شتم نتنياهو والتربيت على كتف شركائه في الجريمة

طارق حمود
باحث متخصص في الشأن الفلسطيني والعلاقات الدولية

لايزال وقفٌ نهائيٌ لإطلاق النار يواجه عقبات كبيرة، كلّها تتركز في المأزق الإسرائيلي في اليوم التالي، وفي معضلة نتنياهو الشخصية لما بعد الحرب، وفي الفرصة الأخيرة لليمين المتطرف في السلطة، وفي فشل الجيش في تقديم تصوره الأمني لتموضعه في غزة بعد الحرب. خاصةً بعد إطلاق مزيد من الصواريخ في اليوم 171 لحرب قضت على كل شيء في غزة، إلا المقاومة.

في هذه الظروف والأثناء تتفكك نسبيًا مظلة الدعم الدولي الغربي لحرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة. فبالرغم من استمرار احتضان الجريمة ومرتكبيها، لكن المواقف الغربية عمومًا باتت تجمع على ضرورة إنهاء الحرب، ووقف نزيف التكاليف العالية في سمعة الغرب ومكانته الأخلاقية.

أضف لذلك في كون الموقف من الحرب بات لأول مرة في التاريخ السياسي الغربي محدِّدًا انتخابيًا، بشكلٍ أو بآخر، من زاوية نظره للقضية الفلسطينية. عند هذه اللحظة التي انعزلت فيها، ولو مؤقتًا، مصالح السلطة السياسية الغربية مع السلوك الإسرائيلي، تتجلى أعظم كوابيس المشروع الصهيوني ودولته الاستيطانية. فالعلاقة العضوية بين الغرب ومستعمرته المقنّعة في الشرق، هو التفسير الوجودي الوحيد لإسرائيل ككيان قابل للحياة والاستمرار.

معضلات مركبة:
فإسرائيل اليوم تقف أمام معضلات مركبة، تمنعها من الاستجابة لوقف الحرب رغم استنفادها كل الوقت الممنوح لها دوليًا لاستكمال المهمة. فهي لا تستطيع الاستمرار بدون دعم غربي عسكري وسياسي، ولا تستطيع وقف الحرب ومواجهة الإجابات الغائبة لأسئلة اليوم التالي.

فيما تستمر قيادة الحرب مواصلة الجريمة رغم انكشافها الدولي، حيث تراهن تلك القيادة على قدرتها، وقدرة اللوبي الداعم لها في الغرب، على ترميم هذا التراجع في العلاقة في وقت لاحق. وهذا واقعي إلى حد كبير، قياسًا على الاختراق المعروف لهذا اللوبي في بنية النخبة السياسية الغربية.

فصحيحٌ أنه لا يمكن الرهان كثيرًا على المواقف المتحولة تجاه الحرب من قبل الحكومات الغربية. فالحكومات الغربية التي دعمت قرار مجلس الأمن الأخير، لا تزال تمثل شريان حياة الحرب، عسكريًا واقتصاديًا. ولم تتغير علاقة هذه الحكومات بدولة الاحتلال، وهذه المواقف إنما هي دفاع عن النفس في وجه السمعة المتدهورة والمفضوحة بأصوات النشطاء، الذين أخذوا على عاتقهم إفساد كل ظهور عام للمسؤولين الغربيين، وحصارهم اجتماعيًا.

تريد إدارة بايدن من قرار مجلس الأمن، الذي يطالب بوقف الحرب خلال رمضان، دفع نتنياهو ومجلس حربه إلى الأمام من أجل عقد هدنة يكون ثمنها تحرير المحتجزين بدلًا من وقف نار مجاني. وهي في الوقت ذاته تحتاج لأن تقدم نفسها كإدارة تصنع السلام، كما تصنع الحرب أمام شرائح محددة من الناخبين الأميركيين.

في هذا السياق، يتركز الخطاب السياسي الغربي ضد نتنياهو كشخص، وليس تجاه إسرائيل أو جيشها الذي يرتكب الإبادة. بل يتم مغازلة رموز الإبادة الآخرين مثل غانتس وغالانت، صاحب وصف “الحيوانات البشرية”، وتسويقهما على أنهما قيادة عقلانية أو حكيمة، مع علمنا أن كليهما ليسا مؤيدين لوقف الحرب بطبيعة الحال، وليس بينهما وبين نتنياهو فرق فيما يتعلق بوقف إطلاق النار في غزة.

فنتنياهو، رغم فساده واستحقاقه العزل، هو الكبش المناسب لتحميله وحده مسؤولية براءة باقي المجرمين في هذه الحرب. فمن جهة، هو المسؤول فعليًا عن الفشل في استكمال المهمة رغم الوقت والغطاء اللذين مُنحا له. ومن جانب آخر، يعلم الجميع أنه منتهٍ سياسيًا، واستمرار الحرب هي لعبته الوحيدة لتأخير الإعلان عن ذلك.

