لم تغرب شمس القرن السابع عشر إلا وقد أخذت المَحالّ والمتاجر التي تبيع الشوكولاتة تستوطن مدينة مدريد، وطفق بائعوّ الشوكولاتة المتجوّلون يتوافدون إلى المدينة، لا سيَّما منطقتا كالي دي بوستاس وبلاثا مايور، إذ كانت التراخيص الفردية تُمنح كل عام، بيد أنَّ عدة باعة متجوّلين نجحوا في استثمار الفضول تجاه ذلك المشروب الغريب؛ فراحوا يبيعون مشروبًا داكنًا لا يحتوي على الكاكاو بقدر ما يحتوي على اللوز وحبوب الصنوبر والدقيق والبلّوط والقهوة وفتات الخبز والبسكويت وقطعٍ من قشر البرتقال بل والأتربة أيضًا.
بادر عددٌ من صُنَّاع الشوكولاتة المحترفين عام 1723، إلى تقديم طلبٍ لتشكيل نقابةٍ سعيًا منهم لوضع حدٍّ لتكاثر المنافسين، زاعمين أنَّ الوقت قد حان لحماية الصحة العامة ضد المخاطر الناجمة عن الغش. وقوبل الطلب بالرفض بوصفه نافلًا. بيد أنَّ الطحّانين molenderos ما كانوا ليذعنوا، فقاموا بعد خمسة وعشرين عامًا وبالتحديد عام 1748، بمحاولةٍ جديدة ليلقوا ردًّا أفضل من سلطات المدينة التي أظهرت اهتمامًا أكبر بوضع حدٍّ لخسائر الإيرادات الناجمة عن الغش في نهاية المطاف، إلا أنَّ تجاوب زملائهم في المهنة لم يكن على هذا المستوى، فقد عارض عمَّال كثيرون تشكيل النقابة؛ نظرًا لفقرهم وحاجتهم لغشّ منتجاتهم من الشوكولاتة ما مثّل الطريقة الأبسط لجنيّ الأرباح لهم.
كما شهدت العديد من المدن الإسبانية والمستعمرات الأخرى أحداثًا مماثلةً لحكاية نقابة صانعيّ الشوكولاتة المدريديين، ولعلَّ التوتر بين صُنَّاع الشوكولاتة والباعة غير المرخّصين والمستهلكين والسلطات اتبع مسار تطوّرها من سلعةٍ غريبةٍ مثيرةٍ للفضول إلى سلعةٍ واسعة الانتشار بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، بل غذَّى هذا المسار في آنٍ واحد.
وبينما حظيت الشوكولاتة بتقديرٍ كبيرٍ في المجتمعات الهندية الأمريكية، حقَّقت أيضًا الانتشار في أوساط المستعمرين الإسبان في إسبانيا الجديدة بحلول القرن السادس عشر. ولا شكّ أنَّ افتتان الباحثين والروائيين في أيّامنا هذه بالنجاح الكبير والفوري الذي أحرزته هذه السلعة يضاهي الخشية التي سادت صفوف من عاصروا ذلك النجاح من مغبة إفساد أجساد المستعمرين الإسبان وأرواحهم جرَّاء “الإدمان” و”الجشع”، على حدّ تعبير المبشِّر اليسوعي خوسيه دي أكوستا عام 1589. وتذهب المؤرِّخة ريبيكا ايرل إلى أنَّ قوّة النظام الغذائي على خلق الفوارق الجسدية أو تخفيفها زعزعت الحدود بين المستعمِرين والشعوب الرازحة تحت الاستعمار، بينما عزَّزت المخاوف الخاصة بأيّ شعائر دينية أصلية قائمة في الوقت عينه.
وسرعان ما اتسعت شعبية مشروب الشوكولاتة إلى أن أضحى واقعًا يوميًّا لسائر طبقات سكّان إسبانيا الجديدة، إذ استهلكه “الإسبان والسكّان الأصليون والهجينون- mestizos والخلاسيون- mulattos وغيرهم. وكان [يُشرب] خلال أيام الصيام، وصيام الأربعين يومًا، وعشيَّة الأعياد، وفي الصباح، وعند الظهيرة، وفي ساعات الليل، وفي مختلف أوقات اليوم”، كما نوَّه بذلك أحد معاصريّ تلك الحقبة.
في مدينة مكسيكو، كان بمقدور المرء الحصول على الشوكولاتة من سكّان المدينة الأصليين في الشوارع بصورةٍ مباشرةٍ حتى أواسط القرن السابع عشر. (بيد أنَّ وجود هؤلاء الباعة قد انحسر لاحقًا أمام زحف الباعة الإسبان والهجينين- mestizo الذين انتزعوا منهم هذه المهنة)، إذ كان معجون الكاكاو يُباع في قطعٍ لها شكل المعيّن وكان بوسع المستهلكين أن يضيفوا إليها ما يرغبون من المنكّهات. وقد تراوحت التحضيرات من أبسط أشكالها من خلال الاكتفاء بإضافة الماء حتى أكثرها تعقيدًا بإضافة العديد من التوابل والزهور، غير أنَّ إضافة عجين الذرة- atole إلى مشروب الشوكولاتة الساخن كانت طريقة الاستهلاك الأكثر شعبية.
انحسار السكّان الأصليين والفقر الذي ضرب التربة إثر الاستعمار أفضى -لسوء الحظ- إلى انهيار إنتاج الكاكاو في المنطقة، فأدَّى إلى استحالة تلبية الطلب المتنامي. وقد شجّعت السوق النهمة في إسبانيا الجديدة على زراعة أنواعٍ مختلفةٍ من الكاكاو في منطقتيّ غواياكيل (في الإكوادور الحالية)، وكاراكاس (في فنزويلا الحالية)، حيث اكتشف خوان لوبيز دي فيلاسكو نبات الكاكاو مطلع عام 1570. وما لبثت مكانة غواياكيل وكاراكاس أن ترسّخت بوصفهما أبرز منطقتين لزراعة الكاكاو؛ فأسهم هذا في إرساء أُسس سوقٍ عابرةٍ للأقاليم في مستعمرات أميركا اللاتينية. وقد حظي كاكاو كريولو- criollo، الذي زُرع في كاراكاس -وهو الأكثر حلاوة- بقيمةٍ وشعبيةٍ أعلى من كاكاو فوراستيرو- forastero المنتج في غواياكيل، الذي تميّز بغلاله الوفيرة. وهكذا حافظت كاراكاس على مكانتها بوصفها المورد الرئيس لإسبانيا الجديدة حتى مطلع القرن الثامن عشر. ونجحت غواياكيل في التغلّب على الحظر المفروض على تصدير منتجها من الكاكاو، وبفضل سعره الأقل (فضلًا عن استخدام كميات كبرى من السُكر في تحضيره)، أخذ هذا المنتج ينجح باطرادٍ في منافسة كاكاو كاراكاس بين الفئات الدُنيا في سوق إسبانيا الجديدة التي كان التمايز فيها جليًّا.
