها في الشمال السوري وتضم محافظة إدلب وأجزاء من أرياف حلب وحماة واللاذقية، في حين تضم الأخرى ريف حمص الشمالي وغوطة دمشق الشرقية والجنوب السوري (أجزاء من محافظتي درعا والقنيطرة)، وهذه المناطق لا تشبه المناطق الآمنة التي تتطلب موافقة من مجلس الأمن وفرض حظر جوي، لكنها تفترض حالة بين الحرب والسلم تقل فيها العمليات العسكرية، في حين اعتبر الاتفاق فصائل مثل تنظيم الدولة وجبهة فتح الشام إرهابية، وسط ضبابية في شكل المواءمة بين إنهاء المعارك وقتال فصائل تسيطر على أجزاء من تلك المناطق.
إنهاء تنظيم الدولة وتقاسم الشرق:
لعل تراجع الرئيس الأميركي أوباما أواخر عام 2013 عن توجيه ضربة عسكرية لمواقع النظام السوري، إثر استخدام الأخير السلاح الكيماوي (غاز السارين) في استهداف المناطق الخارجة عن سيطرته شرقي العاصمة دمشق في آب/أيلول عام 2013 الذي أسفر عن مجزرة راح ضحيتها 1400 شخص جلهم من النساء والأطفال، هو أول ملامح التراجع الأميركي في الملف السوري، وذلك بعد اعتبار أوباما “السلاح الكيماوي” خطًّا أحمرَ لن يسمح بتجاوزه.
منذ ذلك الحين أصبح الموقف الأميركي ضوءًا أخضرَ استخدمه النظام وحلفاؤه لمزيد من التوحش في استهداف المناطق المحررة، في حين ركزت أميركا جهودها على رعاية تشكيل قوات سوريا الديمقراطية بقيادة وحدات حماية الشعب الكردية التابعة لحزب الشعوب الديمقراطي (pyd)، الذي تعتبره تركيا ذراعًا سوريًّا لحزب العمال الكردستاني (pkk) المصنف -حتى لدى أميركا- على قوائم الإرهاب.
وقد دعمت الولايات المتحدة الأميركية قوات سوريا الديمقراطية (قسد) للسيطرة على المناطق الواقعة شرقي نهر الفرات وطرد تنظيم الدولة منها، بدءًا من أواسط عام 2017 حتى الربع الأول من عام 2019، لتشكل الأخيرة كيانًا يتحكم في منطقة تتجاوز ربع المساحة السورية، تتكدس فيها الثروات الزراعية والنفطية والمائية، وذلك على امتداد الحدود السورية التركية، وهو أمر اعتبرته تركيا تهديدًا لأمنها.
في حين سيطرت القوات الروسية الإيرانية مع قوات النظام على البادية السورية وجزء من محافظة دير الزور شرقي سوريا على الضفة المقابلة لمناطق سيطرة قسد عبر نهر الفرات، مستثمرة اتفاقها مع تركيا لتهدئة جبهاتها جزئيًّا مع فصائل الثورة، والتفرغ لمسابقة أميركا (التي تدعم قوات قسد) في السيطرة على مناطق نفوذ تنظيم داعش شرقا أواخر عام 2017، متوقفة على ضفاف نهر الفرات الذي أصبح منطقة فاصلة بينها وبين قوات قسد المدعومة أميركيًّا.
محاولة الحسم العسكري الروسي
انطلقت مطلع عام 2018 فعاليات مؤتمر سوتشي للسلام الذي رعته الدول الثلاث روسيا وتركيا وإيران، بهدف معلن هو البناء على اتفاق مناطق خفض التصعيد وصولًا إلى إنجاز حل سياسي في سوريا، إلا أن الروس استثمروا إنجازهم العسكري شرقًا ضد تنظيم الدولة في إطلاق سلسلة من الحملات العسكرية برفقة المليشيات الإيرانية وجيش النظام، بدأت في الغوطة الشرقية المحاصرة منذ مايو/أيار عام 2013، استخدمت فيها سياسة الأرض المحروقة والسلاح الكيماوي، وسيطرت إثرها على الغوطة في فبراير/شباط عام 2018، وفرضت اتفاق تهجير خرج بموجبه الأهالي وفصائل الثوار (على رأسها جيش الإسلام وفيلق الرحمن) باتجاه مناطق سيطرة الفصائل بشمال سوريا.