سيعمّق هذا التحول في الموقف الغربي من حفرة نتنياهو بلا شك. فالرجل – الذي كان حتى السادس من أكتوبر/تشرين الأول يتفاخر بمنجز وحيد، وهو قدرته على بناء العلاقات والتحالفات الدولية لإسرائيل في المساحات المستحيلة – يقف معزولًا دوليًا بشكل تام بعد أن منحه العالم “الحر” شيكًا على بياض لاقتراف أبشع حرب إبادة يشهدها القرن الحادي والعشرون. ومع ذلك فشل في استثمار ذلك الدعم، ويطلب مزيدًا منه بعد ستة أشهر من الحرب.

كيان معزول:
مع ذلك، لا يمكن اعتبار تمرير قرار في مجلس الأمن الدولي يتضمن لفظًا لوقف إطلاق النار لأول مرة مسألة غير ذات أهمية. فبالرغم من كون القرار لا يمنح الوقف النهائي للحرب جملة مفيدة، فإنه الموقف الأول منذ بداية هذه الحرب الذي يقف فيه الاحتلال معزولًا كليًا، حتى من أقرب حواضنه الدولية المتمثلة بالولايات المتحدة الأميركية.

فرغم سطحية المطلب، وتفاهته إنسانيًا نسبةً للجريمة المرتكبة والمستمرة وتداعياتها، فإن قرار مجلس الأمن الأخير لحظة نادرة لو قارناها بالمواقف الغربية الهستيرية في الشهور الأولى للحرب. لقد خسرت إسرائيل المعركة العسكرية، وها هي في طريقها لخسارة إستراتيجية قد تؤسس لانطلاقة فهم جديد في كيفية التعامل مع المكاسب والتكاليف المتوقعة من المستعمرة الاستيطانية القائمة بالحماية الغربية فقط.

ينبع هذا من حراك عالمي- خاصة في الولايات المتحدة- بات يستهدف بدقة لوبيات الضغط الصهيونية التي تخترق القرار السياسي، كالحملات التي انطلقت ضد لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك)، التي تعتبرها أطراف مناهضة ذات ولاء إسرائيلي مطلق، حتى لو على حساب المصلحة الوطنية الأميركية.

وهو تطور لافت في اتجاهات الحراك الشعبي المناهض للاحتلال. أضف لذلك، ما أظهرته الحرب من انقسام جيلي في الموقف السياسي في الغرب، حيث تتزايد بشكل لافت شرائح الشباب المدركين حقيقةَ إسرائيل كاحتلال ونظام فصل عنصري، بمقابل جيل الكبار الذي لا يزال موقفه مؤطرًا برواية الإعلام التقليدي، المرتبط بدوره باختراق اللوبيات وحملات الخوف التي يتقن صناعتها في وجه الروايات “المنحرفة” عن المسار المرسوم.

يمكن القول؛ إن هذه الحرب ربما أوصلت العلاقة بين الحواضن الدولية الغربية ومستعمرتها الشرقية إلى مستوى تتساوى فيه التكاليف بالعائدات، وهو مستوى قد يستوجب إعادة النظر بشكل هذه التجارة السياسية، إما بإعادة إنتاجها بالشكل الذي يزيد العائد مقابل التكلفة، أو بخفض النفقات من أجل موازنة العائد.

محطة مفصلية:
في كلتا الحالتين، المشروع الصهيوني أمام محطة مفصلية، لا بعلاقته مع الأرض التي استعمرها ومع أصحابها فحسب، فهذه علاقة محددة المعالم بطبيعة تكوينها كاشتباك أزلي بين مستعمر وحركة تحرر، بل في علاقته هو بامتداداته الدولية كمشروع قادر على تقديم مزيد من الأهمية الإستراتيجية لوجوده واستمراره كاستيطان استعماري يتجاهل وجود حقائق، لا تزال تكرر نفسها كل يوم بشكلٍ ما، ولن يكون آخرها ما يجري في غزة الآن.

لا بد من التذكير أن الحكومات الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، لا تزال تعطل كل الآليات الدولية الأخرى المتاحة من أجل منع تفاقم الوضع، ووضع حد لهذه الحرب عند مستوى معين. كانت يد الفيتو الأميركية واحدة من ذاكرة الحرب التي لن ينساها كثيرون من ضحايا هذه الكارثة ومتابعوها.

كانت قيادات الغرب التي توافدت في زيارات الدعم تقف على مسافة مئات الأمتار من شريط غزة الحدودي، وعلى مسمع لصوت الانفجارات، من أجل البكاء بعين واحدة، واختصار إنسانيتهم على رثاء جانب واحد. كل ذلك، لن يمحوَ ذاكرتَه شتم نتنياهو، والتربيت على كتف شركائه في الجريمة.

Exit mobile version