عباس “بن فرناس” في البرلمان التركي


أحمد عمر

“الفهد يصيد والضبع هو الذي يأكل”.

وصفنا محمود عباس في العنوان بابن فرناس، سميّه، صاحب أول محاولة طيران إنسية، وسنحاول أن نثبت أنه وصف عادل وإن كان ساخرا، وإن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر قد أنبت له أجنحة وريشا، فقد تحوّل خطابه كثيرا، وهو “طيران فوق عش الوقواق”. وكانت السلطة بلسان أبي مازن قد تبرّأت من السابع من أكتوبر، وحمّلت حماس مسؤولية المقتلة العظيمة، وقالت مثل القول الذي قيل في قتل عمار بن ياسر، والذي ينسب إلى معاوية: قتله من أخرجه، وثمة تحقيقات تقول إنَّ حديث عمار: “تقتله الفئة الباغية”، موضوع.

وقد استُقبل الرجل استقبال الفاتحين في تركيا، كأنه طار لأول مرة في التاريخ، وقد وعد بأن يذهب إلى غزة ودعا الأمم المتحدة لمساعدته في بلوغها، وصفق له أعضاء البرلمان كثيرا، ولم نُحصِ مرات التصفيق، وقاموا له وقوفا في ختام الخطاب، تقديرا لشجاعته، وفصاحته وبلاغته، وحسن إيجازه وتلخيصه لمسيرة الجهاد الفلسطيني، وغادر البرلمان مزهوا، ولا نعلم هل سيطير إلى غزة بجناحيه الجديدين، أم سيزحف إليها زحفا.

دخل الزعيم البرلمان مزينا بالوشاح الأبيض المُعلّم بالعلمين التركي والفلسطيني، وقد يقول قائل إن دعوة عباس إلى البرلمان التركي فيلم سياسي مقتبس عن دعوة نتنياهو إلى منصة الكونغرس الأمريكي الذي يحكم العالم، وشتّان بين كونغرس أقوى دولة في العالم، وبرلمان تركيا، فتركيا وإن لم تعد رجل أوروبا المريض، فإنها ما تزال “رجل العالم الإسلامي المتعافي”. عاد نتنياهو، وقد وحّد أمريكا خلفه، موعودا بالأسلحة والذخائر، أما عباس، فقد عاد بالتصفيق ووعد الزحف إلى غزة.

استُقبل الرجل استقبال الفاتحين في تركيا، كأنه طار لأول مرة في التاريخ، وقد وعد بأن يذهب إلى غزة ودعا الأمم المتحدة لمساعدته في بلوغها، وصفق له أعضاء البرلمان كثيرا، ولم نُحصِ مرات التصفيق، وقاموا له وقوفا في ختام الخطاب، تقديرا لشجاعته، وفصاحته وبلاغته، وحسن إيجازه وتلخيصه لمسيرة الجهاد الفلسطيني، وغادر البرلمان مزهوا
لكن ثمة “دماء” تجري تحت الجسر، وقد دُعي الزعيم الفلسطيني الذي جمّد حركة فتح كما جمد الزعماء العرب أحزابهم التي رفعتهم إلى العروش، منفردا بالبطولة، وكنا موعودين بأن يُدعى مع القائد الراحل إسماعيل هنية، الذي مُنع من حضور المشهد بقتله، فلو حضر إسماعيل هنية وخطب، لضاع أبو مازن في غباره، ولعل القتلة قتلوه منعا لهما من العناق والاجتماع أو إفرادا “لقابيل” بالبطولة المطلقة.

ثمة دماء تجري تحت الجسر وفوقه أيضا، ويُظنُّ أنَّ ابن فرناس قد أدرك تحولات الرأي العام الشعبي الفلسطيني والرأي الإسرائيلي اليميني، وأنه بات عبئا على المرحلة الجديدة بعد السابع من أكتوبر، ولعل خطابه الثوري من آثار إعلان بكين. وكانت الصين -وهي إحدى القوى الخمس العظمى- قد رأت أن تبادر إلى الشغل في المشهد السياسي، ومناوشة أمريكا من بعيد، فدعت حماس وفتح إلى بكين، وانتهتا إلى ضرورة المصالحة، وقيل إنَّ الأطراف الفلسطينية اتفقت على قيادة المرحلة الجدية مثالثة (ستة من فتح، وستة من حماس، وستة مستقلين).

أما أهم جملة في الخطاب الثائر، الذي بدأ بالبسملة وآية المصابرة والمرابطة، والحديث الشريف الشهير: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين..”، وقراءة الفاتحة على روح الشهيد إسماعيل هنية، فهي أنَّ الحميت الدسم سيذهب إلى غزة هو ورجال السلطة المترفون المدهنون، سيقوم بثورة ثقافية مثل ماوتسي تونغ.