كما شنّت حملة شبيهة على جيب ريف حمص الشمالي انتهت بتهجير أهله على غرار ما حدث في الغوطة في أبريل/نيسان، ثم سيطرت أواسط العام في يوليو/تموز، على مناطق الفصائل بجنوب سوريا في كل من درعا والقنيطرة، وذلك باتفاق تسوية كانت أبرز فروقه عن العمليات السابقة بقاء فصيل “شباب السنة” بقيادة أحمد العودة ضمن منطقة درعا، وتشكيله “اللواء الثامن” ضمن الفيلق الخامس الذي شكلته روسيا ضمن جيش النظام، ليكون ذراعًا روسيًّا يحكم السيطرة على درعا محليًّا، ويمنع تشكّل نفوذ إيراني في المنطقة. ويبدو أن ذلك جاء استجابة روسية لمخاوف إسرائيلية أردنية أميركية، ثم تعقّد الوضع الأمني في درعا، وانتقلت تبعية اللواء إلى شعبة المخابرات العسكرية تحت السيطرة الروسية.
بعد السيطرة على درعا وإنهاء ثلاث من أربع مناطق شكلت “مناطق خفض التصعيد” لحساب روسيا (برفقة إيران والنظام السوري)، ضغطت تركيا لإبرام اتفاق جديد يحمي آخر مناطق خفض التصعيد (إدلب)، فكان اتفاق سوتشي في أغسطس/آب عام 2018، بين الدول الراعية لمسار الحل الروسي (روسيا وتركيا وإيران)، الذي قضى بعقد هدنة توقِف قصف منطقة إدلب التي تسيطر عليها فصائل الثوار.
خرقت روسيا الثملة بإنجازها العسكري الاتفاق وشنت حملة عسكرية واسعة على المنطقة الرابعة في مارس/آذار عام 2019 على مرحلتين، فسيطرت على معظم ريف إدلب الجنوبي ومناطق من ريف حلب الغربي، لكن استبسال الفصائل في الدفاع عن المنطقة تمكن من إيقاف التقدم الروسي بعد تدخل المدفعية التركية والطيران المسيّر، ليتم توقيع اتفاق جديد في الربع الأول من عام 2020 رسم شكل منطقة إدلب وفق حدود السيطرة العسكرية.
الخريطة السورية اليوم:
منذ بداية عام 2020 لم تشهد خريطة النفوذ والسيطرة في سوريا تغيرات تذكر، في الشرق تحتفظ قوات قسد بسيطرتها على جل مساحة المحافظات الثلاث (دير الزور والرقة والحسكة)، مع انتشار عدد من القواعد العسكرية الأميركية التي توفر الحماية لقوات قسد في المنطقة، وعدد من النقاط العسكرية الروسية التي انتشرت إثر اتفاقات وقعها الروس مع قوات قسد. ويتركز ثقل العشائر العربية في المنطقة إلى جانب وجود الأكراد فيها (يتركز في محافظة الحسكة)، وسط تغول لوحدات حماية الشعب الكردية (التي تشكل نواة قسد) على كل من الأكراد المحافظين والعشائر العربية، إذ تحاول قسد فرض تصور أيديولوجي خاص بها على أهالي المنطقة، فضلًا عن استئثارها بثروات المنطقة ورفضها مشاركة مكونات المنطقة في الحكم، وهو ما دفع أبناء العشائر العربية في منطقة دير الزور إلى الانخراط في انتفاضة مسلحة لا تزال مستمرة حتى اليوم ضد قوات قسد، التي لا تزال الولايات المتحدة الأميركية مصرة على دعمها حاكمًا وحيدًا للمنطقة.
في الجنوب تستمر الحرب الأمنية في محافظة درعا بين بقايا فصائل الثوار والأجهزة الأمنية التابعة للنظام وإيران التي تحاول التغلغل في المنطقة، فضلًا عن مواجهات ضد خلايا لتنظيم الدولة الإسلامية هناك، وسط غياب سيطرة النظام على المنطقة. ويبدو فصيل العودة صاحب الحصة الكبرى في إدارة شؤون المحافظة، كما تشهد محافظة السويداء المجاورة حركة احتجاجات سلمية واسعة بسقف عالٍ نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية، وهي المحافظة التي يشكل الدروز غالبيتها، والتي حافظت على حيادها طوال أعوام الثورة، مع تجنب قوات النظام التعامل مع الاحتجاجات بطريقة شبيهة بما فعلته بالمناطق الثائرة عام 2011، خشية خسارة النظام الصورة التي عمل على تعزيزها “كحام للأقليات ضد أكثرية سنية تقودها نزعات متطرفة”، خاصة مع تسلح عدد من أبناء السويداء وتشكلهم ضمن فصائل محلية، وهو ما سيجعل أيّ ردّ قمعي يعني بالضرورة جبهة عسكرية جديدة لن تعدم من يستثمرها، وهو ما يخشاه النظام.