ولا شكّ أنه على خلفية قواعد التنظيم التجارية والخشية مما دعاه المؤرِّخ الفرنسي سيرج غروزينسكي بـ: “رجز المستعمرات”، فقد توجّب التعامل مع استغلال الفرص التجارية التي وفّرتها الموارد الطبيعية في المستعمرات ضمن أسواق المستعمرات والأسواق الأوروبية على حدٍّ سواء؛ فعزَّز ذلك سلسلةً من الخلافات والنزاعات بشأن الطرق المناسبة والصحيحة لاستهلاك الشوكولاتة، وهذا أفضى إلى تعزيز المزيد من الاهتمام بهذا المنتج. ورغم أنَّ كمية الشوكولاتة التي غادرت ميناء لاغوايرا نحو إسبانيا رسميًّا بين عاميّ 1620 و1650، لم تتجاوز 289 فانيجا- fanegas (وهو مقياس إسباني يعادل الواحد منه بوشيل إنكليزي الذي يعادل نحو 25.40 كيلوغرامًا- المترجم). ورغم أنَّ دورتها التجارية بقيت محدودةً في القارة العجوز، فإنَّ الشوكولاتة نجحت في عبور الأطلسي بعد أن خضعت للمعالجة لتستحيل معجونًا مزوّدًا بالمكوّنات والإضافات الأساسية للحيلولة دون أيّ تلفٍ سريعٍ لهذه المادة الأولية. وانتشرت الشوكولاتة في صفوف الطبقات الأرستقراطية وشبكات رجال الدين لتغدو “منتجًا شهيرًا”. وترفدنا الرسائل التي تبادلها النبلاء إبَّان تلك الحقبة بشهاداتٍ لا تعد ولا تحصى حول الشوكولاتة، وتبادلها كهدايا، كما في حالة دوق ألباكركي الذي أرسل 22,000 رطلًا من الشوكولاتة إلى العائلة الملكية الإسبانية والنبلاء الإسبان نحو عام 1655، وقد لُفّ كل رطلٍ منها برقاقةٍ صغيرةٍ من الذهب.
وسرعان ما أضحى مشروب الشوكولاتة مع الطقوس التي صاحبت ارتشافه، جزءًا من سلسلةٍ من الممارسات والمراسم المعتمدة، بما أتاح الفرصة لتجديد عادات الاستهلاك والتواصل الاجتماعي. وتنافست عائلات النبلاء في وصفاتها، وجرت عادةٌ بأن يعيّنوا شخصًا مختصًّا يتوَّلى تحضير الشوكولاتة المنزلية الخاصة بهم. وأفضى الدور الذي أدَّاه النبلاء الإسبان كوسطاء للترويج للشوكولاتة ضمن صفوف الأرستقراطيين إلى “أسبنة” هذا المشروب خلال القرن الثامن عشر، وإذ جرى تخليص الشوكولاتة من “منشئها الهمجيّ” بإضافة السُكّر وتبسيط التركيبة؛ ومن ثَمَّ تمَّت تعريتها من هُويتها الغريبة لإكسابها ارتباطات رمزية ضمن السياق الثقافي الأوروبي عامةً، والإسباني خاصةً. وقد تكوَّنت وصفة الشوكولاتة الإسبانية من نكهة الكاكاو الأساسية والسُكّر والقرفة دون معظم التوابل الغريبة التي اُستخدمت حتى ذلك الوقت، بيد أنَّ ما منحها شهرتها الأوروبية هو التقنية التي اتبعها صانعوّ الشوكولاتة- chocolateros الإسبان المشهورون.
أُنتج ما بين 3 و 4.5 مليون رطل من الكاكاو في كاراكاس، لينتهي بها الحال في السوق السوداء الهولنديَّة.
سارت مزاعم التفوّق الإسباني في مضمار إنتاج الشوكولاتة جنبًا إلى جنب مع المطابقة المطردة بين هذه المادة والثقافة الإسبانية. وبلغت الشوكولاتة في إسبانيا خلال القرن الثامن عشر من الأهمية درجةً غدا معها تعريف كلمة “شوكولاتة- chocolat” في موسوعة ديدرو ودالامبير يفتتح بالإقرار بانتشارها في إسبانيا حتى إنَّ “غياب الشوكولاتة في أيّ منزل إسباني، يعادل غياب الخبز في أيّ منزل هنا [في فرنسا] نتيجة الفقر المدقع”. وقد تداخل الاقتصاد السياسي للاستهلاك مع المنافسة بين الإمبراطوريات، إذ تعرّض كلٌّ من الشاي والقهوة لعملية استحواذٍ ثقافيّ مماثلة في فرنسا وإنكلترا على التوالي منذ أواخر القرن السابع عشر فصاعدًا. وطفقت القوى الإمبراطورية تروّج لاستهلاك منتجاتٍ معيّنة، لا سيَّما المؤثرات النفسانية؛ استنادًا إلى الظروف المادية وإمكانية التحكّم بإنتاج المواد ذات الصلة وتداولها تجاريًّا. أمَّا الشكوكولاتة فقد تداخل التحكّم بالواردات وسياسات تحديد الأسعار والإصلاحات التي أدخلت على أساليب الألفة الاجتماعية والاستهلاك لإعادة تشكيل المذاق وزيادة معدل الطلب على حدٍّ سواء.
لا شكّ أنه قد تسنَّى لهذا الانتشار الاعتماد على محاولة العرش الإسباني استرداد التجارة عبر الأطلسي من الإنجليز والهولنديين، فلم يكن التهريب وممارسات التهرّب الضريبي من الأمور الغريبة على صعيد التجارة الدولية، وإيرادات النجاح المطرد الذي أحرزته الشوكولاتة في القارة العجوز لم تفلح حتى مطلع القرن الثامن عشر في ملء خزائن العرش، فقد أُنتج ما بين 3 و4.5 مليون رطل من الكاكاو في مقاطعة كاراكاس التي تملكها إسبانيا لينتهي بها الحال في السوق السوداء الهولندية بعد نقلها على متن سفنٍ هولنديةٍ مسلّحة وفقًا لشهادة نيكولاس أنطونيو دي أوليفر السفير الإسباني في هولندا. وفي عام 1683، أضحت أمستردام أبرز محطة لاستيراد الكاكاو وتصديره إلى مختلف الدول الأوروبية، فقد خاطب أحد التجار البرشلونيين شخصًا ما في مدينة قادش قائلًا: “الكاكاو باهظ الثمن هنا.. يمكننا أن نحصل عليه بسعرٍ أقل بكثيرٍ في أمستردام”.
ولعلَّ الكاكاو شكَّل سلعةً مثالية للإتجار والتهريب على هذا النحو، إذ إنَّ محصوله مستمر على مدار السنة بينما تنتشر زراعته على طول الشريط الساحلي بصورةٍ أساسية؛ فيسهّل بذلك على السفن الهولندية الوصول إليه، ناهيك عن أنَّ اعتماد هذه الزراعة على العبوديَّة على نطاقٍ واسع، إذ خضعت لسيطرة المُلّاك الكريوليين (الهجينين)- grandes cacaos، ما صُبّ في صالح البيع غير القانوني للكاكاو. تورّطت جميع الطبقات الاجتماعية عمليًّا في التجارة المخالفة للقوانين، فقد استند اقتصاد كاراكاس بصورةٍ رئيسة إلى الطلب المرتفع لهذه الثمرة القيّمة في مدينة مكسيكو. وعلى خلفية تورّط السلطات أيضًا، أخذت البضائع تدخل والمنتجات القادمة من المستعمرات تُوفَّر في السوق دون دفع أيّ ضرائب؛ ما أسهم بذلك في اختفاء مقدارٍ كبيرٍ من الإنتاج.
وإثر عدة محاولاتٍ فاشلة، تمّ تأسيس شركة غيبوثكوان في كاراكاس (أو الشركة الغيبوثكوانية في كاركاس نسبةً إلى مقاطعة غيبوثكوا الإسبانية- المترجم)، وعُهد بها إلى مُلّاك خاصين، وإن تضمن عقد تأسيسها مواد تنصّ على عددٍ من المزايا والالتزامات الملكية. وعلى خلفية الاحتكار الذي تأسست عليه، غدت الشركة المُشتري الرسمي الوحيد للثمار الرئيسة في المنطقة فضلًا عن كونها البائع الوحيد للمواد الأولية والمنتجات الاستهلاكية (مع تمتعها لاحقًا بالحُريَّة في تحديد الأسعار وشروط التعاملات التجارية والصفقات)، ناهيك عن منحها صلاحياتٍ عسكرية وإشرافية. وقد أفضى دخولها إلى المشهد إلى عواقب جوهرية فيما يخصّ التوازنات التجارية ضمن القارة الأمريكية اللاتينية ما بين مناطق كاراكاس وإسبانيا الجديدة وغواياكيل فضلًا عن تأثيراته الكبيرة على اقتصاد الكاكاو في جميع المناطق، بل في الأسواق الأوروبية أيضًا.
