على وقع أيام الطوفان ولياليه، أنجز الأردن الدورة 38 من مهرجان جرش للثقافة والفنون.
إقامة دورة هذا العام 2024، من عدم إقامتها، شكّل فضاء جدلٍ وأخذٍ وردٍّ على امتداد الأنتلجنسيا الأردنية والرأي العام في الشارع ومواقع التواصل، إلى أن أُعلِن في شهر حزيران/ يونيو الماضي أن النيّة تتجه لإقامته، وهو القرار الذي استدعى من إدارة المهرجان إجراء جملة من المقابلات مع المعنيين في المشهد الثقافي والفني المحلي؛ نقيب الفنانين الأردنيين المخرج محمد يوسف العبادي، رئيس رابطة الكتاب الأردنيين موفق محادين، رئيس رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين الفنان د. عبد الله التميمي، وهي اللقاءات التي تمخّضت عنها الصيغة الممكنة لتمرير دورةِ زمن الطوفان. إذ أدرج المعنيون بالعصفِ مع إدارة المهرجان محددات يمكن في حالة اعتمادها عدم وضع العصيّ في كَرْجِ هذه الدورة؛ فعلى سبيل المثال تجلّت محدّدات رابطة الكتاب الأردنيين بثلاثة عناوين: إلغاء فعاليات المسرح الجنوبي لارتباطه أكثر من غيره من مواقع المهرجان بمظاهر الرقص والصّخب، تغيير شعار المهرجان من “ويستمر الفرح” إلى “ويستمر الوعد”، وأخيرًا التبرّع بالرّيع لصالح غزّة، وهي المحددات التي وافقت عليها إدارة المهرجان جميعها، وشكّلت، إلى ذلك، توافقًا مع مطالب الهيئات الأخرى، نقابة الفنانين ورابطة التشكيليين.
الموافَقة المتفهِّمة من إدارة المهرجان ما كانت لتتحقّق بهذه السلاسة والحَماسة، لولا أن مدير المهرجان، الموسيقي أيمن سماوي، وجد أنها تعكس قناعاته وتعبّر عن وجدانيّاته، فهو كان يهمس لكلّ من زاره خلال أيام المخاض حتى إعلان نيّة إقامة المهرجان، إنه لا يقبل بأي تجاوز على دماء الأبرياء في غزة، ولن يضحّي بمنجزات مسيرةٍ شخصيةٍ طويلة.
وفق هذه المحدّدات، وفي ظلّ انهيار كل الأماني بأن يتوقّف القتل قبل انطلاق الفعاليات في نهاية تموز/ يوليو الماضي 2024، تناوبت الفعاليات الموسيقية والغنائية والشعرية والقصصية والنقدية والمسرحية والتشكيلية من رسم ونحت، يرافقها ثابت مشترك أعظم، ألا وهو ضعف الإقبال الجماهيري، وتصعد منها غصّة نابتة في فضاء أمكنة إقامة الفعاليات؛ إنْ في المركز حيث مدينة جرش التاريخية، أو في المركز الثقافي الملكي في العاصمة الأردنية عمّان، أو حيث سمبوزيوم الرسم والنحت في الجامعة الأردنية (أمّ الجامعات)، إضافة لِمبادرة “عبق اللون” التي يتولاها منذ أعوام الفنان التشكيلي سهيل بقاعين وأقيمت خلال أيام المهرجان في صالة فخر النساء زيد داخل المركز الثقافي الملكي. وهي مبادرة ريادية تتعامل مع ذوي الإعاقة البصرية؛ حيث تعلمهم الرسم والتلوين باستخدام مهارات وحواس عديدة.
الكلامُ كثيرُهُ وقليلُهُ جرى حول كثير من فعاليات الدورة 38، ومن الّلغط الذي دار، معلومة جرى تداولها أن الشاعر السوري أدونيس طلب مبلغًا كبيرًا لِقاء تقديمه أمسية ضمن أمسيات الدورة الشعرية، ولكن الّلغط الأكثر حدّة هو الذي جاء بعد اعتذاره عن عدم المشاركة قبيل موعد أمسيته المشتركة مع الشاعر حيدر محمود بيوم، ومن دون إبداء الأسباب.
لغطٌ آخر يتعلّق بأن شروط رابطة الكتاب الأردنيين غابت في موجة “غناء وطرب ورقص كثير في المهرجان” كما يورد الكاتب علي سعادة في مقال نشرته له جريدة “السبيل”!
مهرجان المونودراما
من منجزات الدورة 38 أنها احتضنت عديد مهرجانات المسرح التي كانت تقام عادة خارج إطار مهرجان جرش؛ في هذا السياق شكّل مهرجان المونودراما بإدارة الفنانة عبير عيسى نقلة نوعية على مستوى مهرجانات المسرح التي ينظمها الأردن، وضمّت عروضه مشاركات من تونس “السلطة الرابعة”، والسعودية “ساكن متحرك”، وسورية “كنّاس”، والعراق “شغف”، وفلسطين “ليست مريم فقط”، والجزائر “مونودراما 33″، ومصر “فريدة” إضافة إلى مشاركة عرض المونودراما الأردني “أدرينالين” تأليف (دراماتورج) وإخراج وتمثيل أسماء مصطفى وموسيقى عبد الرزاق مطرية.
لفتة مهرجان المونودراما والدورة جميعها كانت إطلالة الفنانة السورية المخضرمة منى واصف، فكل خطوة قطعتها نحو منصة المسرح، باحت بزمنٍ كان، وإنجازاتٍ كبرى، وسنديانٍ كثير، وأما الدهشة كلها فقد سطعت عندما لبّت واصف تلميحة الفنانة عبير عيسى التي تحدثت عن تشرفها بالتمثيل إلى جوار “سنديانة دمشقية عريقة” قائلة إن الفنانة المخضرمة كانت كلما غضبت هربت إلى الغناء، فما كان من الصبية التي تكرج في رحاب الثمانين إلا أن لبّت وغنّت: “سمّوك وما أنصفوا عيني… سمّوك عريء الآس… جميلة بين البشر مشكولة فوق الراس… يا مايله عالغصون عيني سمرا سَبيتينا… يحرق قليبه الهوى يامو شو عمل فينا”، ثم لتكشف، بعد موجة التصفيق المبتهجة، أن أول عمل تلفزيوني ملوّن لها في سبعينيات القرن الماضي، كان مسلسل “دليلة والزيبق” الأردني.
عروض المونودراما باحت بمعظم أشجان الإنسان العربي، صرخت… صدحت… حاولت، جاهدة، أن تقفز فوق كل هذا الخراب.
ليالي الحب والوفاء
من إضاءات دورة هذا العام إحياء ليالٍ استذكارية لفنانين رحلوا، أو كانت لهم بصمة أصيلة في مسيرة الموسيقى والغناء الأردنية. وبعد ليلة حب ووفاء توفيق النمري في دورة العام الماضي 2023، تواصلت ليالي دورة هذا العام بليلةِ حُبٍّ ووفاء للفنانة السورية/ اللبنانية سميرة توفيق “أردنية الهَوى والهويّة”، في تركيزٍ على الجزء الأردني الطويل والممتد من مسيرتها الطويلة والممتدة، وليلةِ حُبٍّ ووفاء للفنان الأردني الراحل فارس عوض (1956-1986) حملت عنوان: “من ترانيمِ الفقد نحوَ ألحانِ اليقين”.
ليالي الحب والوفاء فكرة وإخراج الموسيقار والأكاديميّ د. محمد واصف عن نصوص للزميل محمد جميل خضر، تميزت ثلاثتها بالجانب البحثيّ الاستقصائيّ الذي أسهم في إنجاحها، خصوصًا مع شحٍّ، أحيانًا، في المواد الأرشيفية عند الحديث عن تسجيلات يعود بعضها إلى أكثر من 60 عامًا ماضية.
ولأن للفنان فارس عوض صاحب الصوت البلّوريّ المزخرف النديّ مكانة عميقة في وجدان الأردنيين، خصوصًا مع رحيله المفجع شابًا في مستهل مشواره إثر حادث سيرٍ مؤسف، فقد جاء النص الذي رافق استذكار أغنياته شجيًا: “مثلَ عابِرٍ بِنعالٍ من ريح… مرّ من هنا الفارس الذي لا يعوّض. مثلَ هَمْسِ الحَنايا طَلُعَ من وِهادِ مادبا صوتُ فارس عوض البهيُّ كأنَّهُ الرأسُ والعِقالُ وأطباقُ السفرِ السّريعِ نحو أعالي السماء… مثلَ مواعيد الرجاء… فياااا لبلادٍ تسمعُها حين تناديك يا فارس الأوفياء… الحنينُ يُناديك… مادبا تُناديك… عمّان حبيبتكَ تُناديك… تُناديكَ كل آهات النّداء… فمن قال إنك لا تجيب…؟ قَبْلَ أن يرتدَّ الصدى تُجيب.. قَبْلَ أن يَنْذِرَفَ الدمعُ تُلَبّي… إجاباتُكَ أغانيك… جواباتُكَ تَفانيكَ لِعيون الأردنِّ ودروبِ الفنّ في مشاويرِ ناسِهِ وحُرّاسِه… من شجنٍ بنيتَ تفاصيلَ مشوارِكَ الإبداعيِّ المُشعِّ بِالعطاء الذي أنجزتَ من أجلهِ بأعوامٍ قليلةٍ ما لا ينجزه غيرُكَ بعشراتِ الأعوام… من عُروقِ الأرضِ… وَرَعَشات الدوالي… من فُسيفساءِ الأنبياء… من هبوبِ الريح نحوَ شمالِ القَلْبِ أو نحوَ جنوبِ الجِهات… نحيلًا كنتَ يا فارس مثل مَطرَقِ الرمّان… مثل زهر اللوز أو أبعد… مثل شبلٍ من بني حميدة “ذبّاحة الدول”… لَمْلَمْتَ من قصيدِ ربعِكَ دندناتِ الزّمان… دخلتَ دار الإذاعة لتكون لحنًا جديدًا يشبه ثوب الأردن المنسوج بألوان الوطنِ جميعها من شتّى الأصول والمنابت… دخلتَ موهبةً وخرجتَ أيقونةً…”.
طوت دورة هذا العام (الدورة 38) من مهرجان جرش صفحاتها، بما عليها وما لها، بخفقان فؤاد يمتد من عمّان إلى حوران أن يتوقّف القتل، وينتصر الحب، ويعمّ العدل، وينهزم الموت أمام الفنون جميعها، علّها تتحقّق نبوءةُ شاعرٍ: “هزمتكَ يا موت الفنونُ جميعُها”.
ضفة ثالثة