وفي الشمال الذي تقطنه جموع المهجرين من المناطق التي سيطرت عليها قوات النظام، تنتظم المنطقة نظريًّا تحت سلطتين هما هيئة تحرير الشام التي تسيطر على منطقة إدلب وتسيّر شؤونها الخدمية عبر حكومة الإنقاذ، والجيش الوطني في ريفي حلب الشمالي والشرقي ومنطقة عمليات “نبع السلام”، حيث تتقاسم إدارة شؤون منطقة الجيش الوطني الخدمية بشكل ضبابي مجالس محلية وحكومة مؤقتة تابعة للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وولاة الولايات التركية الجنوبية التي تشرف إداريًّا على المنطقة بشكل مباشر؛ مما يجعل مناطق الهيئة أكثر تنظيمًا وأمنًا نسبيًّا، وهو ما تستخدمه في دعايتها لتصدير نفسها خيارًا أمثل للمناطق المحررة.
لكن شكل الشمال يبدو على وشك التغير مع انتفاضة داخلية ضمن صفوف الجناح العسكري للهيئة إثر حملة اعتقالات شنها جهازها الأمني ضد عدد من أبرز قادتها العسكريين في إدلب، وتحركات محلية مدعومة تركيًّا لتحسين البنية الإدارية لمناطق الجيش الوطني في ريفي حلب الشمالي والشرقي.
أما مناطق النظام فتمثل نظريًّا أكبر رقعة جغرافية في البلاد تشكل نسبتها ثلثي المساحة الكلية، إلا أنها تشهد تعددًا في الجهات الميدانية الحاكمة فيها، حيث تعتبر المليشيات الإيرانية الفاعل الأبرز شرقي سوريا (دير الزور)، في حين تشهد المنطقة الجنوبية (السويداء ودرعا والقنيطرة) حكمًا شبه ذاتي، كما تتفاوت السيطرة في المناطق الأخرى بين مليشيات إيران والمجموعات الموالية لروسيا والأجهزة الأمنية المتعددة الولاءات التي احتفظ النظام بسيطرته على عدد منها، مع نفوذ متزايد لمليشيات محلية أخرى شكلت سابقًا ما يسمى “الدفاع الوطني”، حيث أنتجت طبقة من زعماء الحرب المحليين أصبحوا حاكمين فعليين لقراهم وبلداتهم وأحيائهم ضمن المدن الكبرى، وسط حالة اقتصادية سيئة، جعلت مناطق سيطرة النظام الأسوأ معيشيًّا مقارنة بالمناطق الأخرى.
أما الولايات المتحدة الأميركية فهي إلى جانب دعمها قوات قسد شمال شرقي سوريا، تحتفظ بسيطرتها على منطقة التنف على الحدود السورية الأردنية العراقية في عمق البادية السورية، وتدعم فيها جيش سوريا الحرة، الذي يسيطر ميدانيا على تلك المنطقة.
كسر عزلة النظام
كانت الإمارات العربية المتحدة أول دولة عربية تأخذ خطوة جدية لكسر عزلة نظام الأسد والتطبيع معه، حيث اتخذت خطوات بدءًا من عام 2018 الذي أعادت في أواخره فتح سفارتها في دمشق، لتنضم إليها دول أخرى أبرزها الجزائر والأردن في مساع لإعادة بشار الأسد إلى جامعة الدول العربية، تكللت بحضوره اجتماع القمة العربية في مايو/أيار عام 2023 في مدينة جدة السعودية بدعوة رسمية من الملك السعودي وولي عهده، وقد سرّع الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا في فبراير/شباط من العام نفسه عملية التطبيع مع النظام.
ولم يقتصر كسر العزلة عن النظام والتطبيع معه على الجانب العربي، حيث تحاول تركيا التي تعتبر اللاعب الإقليمي الأبرز ضده الانفتاح عليه، وهو توجّه بدأ علنًا بتصريح لوزير الخارجية التركي السابق مولود جاويش أوغلو في أغسطس/آب عام 2022 دعا فيه المعارضة السورية إلى التصالح مع النظام، ثم جاء لقاء وزيري دفاع تركيا والنظام السوري في موسكو أواخر عام 2022، ثم إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مطلع عام 2023 إمكانية التقائه قريبًا بشار الأسد في إطار ما وصفه بأنه “عملية سلام جديدة”.
