استقال د. «عبد الوهاب المسيري» في عام 1990 من جامعة عين شمس ليتفرغ لإنهاء موسوعة عن اليهود واليهودية. وربما يمكننا البدء في إلقاء الضوء على أهمية د. عبد الوهاب المسيري كمفكر عربي من هذه اللحظة، وصِلتها بما قبلها وما بعدها. فهي تدل على أن العلم بالنسبة لعبد الوهاب المسيري ليس وظيفة يتكسب منها، بل هو رسالة يحملها على كاهله وأمانة يؤديها لأمته، يدور معها أينما دارت، والجامعة مسار من مسارات أداء هذه المسئولية، ولذلك كان عبد الوهاب المسيري – كما كان جمال حمدان – عقلًا عربيًا موسوعيًا يصبو للمعرفة والحكمة، والنفع والخدمة لقضايا أمته.
والفارق بين العقل المبدع والعقل الوظيفي هو الفارق بين عقل يوظف المؤسسة والأطر العلمية في الوصول إلى الحكمة والمعرفة، ولخدمة الإنسانية، والدفاع عن حقوق الإنسان، وتوفير حياة طيبة لهم؛ فيكون العلم بذلك علمًا نافعًا. وبين عقل آخر يختفي فيه المنظور النقدي وتتلاشى أسئلة الوجود والهوية، ويصبح فيه العلم حرفة وتحصيله أداة لتحصيل الثروة، والإنتاج العلمي وسيلة للترقي في كادر المهنة أو الكادر السياسي، ويزيد الكم دون زيادة كيفية، ودون أي أمل في نقلة معرفية حقيقية تصنع مستقبلًا أفضل للوطن!
البداية: الرومانتيكية الإنسانية
يمكن إجمالًا وصف عبد الوهاب المسيري بأنه مفكر موسوعي، لكن الوصف الأدق هو أنه مفكر عربي رومانتيكي، والرومانتيكية هنا ليست طوباوية مفارقة للواقع، بل هي رؤية تحتفي بقدرة الإنسان على تجاوز الواقع، إذ يتميز الفكر الإنساني بالقدرة على التوليد والتحليل والاستشراف، فلا يكون أسير مادية طبيعية ولا معلوماتية صلبة.
وهذه الرومانتيكية هي خيط ناظم في فكر عبد الوهاب المسيري يرصدها المتابع له منذ بواكيرها، فقد كانت معه حين كان ماركسيًا، والماركسية كانت دومًا تستلهم روحًا من العدل المثالي، ثم حددت موقفه المعرفي/ الحضاري الرحب فوق الأرضية الإسلامية ليختلف عن أبناء جيله الذين قاموا بنفس التحول، لكنهم وقفوا في مربع الإسلام السياسي أو كانوا أقرب إليه، في حين اختار هو أن يكون إسلاميًا، ورومانتيكيًا إنسانيًا.
الرومانتيكية المسيرية هي التي دفعته منذ البداية إلى معاداة منطق الاستيطان، ليس فقط الاستيطان الصهيوني، بل الاستيطان الرأسمالي في جنوب أفريقيا أيام الأبارتهيد، والاستيطان الأمريكي لمناهج المعرفة وأجندة العقل والثقافة.
رومانتيكيته هي التي دفعته للوقوف متأملًا في الخطاب الصهيوني ليرى فيه شيئًا آخر وراء الصهيونية، يراه جزءًا من الرأسمالية الإمبريالية وأيضًا لصيقًا بمشروع الحداثة – وليس التنوير – فلسفيًا، ويربط المسيري بين دوائر فكره المختلفة ربطًا مركبًا عبر نماذج تحليلية، فلا يرى القارئ في الحقيقة غرابة في أن يكتب المسيري في اليهودية والصهيونية، وفي الشعر، وفي رؤى الحداثة، وفي العلمانية كنموذج معرفي، وفي التحيز الأكاديمي العلمي الغربي، وضد نهاية التاريخ، وفي الخطاب الإسلامي الجديد، وأخيرًا يكتب كتبًا متميزة للأطفال تنال جوائز قومية.
الأدب: مفتاح البداية
عبد الوهاب المسيري في الأصل أستاذ أدب إنجليزي، كان وما يزال، لم يتوقف رغم انشغاله بالموسوعات والكتابة في شتى الموضوعات. منذ البداية يتضح منحى رومانتيكية عبد الوهاب المسيري في اختياره لدراسة الماجيستير والدكتوراه، فهو متخصص في الأدب الرومانتيكي، يذهب في دراساته لبحث كيف تتجلى من خلال كل قصيدة لحظة تاريخية محددة عبر المعنى وآفاق دلالاته.
وحين يدرس القصائد الرومانتيكية الواحدة تلو الأخرى، فإن هذا يؤدي إلى الإحساس بالتتالي التاريخي. ومن ثم يحاول أن يحل المشكلة المنهجية الكبرى وهي كيفية الانتقال من النموذج الجمالي الذي يؤكد استقلال القصيدة، إلى النموذج التاريخي الذي يؤكد كونها جزءًا لا يتجزأ من عملية التتالي التاريخي.
درس قصائد «كوليردج» وفسرها مخالفًا لتفسيرات النقاد الآخرين ومنطلقاتهم الفلسفية، ودرس «وردز ورث» الشاعر البارز، باحثًا الدلالة الميتافيزيقية لما كتب بعد نهاية قصائده من إضافات شعرية هي إضافات متأخرة، فيقرأ الشعر الغربي بعيون جديدة ترى عبر أدواتها التحليلية ما لا يراه غيرها.
ويجعل هذا خيطًا في دراساته المتخصصة عبر السنوات، والتي يتابعها أهل النقد والأدب بتقدير وقد لا يطالعها قارئ المسيري المطالع لكتاباته المشهورة عن اليهودية والصهيونية، فيهتم المسيري في دراسات وبحوث عديدة بالأمثال الرومانتيكية منذ لحظة ولادتها حتى لحظة احتضارها وموتها، ويقوده هذا التحليل للغة والمجاز والتجاوز.
ومن هنا كان احتفاؤه المبكر بشعر المقاومة الفلسطينية ثم رؤيته للنموذج الانتفاضي باعتباره نموذج مقاومة إنسانية ضد السلاح وقوى البطش باعتبار الفلسطيني إنسانًا، له ثقافة ولغة وتاريخ وشعر، يمكنه وهو يجاهد لاسترجاع حقوقه أن يوظف لغته في التعبير عن معاناته وحبه للحرية لتصبح لغة عالمية نضالية ضد الظلم.
عقلية توليدية ومفاهيم مغايرة
يصلح هذا عنوانًا للعديد من إسهامات د.عبد الوهاب المسيري الفكرية، فالتجاوز الذي آمن به ورؤيته الإنسانية التي تبناها هي التي نقلته من عقلية النماذج المعلوماتية الرصدية للرؤى المعرفية الكبرى، ومن هنا انتقاله من المادية إلى رحابة الإنسانية ووعيه بحركة التاريخ. وبذلك لقد أثمرت رؤيته الإنسانية هذه عدة إسهامات في المجال الفكري:
فلسطين: النموذج الإنساني
لا تقل كتابات المسيري عن القضية الفلسطينية أهمية عن كتاباته في الصهيونية، ومن أهمها كتاباته عن فلسطين. والرؤية التي طورها المسيري في كتابه «الانتفاضة: دراسة في الإدراك والكرامة» لا تقدم فلسطين كحالة أو قضية وحسب، بل كنموذج إنساني فريد للمقاومة له ملامحه وسماته النابعة من العقيدة والخصائص الحضارية فيما سماه بالنموذج الانتفاضي، ولأن الانتفاضة ليست مجرد ثورة ضد الاحتلال فهي لا تموت بل تتجدد.
وهكذا نشهد – كما توقع المسيري – تجدد الانتفاضة، والنموذج الانتفاضي ليس لصيقًا بفلسطين وحسب، بل هو نموذج إنساني ضد القوة الاستيطانية يمكن تطويره ليصبح نموذجًا إنسانيًا يتحدى حسابات القوة المادية وعقلية الهزيمة والاستسلام.
يخدم المسيري هذا التصور للطبيعة الإنسانية للنضال الفلسطيني بالإسهام في دراسة الشعر الفلسطيني، ويترجمه للإنجليزية في إصدارات متتالية يمزج فيها رؤى النقد الأدبي بأفكار النقد الحضاري، ويدرس جماليات المقاومة في المراثي – حب فلسطين – الصمود والمقاومة – الأمل في الانتصار.
ويبرز جماليات المقاومة التي تدور حول إشكالية شاعر يبغي تغيير المجتمع وتحطيم الظلم، ولكنه في الوقت ذاته يعبر عن نفسه من خلال شكل جمالي إبداعي متسق مع مكنون ذاته. فيقرأ المسيري ويحلل شعر توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وغيرهم. ويرصد هذه الصورة والرؤى التي تعبر عن مقاومة وصمود الإنسان الفلسطيني.
ولأن هذه التجارب الإبداعية بالدرجة الأولى تجارب إنسانية تتجاوز الخصوصية الفلسطينية، فإن المسيري يحرص على نقلها ويترجمها للإنجليزية كي تصل بلسان آخر إلى بشر آخرين، وتصبح تعبيرًا إنسانيًا عن الإنسان الفلسطيني ليتواصل به مع معاناة الشعوب في أي مكان.
وهناك له أيضًا مختارات في القصص القصيرة الفلسطينية ترجمها الدكتور المسيري مع ابنته الدكتورة نورة المسيري، والقصص التي تضمها المختارات ليست بالضرورة قصص مقاومة، فبعضها يتناول إشكاليات إنسانية عامة.
وحين تندلع الانتفاضة الفلسطينية يجد المسيري نفسه مستوعبًا تمامًا في أحداثها، ومستوعبًا تمامًا لأهمية هذه اللحظة التاريخية في الجهاد الفلسطيني، مما يدعوه إلى ترك مشروعه البحثي الأساسي وهو «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية» ليكتب دراسة فريدة عن الانتفاضة هي في تقديري من أهم كتاباته على الإطلاق.
وبدلًا من أن يرصد يومياتها بشكل معلوماتي أخرس، يستنطق المسيري المعلومات والبيانات والتفاصيل اليومية الصغيرة لتتحدث بلسان إنساني متألق، ثم يجرد منها رؤية معرفية تكمن وراء كل تفاصيلها هي رؤية للكون والحياة.
الغرب والعالم: لا نهاية للتاريخ
انشغل المسيري في مجال النقد الحضاري بالحضارة الغربية، ومقوماتها، ورأى في المدنية الأمريكية تجليًا للحضارة الغربية في مراحل الرأسمالية المتأخرة، وكتب كتابه «الفردوس الأرضي: دراسات وانطباعات عن الحضارة الأمريكية» 1979 ليقدم رؤية تحليلية لعلاقة الغرب بالعالم، انطلاقًا من فهم الرؤية الحداثية للعالم والاحتمالات المعادية للإنسان الكامنة فيها والمتجلية في تاريخها وخبرتها ضد الأقليات وتصوراتها للآخر.
مبكرًا كتب في مراجعة النظرة لأمريكا باعتبارها «الفردوس الأرضي»، وأضاف وطور في كتاب «الغرب والعالم»، وكان اهتمامه دائمًا يتجاوز السياسة إلى الحضارة، ومن العمارة إلى إدراك قواعد العمران ذاته، ولم يكن في ذلك يمارس نزعة شوفينية تحيزًا لعروبته، بل نظرة وموقفًا إنسانيًا يتفاعل مع الآخر في سبيل الدفاع عن الإنسان ضد المادية الشرسة، لذلك كان رمزًا محترمًا وصوتًا مسموعًا في الدوائر الأكاديمية الغربية، وظل عبر مسيرته قادرًا على إقامة جسور إنسانية مع الجميع، مخالفيه في الرأي في داخل ثقافته ومناقضيه في الرؤية خارجها.
وفي كتاباته ينتقد الدكتور المسيري الرؤية الحداثية للعالم، لكنه لا يقف على أرضية من يرفضون الغرب ويريدون العودة في التاريخ للوراء، ولم يقبل أن يقف على أرضية تلفيقية محايدة تهاجم الغلو والردة الحضارية وتزعم الاستفادة من مكتسبات الحضارة الغربية دون نقد حكيم، بل هو يقوم عبر نموذجه الواضح لعلاقة الإنسان بالكون ونقده للحلولية والعلمانية المادية بنقد الحداثة تجاوزًا لها، لا عداء معها أو حرصًا على موقف المناقض لها.
وبذلك يقدم خطابًا تجديديًا إنسانيًا من فوق أرضية الحضارة العربية الإسلامية يمكن بحق وصفه بأنه خطاب إسلامي جديد يرتفع للمقاصد ولا يفرق في تفاصيل الفقه، وبذا يكون خطابًا إنسانيًا صالحًا للتواصل والتفاعل مع العالم والقوى والتيارات الإنسانية المختلفة المعادية للمادية والمعلوماتية الصلبة.
وقد كتب المسيري ضد فكرة نهاية التاريخ التي تجددت مع كتابات «فوكوياما»، ونشر منذ السبعينات رؤيته لتلك الفكرة باعتبارها ضد الإنسان، وربط مبكرًا بين هذه الفكرة ورؤى الصهيونية لانطلاقها من رؤية إمبريالية، فكتاب «نهاية التاريخ مقدمة لدراسة الفكر الصهيوني» صدر للمسيري عام 1972 كدراسة في فلسفة التاريخ الصهيوني، تذهب إلى أن الفلسفات المادية تحاول دائمًا أن تضع نهاية للتاريخ (الزمان والمكان)، وأن تبدأ من نقطة الصفر. وهذا ما يصنعه الصهاينة بالنسبة لكل من الفلسطينيين ويهود العالم.
العنصرية والصهيونية
أبرز ذلك كتابات المسيري حول إعادة صياغة المفاهيم في وصف «الجماعة اليهودية» باعتبارها جماعة ثقافية واحدة، وهو ما بينه المسيري أنه أسطورة صهيونية، وبذلك قام بتفكيك وإعادة تركيب الفكر والتاريخ اليهودي في عدة كتابات حققت تراكمًا في هذا المجال وصارت في أبرز الأدبيات العربية في موضوعاتها.
وقد ربى هذه الرؤية الكلية بالقضايا السياسية الجارية لفهمها وترشيد إدراكها بشكل يتجاوز المعلوماتية الناقلة الرصدية. فكتب موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية التي صدرت بالقاهرة 1975 عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، كانت بداية كتابته في هذا المجال، وظل يتابع تأصيل وتطوير أطروحاته بدأب عبر السنوات.
ومنذ عام 1976 ربط بين الصهيونية والعنصرية وبين جهاد الشعب الفلسطيني وكفاح شعب جنوب أفريقيا ضد الأبارتهيد، وكنا في أشد الحاجة لكتابة موسوعة ضخمة كمحاولة لتأصيل موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية الأصلية، ولتنعكس فيها رؤاه وجهوده في مسارات مختلفة وتعمقها وتستفيد منها وتغذيها وأبرزها رؤيته للعلمانية كرؤية معرفية وفلسفة حداثية.
قارن في كتابات موازية للموسوعة صلة النموذج بالأحداث وتطورها على الأرض كما في كتابه «هجرة السوفيت»، ونقده للرصد المعلوماتي للقضية، وليتنبأ بأنها ستفكك المجتمع الصهيوني، ثم كتب حول أهمية فهم إسرائيل من الداخل وتطوير قدرتنا التفسيرية وفهمنا لطبيعة العدو وطبيعة القضية والمعركة، وليس فقط هتافاتنا وجهادنا اللفظي.
تفكيك الإنسان!
حين انتهى الدكتور المسيري من موسوعته، موسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد»، وجد أنه من المفيد أن يتأمل في إنجازه، وأن يحاول أن يعلق عليه ويستخلص منه النتائج الفلسفية والمنهجية (وكعادته دائمًا مع معظم أعماله) عكف على ما يقرب من أربعة مجلدات يكشف فيها منهجه وأطروحته الأساسية، وقد لخصها كلها في المجلد الأول من موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية الحالية. وعمل – رغم مرضه – على تطويرها وإصدارها كاملة كعمل مستقل أو كأعمال مستقلة.
وهو يرى أن «مابعد الحداثة» العلمانية لا تشكل انحرافًا عن الحضارة الغربية، وإنما هي كامنة في منظومة الحداثة نفسها، وما يسميه «نزعتها التفكيكية»، لأنها جعلت من قوانين المادة الطبيعية معيارًا لكل شيء، بما في ذلك الظاهرة الإنسانية، ولكن القانون الطبيعي لا يعترف بأي مطلقات، إذ إنه يقوم بتفكيك كل شيء بما في ذلك الإنسان.
ومع تفكيك كل شيء نصل إلى العدمية الكاملة أو إنكار المركز، إلهيًا كان أم إنسانيًا، وإنكار القيمة، بل الحقيقة، ومن ثم المقدرة على الحكم، أي أننا وصلنا إلى مرحلة ما بعد الحداثة واللاعقلانية المادية، مما يستلزم تفرقة حاسمة بين بواكير التنوير ومشروع الحداثة.
هو يطور مفهوم الحلولية أي إنكار المسافة بين الخالق والمخلوق بحيث يصبحان جوهرًا واحدًا، فيحرره من المعنى العقيدي ويكسبه دلالة تحليلية في دراسة العلمانية والحداثة ومحاولات التجاوز في تيارات ما بعد الحداثة وقصورها، ولكونها عجزت عن التحرر من فكرة الإنسان الطبيعي، فحين يتم تهميش الدين تسود الحتميات وتصفى الثنائيات وتصبح الظواهر ذات بعد واحد، أي تسود الواحدية (الروحية والمادية) بدلًا من الثنائية والجدل والتدافع.
وننتهي إلى سيادة القانون الطبيعي/ المادي على رؤى الإنسان. والفرق بينها وبين العلمانية الجزئية يكمن في أن العلمانية الجزئية تطالب بفصل الدين عن الدولة وحسب، وتلزم الصمت بخصوص مفهوم القيم المطلقة والحياة الخاصة والمرجعية النهائية للقرارات السياسية. أما العلمانية الشاملة، فهي ليست فصل القيم الدينية عن الدولة، وإنما فصل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية لا عن الدولة وحسب، وإنما عن حياة الإنسان العامة والخاصة وعن المرجعية النهائية للدولة ولكل قرارات الإنسان، أي أنها فصل القيمة عن الحياة.
ونتيجة لهذا يظهر العلم المنفصل عن القيمة، والجسد المنفصل عن القيمة، والحياة المنفصلة عن القيمة، وهذه هي العقلانية المادية الكاملة المستحيلة. وإذا كان من الممكن تقبل العلمانية الجزئية، أي فصل الدين عن السياسة وربما الاقتصاد (بالمعنى المباشر والمحدد للكلمة) فالعلمانية الشاملة – أي فصل الدين عن الحياة وربط الإنسان بقوانين الطبيعة المادية وحسب أمر من العسير تقبله لأنها أيديولوجية كاسحة لا يوجد فيها مجال للإنسان أو للقيم، ومن ثم فهي لا تتصالح مع الدين ولا مع الإنسان، مسلمًا كان أم مسيحيًا أم يهوديًا، وتحاول أن تختزل حياة الإنسان للبعد المادي وحسب!
بلورة مفهوم الجماعة الوظيفية
من أبرز إسهامات الدكتور المسيري تطويره لمفاهيم اجتماعية وتوظيفها في دراسة ظواهر جديدة، ولعل أبرز هذه المفاهيم هو مفهوم الجماعات الوظيفية، والذي استخدمه رواد علم الاجتماع في دراسة جماعات داخل نطاق المجتمع بأدوار وظيفية معينة وقد ترتبط بطبقة أو إثنية.
والجماعة الوظيفية هي جماعة يستوردها المجتمع أو يجندها من داخله، تعرف في ضوء وظيفتها لا في ضوء إنسانيتها الكاملة، ويوكل المجتمع لهذه الجماعة وظائف لا يضطلع بها عادة أعضاء المجتمع إما لأنها مشينة (البغاء – الربا) أو متميزة وتتطلب خبرة خاصة (الطب والترجمة) أو أمنية عسكرية، أو لأنها تتطلب الحياد الكامل (التجارة وجمع الضرائب). ويتسم أعضاء الجماعة الوظيفية بالحياد وبأن علاقتهم بالمجتمع علاقة نفعية تعاقدية، وهم عادة عناصر حركية لا ارتباط لها ولا انتماء، تعيش على هامش المجتمع في حالة اغتراب ويقوم هو بعزلها عنه ليحتفظ بمتانة نسيجه المجتمعي.
وقد سحب المسيري هذا المفهوم على الكيان الصهيوني باعتباره كيانًا وظيفيًا في إطار النسق الرأسمالي العالمي لخدمة أهداف استراتيجية في المنطقة العربية، معطيًا بذلك دلالة عميقة لفلسفة تأسيس الكيان الصهيوني تتجاوز اغتصاب الأرض.
ويطور الدكتور المسيري في كتاباته مفهوم الجماعة الوظيفية ويطبقه على تاريخ الجماعات اليهودية، منطلقًا من رأي «ماركس» و«إنجلز» و«فيبر» و«سومبارت» في أصول الرأسمالية، ويطوره ليحلل قضية الدولة الصهيونية باعتبارها دولة وظيفية، فيقدم مفهوم «الجماعة الوظيفية» باعتباره أداة تحليلية أكثر تفسيرية وتركيبية من مفهوم «الطبقة» التقليدي.
إني أرى الملك عاريًا!
ربما يكون من الغريب في ظل التفوق العلمي والبحثي في الغرب أن يقف عقل عربي مستقل ليذهب إلى أن المناهج الغربية مناهج متحيزة لرؤيتها للعالم ولإرادتها للواقع، وأن لها حدودًا في فهم وتفسير الظاهرة الإنسانية والاجتماعية، ولعل كتاب «التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد» الذي شارك فيه د. عبد الوهاب المسيري وحرره في جزءين، يمثل أحد أهم جوانب تميز المسيري.
فعلى الرغم من أنه قام بأعمال فكرية تستلزم جهد جماعة منفردًا، فإنه أيضًا حاول أن يجمع عقولًا شتى في قضية التجديد المعرفي الأوسع في سعي لتأكيد التواصل عبر التخصصات والأقطار والأجيال. ولذلك فإن كتاب التحيز هو أيضًا تجربة فكرية وبحثية ثرية لها دلالات في فهم دور العقل الموسوعي في التواصل مع الساحة الفكرية والعلمية وإثرائها وعدم الانعزال عنها أو الاكتفاء بالذات أو الانكفاء عليها حتى ولو كانت متميزة، فضلًا عن الدعم العلمي والفكري للأجيال الجديدة لتكتسب الشجاعة والقوة التي تستلزمها العقلية النقدية والحضارية.
سيرته والكتابة للأطفال
عن حياته الفكرية وعن وعيه بضرورة التمييز بين العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية، وعلاقة القرية والمدينة في ظل الحداثة، والصلة بين دراسة الشعر الرومانتيكي ودراسة الصهيونية وتاريخ الأفكار كتب سيرته الذاتية التي تحاول أن تؤرخ لتطوره الفكري، وتجيب في الوقت نفسه على هذه الأسئلة. ولذا فقد أطلق عليها عبارة «سيرة غير ذاتية»، فهي سيرة لا تضم حياة فرد بل هي سيرة مفكر عربي إسلامي. ولكنها في الوقت نفسه تتضمن الحقائق الخاصة بفرد معين له أبعاده الخاصة جدًا، ولذا فهي أيضا «سيرة غير موضوعية».
إن كثيرًا من العقول الموسوعية قد تقدم للآخرين معرفة وعلمًا، لكنها لا تزودهم بالتجارب الإنسانية والفكرية والفلسفية التي مرت بها، وبذلك لا تقدم خبرة فكرية وبحثية وتحقق نقلة وتثري الدائرة الفكرية وتسجل للأجيال مسيرة العقل الحضاري عبر سيرته، ولعل السير الذاتية الفكرية هي أبرز الأعمال التي تقوم بهذه المهمة، وقد أصدر د. عبد الوهاب المسيري أيضًا سيرته الذاتية بهذا الهدف.
لكن ما يدفع عقلًا مثل عقل المسيري لكتابة قصص الأطفال؟ ويحصل عنها على جائزة سوزان مبارك لأدب الطفل؟
الدافع هو رسالة العقل الموسوعي الذي يدرك أن الأمة التي تدافع عن فكر حضاري مستقل وفعل حضاري مستقل لابد أن تتزود بهذه المعرفة القوية على كل المستويات، وأن رسالة العقل الموسوعي هي إبراز جوانب تميز حضارته والمساهمة في مواجهة تحديات واقعها.