وقد صفق له أعضاء البرلمان ووقفوا له، فلم نعرف هل وقفوا تقديرا لشجاعته وبسالته الفريدة، أم نكاية ببنيامين نتنياهو والكونغرس الأمريكي، الذي صفق له عشرات المرات، أم اعتذارا من الشعب التركي على تأخرهم في دعم غزة، وقيل في عدد مرات التصفيق لنتنياهو إنها بلغت أزيد من 40 مرة.

وقد اغتيل إسماعيل هنية بعد وعد تركيا باستقباله مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أبي مازن، فلم نعلم هل اغتيل منعا له من الخطاب، أم منعا له من الاجتماع بأبي مازن، أم انتقاما من قصف الحوثيين لتل أبيب، كما قال ابن إسماعيل هنية في تفسير قتله، أم لأسباب أخرى، وقد يكون قتل لتلك الأسباب جميعا.

خطب أبو “خازن” واستشهد بالقرآن الكريم، وهو ليس بخطيب مصقع، لكنه أخطبُ من زملائه الزعماء العرب، الذين يقرأون خطبهم على لحن واحد منوّم، من غير رفع رؤوسهم إلى شعوبهم. وزعم في الخطاب أنه سيطبق الشريعة بقوله: إما الشهادة وإما النصر، ولم نكن نعلم أنَّ هذه هي الشريعة، ربما يقصد قوله تعالى: “هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين”.

وأبدى كثير من المراقبين إعجابهم ببلاغة خطاب “مطبق الشريعة”، وبالوشاح أيضا، الذي يبدو أنه صمم للخطبة، وخيّل لبعض المستبصرين أنه كناية عن الكفن، لولا النقوش والرموز عليه، وكان النضال الفلسطيني لدى النخبة المثقفة قد غدا وشاحا، حتى صار الوشاح بديلا من البندقية، وأصبحت أغنية أم كلثوم التي كتبها نزار قباني، وغابت عن البث والاستذكار من الإذاعات العربية: أصبح الآن عندي كوفية، إلى تل أبيب خذوني معكم.

سيذهب إلى غزة إن صدق، ولم يقل لنا ماذا سيفعل هناك، وكيف سيذهب؟ هل سيذهب على دبابة إسرائيلية، أم سيعبر إليها من بوابة كرم أبو سالم؟ وقد علمنا أنّ نتنياهو قد وضع حلا بديلا لاحتلال معبر فيلادلفيا ونتساريم، وهو تسليمه لعناصر فلسطينية موثوقة من قبله
نسينا بعد خطبته العصماء، التي ابتدأها بالبسملة، أنه اتهم حماس يوما بأنهم كفار قريش، وأن قادة حماس يختبئون في أنفاق في سيناء تاركين الشعب تحت النار، فليس الوقت وقت المكايدة والنكاية. خطب الرجل مدة تعادل مدة خطبة نتنياهو، وكان قد عاد من أمريكا مدعوما من حزبيها، ومشدودا بالحبِّ والمودة ومؤزرا بالعتاد والذخيرة.

لقد خطب أبو مازن أفضل خطبة في حياته، وسيذهب إلى غزة إن صدق، ولم يقل لنا ماذا سيفعل هناك، وكيف سيذهب؟ هل سيذهب على دبابة إسرائيلية، أم سيعبر إليها من بوابة كرم أبو سالم؟ وقد علمنا أنّ نتنياهو قد وضع حلا بديلا لاحتلال معبر فيلادلفيا ونتساريم، وهو تسليمه لعناصر فلسطينية موثوقة من قبله. لكن التصفيق كان كثيرا، وربما كان مضحكا أيضا.

لقد وجدنا عباسنا فدائيا، بعد أن كان يتوسل العالم قائلا: احمونا، اعتبرونا حيوانات، وهذا تحول كبير للحيوان يشبه نظرية دارون في الخلق، بُذل في سبيله الدم أنهارا.

لقد جعل السابع من أكتوبر عباسَ مؤلف كتاب “الصهيونية بداية ونهاية” وعنوان “الصهيونية يا حبيبتي” به أولى بطلا، وخطيبا ساخرا من الولايات المتحدة “قدس الله سرّها”، ولو ليوم واحد فقط.

لقد صدق النطق مرة وإن لم يصدق الحال.
لقد خدعنا خدعة الصبي عن اللبن.

.

المصدر: عربي21

Exit mobile version