في حين تصر الولايات المتحدة الأميركية على موقفها الصارم نسبيًّا تجاه التطبيع مع النظام، حيث جاوز رفضها التصريحات من قبل مسؤوليها، ليتوج بقانون أقر مجلس النواب الأميركي مشروعه في فبراير/شباط المنصرم، باسم “قانون مناهضة التطبيع مع نظام بشار الأسد”، لا يحمل بنودًا حقيقية تجّرم الدول التي تطبّع مع النظام، لكنه يمنع أي مسؤول أميركي من أمر مشابه.
داعمو النظام المرهقون:
اجتاحت روسيا بدءًا من فبراير/شباط عام 2022 الأراضي الأوكرانية في مغامرة عسكرية كان يراد لها أن تنتهي سريعًا بحسم روسي، لكن التحرك الغربي الواسع دعمًا لأوكرانيا، وتزويدها غير المسبوق بالأسلحة والذخائر وأحدث التقنيات، فضلًا عن فرض حصار سياسي واقتصادي على روسيا، حوّل المغامرة المتفائلة إلى مستنقع تغوص فيه روسيا دون أفق للحل، دفعها إلى استنزاف قدراتها، حيث أشارت تقارير عدة إلى سحبها قوات ومعدات عسكرية حساسة من سوريا لاستثمارها في معركتها في أوكرانيا، فضلًا عن جهودها لتجنيد مرتزقة سوريين للقتال إلى جانبها في أوكرانيا، وهو ما انعكس سلبًا على نفوذها في سوريا.
أما إيران التي تشكل مليشياتها عمادًا رئيسيًّا للقوة العسكرية الميدانية التي تؤمّن مناطق نفوذ النظام، فقد استثمرت انحسار النفوذ الروسي لتزيد من حضورها ميدانيًّا، وتوسّع قواعد انتشارها ومقارّها، وتحثّ من خطواتها لملء الفراغ الناجم عن انحسار الوجود الروسي، الذي أصبح يعتمد بشكل متزايد على المليشيات الإيرانية في حماية النظام، بدل منافستها في السيطرة عليه.
لكن هذا التفرد الإيراني في السيطرة الميدانية على مناطق النظام، وفي التحكم فيه، واجهته إسرائيل التي وسعت نطاق استهدافها للإيرانيين في سوريا ليشمل فضلًا عن منشآت النقل والتخزين وطرق الإمداد التي تستخدمها المليشيات الإيرانية، شخصيات ميدانية ومفصلية في بنية الحرس الثوري الإيراني، للجم تغوله على المشهد السوري، الذي تعتبره إسرائيل تهديدًا لأمنها، وهو ما يصعب على الإيرانيين مهمتهم، ويثقل حركتهم، بل ويستنزف قدراتهم العسكرية واللوجستية، دون القدرة على الرد المباشر عبر الأراضي السورية مع الاستنفار العسكري الأميركي في المنطقة.
المصالح في سوريا
بعد عقد من التهاب نيران الصراع تبدو مصالح الدول المعنيّة بالنفوذ في الملف السوري قد نضجت. فتركيا لم تعد مهتمةً إلا بمسألتين اثنتين، أولها: تأمين حدودها، من خلال السيطرة على الشريط الحدودي بشمال سوريا عبر فصائل تستطيع ممارسة نفوذها عليها، بحيث تكوّن منطقة عودة للاجئين وحدًّا فاصلًا بينها وبين وحدات حماية الشعب الكردية، وثانيها: تصفية ملف اللاجئين السوريين داخل أراضيها، ولأجل هذه الرؤية تسعى تركيا لتطبيع علاقتها مع النظام بشكل مباشر، مع التقاء مصالحها معه في إنهاء نفوذ وحدات حماية الشعب، وسط تناقض ظاهري في موقف النظام الذي تتضارب تصريحاته بشأن التقارب مع تركيا بين ترحيب ولا مبالاة.
أما الولايات المتحدة الأميركية فلا يزال الملف السوري بالنسبة لها فرصة لتعزيز النفوذ، وورقة ضغط تعطيها أفضلية في ملفات أخرى تتضارب فيها مصالحها مع مصالح مؤثرين آخرين يتشاركون النفوذ والتأثير في سوريا، لذلك ركزت استراتيجيتها في الملف السوري منذ عام 2014 على دعم وحدات حماية الشعب الكردية للسيطرة على المنطقة الشرقية في سوريا (شرقي النهر)، بما يضمن لها التحكم في النسبة الكبرى من موارد البلاد النفطية والغذائية الضرورية لأية عملية سلام واستقرار مستقبلية، كما يشكل الوجود الإيراني وحجم نفوذه محددًا مهمًّا بالنسبة لسياسة أميركا، مع اعتبار حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين في المنطقة (إسرائيل ودول الخليج العربي والأردن) إيران تهديدًا أمنيًّا، وخطرًا يجب التعامل معه.
