Blogثقافة وفكر
أخر الأخبار

“عبقرية الاهتمام التلقائي”: الإنسان لا يتعلم إذا أرغمناه على ذلك

في كتابه “عبقرية الاهتمام التلقائي” يواصل المفكر السعودي إبراهيم البليهي مشروعه الفكري الذي يركز فيه على أن الإنسان منذ ولادته تتشكل لديه ثقافة تلقائية من البيئة المحيطة ويكبر عليها، ويستند إلى ليفي شتراوس للتأكيد على أن “الذهن البشري يملك قدرة بنائية هائلة، ويستطيع تحويل كل شيء إلى صور خاصة”.

ويلفت إلى أن الطفل الذي تتحكم به الأنماط الذهنية القاعدية التي تكونت تلقائيا، تكون لديه قابلية شديدة لتلقي وقبول كل ما يزكي النسق الثقافي الذي ينتمي إليه مبتهجا بكل ما يؤيد، ويمجد، ويضخم ويشعل ويلهب ما هو مستقر في ذهنه من أنماط وتصورات وقيم ومشاعر، ولديه جاهزية تلقائية لرفض ما ينافيها.

يرى البليهي أن هذا هو السبب في إلهاب العواطف في التحريض القومي أو العرقي كما فعل هتلر أو غيره، وكذلك إلهاب العاطفة الدينية مثلما فعل البابا أوربانوس الثاني في ندائه الشهير في إلهاب عقول الأوروبيين للحروب الصليبية.

التحكم بالعقول

إن التحريض القومي أو الديني أو الطائفي أو المذهبي أو الوطني من أقوى أسباب الحروب والمذابح والمآسي البشرية الكبرى التي تكررت عبر التاريخ، وما زالت تتكرر في وقتنا الراهن، وتحصل الاستماتة بشكل تلقائي لأنها ذات جاهزية تلقائية كامنة، وكذلك الفرد محكوم بأنماطه الذهنية الأساسية، فيتعامل مع المعلومات والمثيرات الطارئة طبقا لقانون التداعي أو قانون التنافر، فيما يتفق مع أنماطه، ينجذب تلقائيا لتعزيز وتأكيد النمط الملائم له، أما ما يتعارض مع أنماطه الإدراكية فيرفض، وأما ما هو محايد أو ما يتعلمه اضطرارا فتكون له أنماط خاصة به.

كل نمط له وجود مستقل عن بقية الأنماط كالتخصصات المهنية والكفايات المعرفية والعملية، فقد يكون الشخص عميقا في تخصص علمي من دون أن تتأثر أنماطه الذهنية النسقية، وهذه أفظع المعضلات البشرية على مستوى الأفراد والثقافات والمجتمعات والأمم والعالم. وبحسب البليهي، فإن عقل الفرد يكونه ويحتله ويتحكم به الأسبق إليه، فهو يتكون تلقائيا ويبقى يراكم ويضخم نفس التصورات والأنماط وينغلق عن تصحيح الأسبق.

وفي التفاتة فكرية هامة يجري المؤلف مقارنة بين كل من الطبيب الفرنسي الزعيم جورج كليمنصو والطبيب العربي السوري بشار الأسد ليبين أن كليهما طبيب، ولكن كل منهما أخذ مسارا وطريقا مختلفا، متناقضا عن الآخر في مجال التعامل؛ الدولة والمجتمع، فالأول اختار شعبه لقيادة فرنسا في الحرب العالمية الأولى فقادها إلى النصر الباهر وبقي مفخرة لفرنسا ونموذجا للزعامة المخلصة الظافرة، بينما الثاني لا يهمه سوى البقاء في السلطة حتى لو قتل الآلاف من الناس وشرد الملايين، وبدد جمع المواطنين، وفرق بين الأحباب، وداست آلات الحرب المزارع والمساحات الخضراء، ودمرت الحرب الوطن، فتحولت بعض المدن إلى خرائب وأطلال، وتشوه كل شيء وأصبح الملايين من الشعب السوري لاجئين.

ويحلل المؤلف هذه الظاهرة بأن أسبابها هي نوعية الثقافة التي ينتمي إليها كل منهما، إذ إنهما يمثلان ثقافتين مختلفتين، إذ إن الأساس في الموضوع هو سيادة الثقافة التقليدية (ثقافة القوة والإخضاع) التي تؤمن بها جموع كبيرة من الشعب في سوريا وغيرها من دول المنطقة، على النقيض من الثقافة التي تسود فرنسا وغيرها من الدول المتقدمة (ثقافة الإقناع والاختيار).