فيكتب قصصًا للأطفال يضمنها رؤاه الفلسفية وتبرز فيها قدرة القصص على تغيير رؤى العالم، فتخرج «سندريللا» من أسر العقل الغربي لتتواصل مع حاضرها وتركب مترو الأنفاق، وترتدي في حفل الأمير زيًّا أهدته لها زينب هانم خاتون لا الساحرة الطيبة، ثم تسافر بعد الزواج للحصول على شهادة الدكتوراه.
إنها حقًا قصص مسيرية .. جدًا.
المسيري .. جدو هابو
ما زلت أذكر أول مرة التقيت فيها الدكتور عبدالوهاب المسيري، كان ذلك في 1989 في ندوة بمقر حزب العمل ألقاها عن الانتفاضة والنموذج الانتفاضي، بدا لي خطابه مختلفًا عن الخطاب السائد على كل الجبهات الفكرية آنذاك.
أخذت منه موعدًا وزرته، وبدأـ معرفتي به كمفكر وتوطدت علاقتي بأسرة الدكتور عبد الوهاب المسيري بشكل متواز، ولذا فقد شاهدت وعايشت د. المسيري الإنسان والمفكر والأب معًا، وعاصرت تبلور أفكاره في قضايا عديدة، وعاصرت معاناته في إنهاء موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية – معاناته الفكرية النبيلة وأزماته المالية الطاحنة، وعرفت كيف يمكن أن يعاني المفكر الأستاذ لينفق على علمه بدلًا من أن يرتزق منه، وتعلمت منه الكثير والكثير، وربما تحديدًا لأنني لا تجمعني به مؤسسة أكاديمية ولا مصالح هيراركية.
علّمني د. المسيري أن علاقة المفكر بأجيال أصغر منه ليست علاقة كتاب يستعار أو جلسة فكرية تعقد، بل علاقة أب بأبنائه. يشاركهم لحظات حياتهم المختلفة، حاضرًا في عقد قران، وزائرًا بمولد طفل، وفي رمضان يدعو تلامذته للإفطار وتقدم لهم د. هدى حجازي القطائف بالقشدة.
أما حين يريد أن يخرج معهم بعيدًا عن جدل ونقاشات المطلق والنسبي والجماعات الوظيفية والعلمانية الشاملة.. فإن مركبًا في النيل في عصر جمعة يحمله في نزهة هادئة مع تلاميذه المقربين وأطفالهم الذين ينادونه: جدو هابو.
غير صحيح ولا دقيق أن يوصف د. عبد الوهاب المسيري بأنه خبير في قضايا اليهود والصهيونية وحسب، أو أستاذ أدب إنجليزي وكاتب موسوعي، لكن المسيري في إيجاز: «مفكر إنساني – Humanist». وإذا ما نظر المرء للساحة الفكرية في عالمنا العربي برمته وقام بتصنيف المفكرين عبر توجهاتهم ومدارسهم المختلفة، فإن المسيري يأتي بجدارة على رأس المفكرين الإنسانيين الذين يؤمنون بقدرة الإنسان، وتجاوز أفق العقل الإنساني لقوانين الطبيعة وحدود الجسد.
والمسيري مع كونه «إنسانيًا».. فهو إنسان. وإبداعاته – كما حياته – إنسانية، فرحته بصدور كتاب له لا تقل عن فرحته بنجاح تلميذ من طلابه في الكتابة والنشر، أو الحصول على درجة علمية. وقدرته على أن يدفع من حوله إلى الأمام مصدرها أبوة غامرة وتواضع واثق وعطاء مركب، بل يشكر في فواتح ومقدمات موسوعاته وكتبه، تلامذة وباحثين في نصف عمره لأن أفكارهم كانت «عميقة الأثر على رؤيته واستفاد منها كثيرًا».
ثم هو الذي يسأل عندما نمرض، ويتابع حينما نكتب، ويدعونا للزيارة عندما نغيب وننشغل، بل ويفتح بيته لكي ندعو – نحن تلامذته – إلى ندوة جلسة لا نجد مكانًا يستضيفها أو مساحة من القبول الفكري تحتملها، حتى لو اختلف أو كان له وجهة نظر أخرى.
* د. هبة رؤوف عزت