وكما هو متوقّع، لمَّا تأسست شركة غيبوثكوان وحلَّت محلّ التجار الهولنديين وأعادت توجيه الصادرات نحو القارة الأوروبية؛ استحال الحظر المفروض على كاكاو غواياكيل في إسبانيا الجديدة شكليًّا. وهكذا أدَّى تأسيس الشركة والطلب الهائل للشوكولاتة في إسبانيا الجديدة إلى تعزيز زراعة كاكاو غواياكيل واستيراده، وهو الكاكاو الذي أصبح يتربّع على عرش الواردات منذ عام 1728. ولكنَّ تأسيس الشركة غيّر ديناميات التجارة ضمن القارة الأمريكية اللاتينية، فما تأثيراته على السوقين الإسباني والأوروبي؟ لقد أحرزت الشركة بعض النجاح في استرداد السيطرة على تجارة الكاكاو عبر الأطلسي، بيد أنها حفّزت الإنتاج والصادرات المُعاد توجيهها، مرسيةً الأسس المادية الجوهرية لتوفير كمياتٍ كبيرةٍ من الكاكاو في القارة العجوز. وأخذت واردات الكاكاو إلى إسبانيا تتصاعد بصورةٍ دائمة وجوهرية بعد عام 1728، بينما كان تداول الشوكولاتة النخبويّ العابر للقوميات من خلال الشبكات الكنسية وعائلات النبلاء في إسبانيا قد تراجع شيئًا فشيئًا أمام التركيز الجغرافي لاستهلاك على هذه السلعة، في موازاة انتشارها خارج الدوائر الأرستقراطية.
وخلال السنوات نفسها التي شهدت تأسيس شركة غيبوثكوان، نشأت جماعات صغيرةٌ من العمَّال المختصين في إنتاج الشوكولاتة في المدن الإسبانية تحت مسمَّى صانعيّ الشوكولاتة- maestros molenderos de chocolate. ناضل هؤلاء العمَّال في مدينة مدريد لعقودٍ في سبيل تأسيس نقابةٍ لهم حتى عام 1771، حين تمّ قبول طلبهم الذي قدّمته مجموعةٌ ترأسها خوسيه أنطونيو سانث صانع الشوكولاتة ومُتَّجِرُها. فما الذي تغيّر حتى قُبِلَ طلب هؤلاء الطحّانين- molenderos؟ لا شك أنَّ التغيير كان يفتعل في المناخ السياسي في إسبانيا فضلًا عن كون الطلب على الشوكولاتة كان آخذًا في التصاعد، حيث تجاوز انتشارها حدود العاصمة، ووصل إلى الريف مرورًا بالمدن الصغيرة والمتوسطة، وأضحت سلعةً يوميةً للفئات العُليا وسلعةً شبه فاخرةٍ أخذ عدد الناس القادرين على التمتع بها بين الفينة والأخرى يتصاعد. فلم يكن إذن وليد الصدفة أن تبدأ السلطات خلال أواسط القرن الثامن عشر لأول مرّة بالإعراب صراحةً عن قلقها حيال قابلية الوصول إلى استهلاك الشوكولاتة “بالنسبة للفقراء”. بل أفسحت المجموعة المتنوعة من الفقراء “المتبطلين”، أو من لديهم مهن أخرى الطريق أمام قائمةٍ ضمَّت 128 شخصًا قدّموا أنفسهم بوصفهم صانعيّ شوكولاتة- maestros molenderos de chocolate، تعود عليهم هذه المهنة وحدها بدخلٍ كافٍ لمنحهم حياةٍ كريمة.