ويشير المؤلف إلى أن الثبات التلقائي للمجتمعات لأي وضع قائم، والمقاومة الطبيعية للتغيير يحولان دون الاستجابة للمغاير، باعتبار السوابق عوائق، فالعقول تظل محكومة بالأسبق الذي تبرمجت به، والناس يحكمون على الجديد بمنظار ومعايير التصورات السائدة فتغيب عنهم أهمية أفكار المغردين خارج أطواق المألوف، إذ ليس من السهل إدراك خطأ الاتجاه السائد، فقبول الريادة يتطلب تغيير اتجاه السير، وبهذا الرفض التلقائي للمغاير تحرم المجتمعات من التحول الواعي والانقياد الرشيد الذي يتحقق به الازدهار.

ضد الوهم

يرى المؤلف أن المبدعين حتى في المجتمعات الحديثة المتقدمة إذا كانوا يكابدون ويعانون كل هذه المكابدة والمعاناة، ذلك بسبب الطبيعة البشرية القائمة على التلقائية، فإن معضلة المبدعين في المجتمعات التقليدية المتخلفة هي معضلة أبدية وغير قابلة للانفراج، فهي مجتمعات ترفض أن يغرد من داخلها خارج السرب وتفرض على الجميع الاندماج الكلي في المجموع وتطمس فردية الإنسان وتوصد كل الأبواب وتغلق كل النوافذ عن أي ضوء قادم لأنها تتوهم الكمال وتعتقد الاكتفاء فتبقى جامدة في مكانها مع نفس المسارات التاريخية أو تتقهقر وتنحدر نحو المزيد من التخلف.

وللمؤلف رؤية خاصة حول التعلم والتعليم فهو يرى أن الإنسان لا يتعلم إذا اتجه للتعليم مرغما أو مضطرا، فالعقل لا يعمل إلا بوقود العاطفة وهو خاضع تلقائيا لدوافع الانجذاب والنفور واللذة والألم، فالفاعلية في شأن جاد تحتاج دوما ما يسميه برجسون “الانفعال الأصيل الفريد”، فمن يمارس العمل بتثاقل وتأفف لا يمكن أن يتقن عمله، فالعاطفة هي الفاعل أما العمل فما هو سوى تابع لهذا الفاعل، والتعلم لن يكون ناجحا إلا إذا كان تجربة زاخرة بالحيوية والاستمتاع والابتهاج وانطلاق الحياة، وكما يرى غوته “النظرية غبراء وشجرة الحياة خضراء” ويقول الشاعر ييتس “إن التعلم ليس ملء الدلو لكنه اشتعال النار”.

المؤلف يبيّن أنه يوجد قاسم مشترك بين رواد الفكر وعمالقة الفلسفة، إذ إنهم جميعا يتلبّسهم الشك وتحرقهم الحيرة فيكون اهتمامهم المحوري المسيطر هو البحث عن الحقيقة وسط الادعاءات المتناقضة

ويبين المؤلف أنه يوجد قاسم مشترك بين رواد الفكر وعمالقة الفلسفة، إذ إنهم جميعا يتلبسهم الشك وتحرقهم الحيرة فيكون اهتمامهم المحوري المسيطر هو البحث عن الحقيقة وسط الادعاءات المتناقضة، إنهم لا يستطيعون البقاء خانعين مستسلمين لأوهام الواقع، فيندفعون رغما عنهم في البحث الممض والمقارنات الدقيقة والتأمل العميق، إنهم لا يبحثون عن كسب مادي ولا نجاح مهني ولا عن قبول اجتماعي، وإنما ينحصر اهتمامهم القوي المستغرق بالبحث عن الحقيقة، متحررين بذلك من برمجة الطفولة ومن عنعنات التاريخ ومن تيار التناسل الثقافي التلقائي.

ويجري المؤلف مقارنات بين العديد من الأطباء ممن تحول عن مهنة الطب إلى مجالات أخرى كالسياسة أو الثقافة أو علم النفس، منهم الطبيب الفيلسوف وليم جيمس والطبيب الإرهابي جورج شتاين والطبيب الأديب الشاعر جون كيتس والطبيب الثائر المحارب تشي غيفارا والطبيب الفيلسوف غوستاف لوبون والطبيب القائد السياسي مهاتير محمد والطبيب المبدع التنويري يوسف إدريس والطبيب الفيلسوف كارل ياسبرز والطبيب السفاح رادوفان كراديتش.

ويذكر أن كتاب “عبقرية الاهتمام التلقائي” صدر بالتعاون بين داري ابن النديم للنشر والتوزيع الجزائر – وهران والروافد الثقافية ناشرون لبنان بيروت.

العرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى