الحضارة اليمنية من أقدم الحضارات الإنسانية في العالم، ومن رحمها خرجت الكثير من الشعوب السامية العربية القديمة والعربية والإسلامية الحديثة، أنشئت هذه الحضارة في ظل اللغة اليمنية القديمة، التي استجابت بآليتها البنيوية الاشتقاقية لكل المتطلبات الواسعة لهذه الحضارة وتطوراتها.
وكما أنها لغة أساسية أصيلة ومتطورة لاعتبارها واحدة من اللهجات المتفرعة من اللغة الأم المفترضة، فهي أيضاً فرع مهم تشعب من جذور الجذع الأصلي، امتد وضرب جذوره في الأرض اليمنية، التي ساعدته بيئتها الطبيعية المتنوعة والاجتماعية الحضرية الحضارية المتطورة على النمو والثراء والازدهار حتى أصبح دوحة لغوية وارفة امدت سائر الفروع بمادتها الغنية من المفردات وآليات البناء والاشتقاق.
الاعتماد على أسس علمية وموضوعية
وعلى غير ما قيل بأن اللغة اليمنية القديمة ليست عربية يأتي كتاب “اللغة اليمنية في القرآن الكريم” رداً على هذه الأقاويل، حيث اعتمد مؤلف هذا الكتاب الباحث توفيق محمد السامعي على أسس علمية وموضوعية في خوضه لهذا المجال الدراسي الهام والشائك وما له من الجوانب المتعددة والمعقدة، معتمداً في ذلك إلى ما اضطر علماء اللغة والتفسير العودة إلى المنهل الصافي للمصادر اللغوية القديمة المتمثلة في اللغة اليمنية القديمة، فكان ابن عباس أول من نهل من تلك اللغة وهو يعود إلى تفسير بعض كلمات وألفاظ القرآن التي نسبها إلى لغة اليمن، وجاء مثله من علماء التفسير قتادة والضحاك وطاووس وغيرهم، حيث فرضت بعض ألفاظ القرآن الكريم ذاتها على هؤلاء المفسرين واللغويين في معرفة معانيها من مواطن متعددة، وبعضها لم يجد لها المفسرون جواباً أو معنىً إلا لغة أهل اليمن.
الموطن الأول للساميين
وهذا الكتاب صادر عن الهيئة العامة للكتاب ويحتوي على خمسة مباحث يقع المبحث الأول تحت عنوان “اللغة السامية اليمنية وعلاقتها باللغة العربية الفصحى” يوضح فيه المؤلف أن الدراسات الإنسانية والمصادر التاريخية تؤكد بأن اليمن تعد الموطن الأول للساميين ومنها تمت هجرات مختلفة على فترات متعددة انزاحت نحو الشمال (الشام وبلاد ما بين النهرين، وشمال الجزيرة العربية) وخلف البحار (افريقيا).
وقد ناقش الباحث الأسباب التي جعلت اللغوين يقولون بعدم عربية اللغة اليمنية إلا أنه خلص إلى أنه من الخطأ الجسيم أن يتم الاقتصار على أخذ مادة اللغة العربية فقط عن أهل الصحراء من الأعراب وإهمال غيرهم من أهل المدن وخاصة المجاورة، وذلك أن مادة اللغة البدوية الصحراوية وألفاظها لا تكاد تخرج عن الخيمة والصحراء والإبل والخيل والغنم والرعي وما ارتبط بها، وتجنبوا أهل المدن والحضارة وما ارتبط بها من ألفاظ العمران والبناء والقراءة والكتابة والتجارة والصناعة والسدود والزراعة والاستقرار والنهضة والجيوش والدولة والدواوين والتاريخ، وكل ما ارتبط بالحياة العامة للمدن.
ويقول المؤلف: وعلى الرغم من ذلك إلا أن الكثير من علماء اللغة قد استدلوا كثيراً من لغات اليمن أمثال ابن منظور والفراهيدي وغيرهم، كما أن اللغة اليمنية قد أوجدت الحلول لإشكاليات وظواهر في اللغة العربية الفصيحة الحديثة.
علاقة اللغة العربية القديمة باللغات الأخرى
وناقش المؤلف في المبحث الثاني علاقة اللغة اليمنية القديمة باللغات الأخرى في شمال الجزيرة العربية والآراء التي قيلت في ذلك، موضحاً أن الهجرات التي كانت تتم في ذلك الوقت من جنوب الجزيرة العربية إلى شمالها للبحث عن الاستقرار والعيش الرغيد والأراضي الخصبة، وكذلك طريق تجارة البخور التي كانت تتجه من جنوب الجزيرة إلى شمالها، ما هي إلا دلائل تؤكد عم تأثر اللغة اليمنية باللغات الأخرى بل على العكس من ذلك، مستعرضاً الآراء المختلفة لكثير من اللغويين والمختصين في اللغة والتاريخ من العرب والأجانب حول هذه القضية.
خصائص مشتركة
وتناول المؤلف في المبحث الثالث الخصائص المشتركة بين العربية واللغة اليمنية القديمة والبالغة إحدى وثلاثون خاصية متشابهة ومشتركة، فالعرب قد عرفوا العلوم ومنها بدايات علم العربية في أواخر صدر الإسلام ثم العصر الأموي وتوسعوا فيه في العصور العباسية، فعرفوا النحو والصرف والحركات الاعرابية والاشتقاق وغيره، ثم أنشأوا لها القواعد منذ ذلك التاريخ وإلى اليوم، غير أن اللغة اليمنية القديمة حوت الكثير من هذه القواعد والحركات وتقسيم الكلام والفوارق بين المعرف والمنكر والمذكر والمؤنث وعلامات التذكير وعلامات التأنيث والضمائر والفعل والاسم والأعداد ومنها الأعداد الكسرية وأسماء الإشارة والجر والادغام والاقلاب والتنوين والتفخيم والترقيق والمضّعف، غير أنها لم تكن مدونة كقواعد خاصة.
وسرد المؤلف الخصائص المتشابهة بداية من تشابه عدد الأحرف مروراً بالحركات الاعرابية والتشابه في الألفاظ واستعمالات المعاني والألفاظ.
ألفاظ متشابهة
أما المبحث الرابع فقد استعرض فيه المؤلف العلاقة بين لغة النقوش اليمنية والقرآن الكريم وكذلك الألفاظ المتشابهة بين العربية الفصحى واليمنية في القرآن الكريم.
وما يميز هذا المبحث الجدول الذي أعده المؤلف للألفاظ المشتركة بين العربية الفصحى واليمنية القديمة في القرآن الكريم حيث تم المقارنة بين الجذر اللفظي للغة النقوش اليمنية والذي ما زال منها منطوقاً إلى اليوم، مع معانيها ودلالاتها في نفس اللغة وما يقابلها من ألفاظ ومعان وردت في العربية الفصحى المتطورة وبالتالي ورود هذه الألفاظ والمعاني في القرآن الكريم كأعلى مصدر لغوي عربي موثق ومقدس، يدل دلالة قاطعة على ارتباطها بالبيئة اللغوية العربية المحيطة بها.
وتناول المؤلف في المبحث الخامس الآراء المختلفة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن نزول القرآن بالسبعة الأحرف حيث أورد عدداً من الآراء والتفسيرات المختلفة، مؤكداً أن معاني السبعة الأحرف من الأمور التي شغلت العلماء قديماً وحديثاً فمنهم من أفرد لها المصنفات وهي من الأمور الشائكة في الإسلام، كونها تمس جانباً من العقيدة إن أخطأ أحد فيها لا يستطيع تحمل وزرها.
خليل المعلمي