كان لمرونة الإنتاج المحليّ دور رئيس في دمقرطة الاستهلاك. وفيما يلي إحدى الأغنيات الشعبية الإسبانية المرتجلة المسلّية من أواخر القرن الثامن عشر، وهي تصوّر أنماطًا عديدةً من مستهلكيّ الشوكولاتة على نحوٍ هجائي، مبينةً مدى الشعبية التي اكتسبتها هذه السلعة في صفوف مختلف الطبقات الاجتماعية بحلول ذلك الوقت:
الشوكولاتة اليوم.يا لها من إفطارٍ خفيف!حتَّى الطفل الفقير يرتشف كوبه. ثمَّة سيدات بملابس إنكليزية الطراز.لديهنّ شوكولاتة، ولكنهن يعجزن عن شربها. الأطباء والجرّاحون، بل والمفكّرون لديهم الشوكولاتة كثيفةٌ تعلوها الرغوة. كم هي مشهورة!الشوكولاتة ذات الرغوة العاليةهو ما تطلبه السيدات. الخيّاطون والإسكافيون بائعوّ الخضار.حين يرتشفون الشوكولاتةيتخلّون عن الطهي. حذار من الأجور، فالأجور لا تكفي.ويوم الإثنين الإسكافيّون لا يعملون. يشرع صانع الشوكولاتة في العمل.النار تضطرم في الأسفل،فيتعرّق حجر الطاحون. | Es el chocolate ahora un almuerzo tan ligero, que hasta lasniñas en los barrios gastansuchocolatero.Hay algunasmadamitas con el tragecitoinglés quetoman el chocolate, y no lo puedenbeber.Medicos y Cirujanos, hasta la gente de pluma toman el chocolatito, espesito y con espuma.Tirulín, tirulíntirulero, esto se lleva la fama, chocolate con espuma es lo quequierenlasdamas.Los sastres y zapateros, vendedores de hortaliza cuandotoman chocolate en su casa no se guisa.Tirulín, tirulíntirulero, mireleustedquesalaro, que los lunes no trabajan los señoreszapateros.Cuando los chocolateros se ponen a trabajar con la candela debaxo hacen la piedrasudar. |
إذا أردنا أن نحصر مستهلكيّ الشوكولاتة فسنجد أنفسنا أمام الجميع إذن، بدءًا بسيدات الطبقة الوسطى – أيًّا كُنَّ سيدات تقليديات أم عصريات يرتدين ملابس إنكليزية الطراز- مرورًا بالحرفيين والمفكرين والأطفال الذين يلعبون في الأحياء، وصولًا إلى الفئات الناشئة من الصُنَّاع المهرة ممن توجّب عليهم الصيام ليتسنَّى لهم ارتشاف كوبٍ من الشوكولاتة خلال أيام العطلة. وهكذا بادرت فئاتٌ مختلفة إلى استهلاك الشوكولاتة بخلق ممارسات وطقوس اجتماعية متنوعة للاستهلاك، بدءًا بجلسات السمَر- tertulia، التي كانت تلتئم في منازل أفراد الطبقة العُليا ووصولًا إلى التجمّعات في مقاهي الطبقة الوسطى وفي المحلات التي استضافت المتنزهين من شتَّى الفئات الاجتماعية. ناهيك عن طقوس شرب الشوكولاتة في البيوت الخاصة أيضًا.
ولا شكّ أنَّ التطوّر الذي شهده كفاح صانعيّ الشوكولاتة يسلّط الضوء على تمثيلهم مختلف شرائح المستهلكين، وقد شكّلت مرونة الإنتاج المحلّي العامل الرئيس في دمقرطة الاستهلاك. ولعلَّ أفضل ما قام به صانعوّ الشوكولاتة هو التخلّي عن أيّ ادعاء بالاحتكار لصالح التمتّع بدور ضماني استنادًا إلى الإقرار بأنَّ “الشوكولاتة قد أضحت غذاءً يوميًّا، لا سيَّما لبعض أبناء الطبقات وأصحاب المهن”، ومن ثَمَّ ينبغي فعل كل شيء تلافيًّا لإلحاق الضرر بأيّ أحد من هؤلاء المستهلكين.