بالنسبة لروسيا فقد تغير ترتيب أهمية الملف السوري منذ عمليتها العسكرية في أوكرانيا الحدودية بالنسبة إليها، ليتحول الملف السوري إلى ورقة تفاوض وضغط أكثر منه غاية ومنطقة تسعى لاستدامة وجودها فيها، وإن كانت تفضل بلا شك الحفاظ على قواعدها العسكرية واستثماراتها إذا أتيح لها ذلك.
وتبقى إيران الطرف الدولي الوحيد الذي ينظر إلى الملف السوري بوصفه جزءًا من رؤية سياسية أيديولوجية طويلة الأمد، تجعل وجودها في سوريا غاية وهدفًا بذاته، لذلك اعتمدت في مقاربتها لحفظ مصالحها في سوريا على إنشاء قواعد اجتماعية مرتبطة بمشروعها عضويًّا، ضمن استراتيجية إحلال ديمغرافي في المناطق ذات الأهمية جيوسياسيًّا وعسكريًّا، التي سيطرت عليها بدعم عسكري روسي، وهجّرت أهلها منها، مثل أحياء جنوب دمشق التي يتهم ناشطون سوريون إيران بجعلها معقلًا لمقاتليها وعوائلهم، على غرار الضاحية الجنوبية بالنسبة لحليفها حزب الله في بيروت، فضلًا عن المدن الرئيسية في محافظة دير الزور (دير الزور والميادين والبوكمال)، التي تشكل نقاط حماية لطريقها عبر العراق إلى سوريا، مع جيوب شبيهة في حلب وحمص وعدد من المناطق الساحلية. ومع انحسار النفوذ الروسي زادت إيران من توجهها باتجاه مشروعها موسعة نشاطها ليشمل نشر التشيع في مجتمعات محلية مع حركة التوطين لمقاتلي مليشياتها الشيعية الأجنبية في سوريا، فضلًا عن نسج كوادرها ضمن بنية النظام.
إذ تخشى إيران من فصل النظام عنها، مع حركة الانفتاح المتزايد على نظام الأسد من قبل أطراف تمتلك علاقات واسعة مع إسرائيل (الإمارات) أو مع الولايات المتحدة الأميركية (تركيا). كما تحذر إيران من تحضير لعملية طردها من سوريا تحت مظلة مشروع سياسي عسكري ترعاه الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما تعلم إيران استعداد أطراف من النظام نفسه لقبوله.
الحل سياسي عسكري
تتفاوت النظرة إلى تعريف الحل في سوريا بحسب الأطراف الفاعلة محليًّا ودوليًّا، ففي وقت تتفق فيه القوى الدولية نظريًّا -باستثناء إيران- على كون الحل توافقًا سياسيًّا وحكومة انتقالية تجتمع فيها الأطراف المحلية، وتحفظ فيها مصالح الدول الرئيسية على شكل اتفاقات رسمية، تصرّ إيران على حل تفرض فيه وجودها على البلاد وتحكمها في كل مفاصلها، على غرار ما يحدث في العراق، وهو ما يغير شكل الاصطفافات حول الملف السوري، إذ تبرز إيران أكثر فأكثر بكونها العقبة الرئيسية أمام أي حل مستقبلي.
أما بالنسبة للفاعلين المحليين فلا يوجد كثير مما يجب تحليله، إذ يرى نظام الأسد الوضع الراهن محطة في طريقه لفرض سيطرته المباشرة على البلاد كلها بعد تصفية وجود معارضيه على اختلاف توجهاتهم، رغم تهلهل بنيته الداخلية وازدياد حدة الخلافات بين مكوناته، وتصر وحدات حماية الشعب على إقليم فدرالي كردي تحكمه بأيدولوجيتها في شمال شرق سوريا على الأقل، في حين تبقي فصائل الثورة على أهدافها المعلنة نفسها، وهي تحرير البلاد بالجهد العسكري من وجود نظام الأسد وداعميه، رغم حالة الترهل التي أصابت الفصائل مع توقف العمليات العسكرية منذ أعوام، وتدعمها في ذلك حشود المتظاهرين السوريين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام ودول اللجوء، الذين يصرون بعد مرور 13 عامًا على انطلاق الثورة السورية على ترديد “الثورة مستمرة”.
المصدر : الجزيرة