وهكذا باتت التعبيرات التي من قبيل الجودة وفروق الأسعار، تشغل مكانةً أساسية، وأُدْخِلَتْ تغييراتٍ حاسمةٍ على القائمة الرسمية لأسعار الشوكولاتة على أساس الالتزام بالمقترحات الأولية الصادرة عن النقابة في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وذلك بإطلاق ثلاث علامات تجارية مع تحديد مكوّنات كل منها. وقد تمايزت المنتجات التي انضوت تحت تلك العلامات التجارية بصورةٍ واضحةٍ من حيث السعر والجودة، وأتيحت الفرصة لإدخال بعض “الإضافات” الصغيرة، مثل الجملة الدعائية: “صُنعت على الطريقة الإيطالية-labrada a la Italiana”، فضلًا عن إمكانية استخدام أنواع حصرية من الكاكاو الآتي من مدينة ماراكايبو في فنزويلا، ومنطقة سوكونوسكو في المكسيك.
وقد مكَّن تصنيف أنواع الشوكولاتة الصانعين من مجاراة الطلب وتعزيزه فضلًا عن الوصول بهذا النوع من الأعمال إلى المزيد من الفئات الاجتماعية مع الحفاظ على مكانته المرموقة “بإعادة ابتكار الفخامة”، من خلال الصنف الأوّل من الشوكولاتة.
استند تصنيف أنواع الشوكولاتة إلى ازدياد الواردات من كاكاو غواياكيل وإلى تعزيز هذه الزيادة في الآونة نفسها. وقد سهّلت الإصلاحات التي طبقت عام 1765، من استيراد الكاكاو إلى إسبانيا، فأدَّى إلى القضاء على السوق السوداء والتحفيز على إعادة تصديره إلى بقية أنحاء القارة الأوروبية. ولمَّا جاء ذلك الوقت أصبح الكاكاو ثاني أهمّ محصول زراعي مستوردٍ من العالم الجديد (بعد التبغ). ورغم أنَّ كاراكاس قد استثنيت رسميًّا من قانون التجارة الحُرّة حتى عام 1789، فإنَّ تغيّر الموازين الذي شهده عام 1778، قلَّلَ الامتيازات التي تمتعت بها غيبوثكوان، وفقدت الشركة موطئ قدمها على خلفية الحرب مع إنكلترا، حتى أغلقت أبوابها سنة 1785.
تأسيس شركة غيبوثكوان في كاراكاس، مارس تأثيرًا حاسمًا، وإن كان غير إراديّ، من حيث تعزيز إنتاج الكاكاو في غواياكيل لتلبية الطلب في سوق إسبانيا الجديدة، لذا إغلاق الشركة سنة 1785، قد أفضى بصورةٍ فوريّة إلى زحف كاكاو غواياكيل (فوراستيرو- forastero) الأوفر غلّةً نحو السيطرة على الصادرات عبر الأطلسي على حساب كاكاو كاراكاس (كريولو- criollo) الأكثر حلاوةً. وقد نجحت كاراكاس في الحفاظ على هيمنتها حتى نهاية القرن الثامن عشر رغم النموّ في إنتاج كاكاو غواياكيل فيما بعد سنة 1789، حين تمّ رفع آخر القيود المفروضة على تجارته. وأنتجت غواياكيل عام 1770 زهاء 50000 كارغا من الكاكاو (يساوي الكارغا 18 رطلًا)، ولمَّا دخل عام 1801 تضاعف الإنتاج حتى وصل إلى 100000 كارغًا، ومن ثم لمَّا دخل عام 1821، تراوح الإنتاج بين 180000 و190000 كارغًا، ليبزّ كاكاو غواياكيل- فوراستيرو- forastero كاكاو كاراكاس- كريولو- criollo.
أخذت زراعة كاكاو كريولو الأعلى قيمةً تنحسر ليحلَّ محلّه كاكاو فوراستيرو (رفقة السلالات الهجينة منه) ويبسط سيطرته العالمية.
وبينما كان لشركة غيبوثكوان دور أساسي في تأسيس سوقٍ للكاكاو، من خلال توسيع نطاق الاستهلاك، إلا أنَّ التجارة الحُرّة مثَّلت الطريقة الوحيدة الكفيلة بمجاراة هذا المستوى الأعلى من الطلب. وإن لم تغذّ اللبرلة هذه الزيادة، فإنها ساعدت على تلبية الطلب القوي على الكاكاو مما شهدته العقود السابقة من خلال التصنيف المتصاعد في واردات الشوكولاتة.
وقد ازدهر إنتاج كاكاو غواياكيل وتصديره خلال القرن الثامن عشر؛ نتيجةً لسرعة نموّه ووفرة غلاله وأسعاره المنخفضة، وإن كانت خواصه لا تقارن بخواص كاكاو كريولو الكاراكاسي. فيما انحسرت زراعة كاكاو كريولو في جزيرة ترينيداد قبالة سواحل فنزويلا لصالح كاكاو فوراستيرو، ما أفضى إلى نشأة سلسلةٍ من السلالات الهجينة المدرّة للربح، (وقد أطلق عليها اسم ترينيتاريو- trinitario). وهكذا أخذ كاكاو كريولو القيّم يخسر أراضيه تدريجيًّا لصالح كاكاو غواياكيل- فوراستيرو الذي بسط سيطرته العالمية رفقة سلالاته الهجينة.
ورغم أنَّ إسبانيا بقيت سوق الكاكاو الضخمة الوحيدة حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإنَّ الاستهلاك طفق يتنامى في الفلبين، واحتضنت الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا كبرى عمليات التحويل الصناعي لحبوب الكاكاو منذ ستينيات القرن التاسع عشر على وجه التقريب. وقد وافق التحوّل الجغرافي في الاستهلاك تزايدَ التصنيف التجاري، إذ أخذ تجار العالم الجديد يحظون باستقلالهم عن التجار الغربيين على نحوٍ مطرد. وشهد التوزّع المكاني لإنتاج الكاكاو ارتفاعًا في زراعته في ولاية باهيا البرازيلية إلى جانب ترينيداد وجمهورية الدومينيكان، وأسهمت بذور كاكاو فوراستيرو في لعب دور بطل المساعي التي بذلتها الإمبراطورية الأيبيرية لدعم استعمارها للقارة الأفريقية أواسط القرن التاسع عشر.
فأصبحت في مطلع القرن العشرين المستعمَرةُ البرتغالية في جزيرة ساو تومي وبرينسيب وساحل الذهب (في غانا الحالية) من أكبر مناطق إنتاج الكاكاو على مستوى العالم. ولا ريب أنَّ كاكاو فوراستيرو ما زال يشكّل اليوم ما يربو على 80% من حجم الإنتاج العالمي، وهو يُزرع في القارة الأفريقية بصورةٍ رئيسة، إذ يحصل العالم اليوم على ما يزيد عن نصف إنتاجه من الكاكاو البالغ أربعة ملايين طن من أفريقيا جنوب الصحراء (ساحل العاج وغانا)، بينما لا يشكّل كاكاو كريولو أكثر من 3% من الإنتاج العالمي. وقد أدَّت التعقيدات التي اتسمت بها السياسات التجارية والأنماط الاجتماعية والثقافية التنافسية للاستحواذ والربحية -فضلًا عن المرونة التي تميّزت بها الشوكولاتة- إلى سلسلةٍ من التأثيرات العكسية التي أفضت بحلول القرن التاسع عشر إلى الارتقاء بالشوكولاتة إلى مصافّ السلعة العالمية مؤكّدة على الترابط والتأثيرات المتبادلة بين مختلف المناطق (والإمبراطوريات المتنافسة) على ضفتيّ الأطلسي.
الهوامش
آيرين فاتاشيوس، باحثة في مرحلة ما بعد الدكتوراة في مجال التاريخ وعلم الاجتماع، جامعة تورينو، إيطاليا.
ترجمة: حيَّان الغربي – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري