قليل من الناس يعرفون أن منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة أصدرت عُملة فضيَّة عليها صورة الشاعر عبدالله البردوني في العام 1981م.. تكريماً له كأعمى تجاوز كلَّ المعوقات، وجاء بما لم يستطعه أحد.
عبدالله البردوني.. هكذا فقط، دون أيِّ ألقاب، لأنه كان فوق كلِّ لقَب، ولم يكن يحتاج إلى هذه الألقاب التي يحرص عليها الآخرون.. فقد كان يذيِّل مقالاته في صحيفة «26 سبتمبر» بهذا التوقيع: «المواطن عبدالله البردوني».
انتقل من الاسمية إلى العَلَمية، وصار اسم البردوني مقترناً باليمن مثل سدِّ مارب وعرش بلقيس وجبل نقم وشمسان وصهاريج عدن…
تجاوز معاصريه وأسلافه من الشعراء وأصبح مرحلة شعرية تؤرِّخ لأنموذج شعري جديد، وإن ظهر بالشكل التقليدي فللتأكيد أن الأشكال قابلة لاحتواء كل حداثة.. لأنه بدأ بكتابة الشعر حين انطلقت أصوات الحداثة منادية بموت الشعر العمودي، فلم يكن لديه من خيار سوى أن ينجرف مع هذا التيار أو يثبت أن القصيدة العمودية تتَّسع للحداثة أيضاً.. وقد فعل ذلك بما يفوق كلَّ تصوُّر.
سئل أحد النقاد العرب عن البردوني فقال: الشعر العربي مرَّ بثلاث مراحل: قديم وجديد وبردوني.
عبدالله البردوني كان يقرأ كل ما حوله حين يكتب القصيدة، ويستنتج ما سيأتي، ويأتي الواقع مصدِّقاً لرؤيته التي كانت صافية كقلب الماء.
كُتب كثيرة تم تأليفها حول تجربته الشعرية، كلها بأقلام عربية، وقد سألتُه ذات يوم عن سبب شحة الأقلام اليمنية في الكتابة عنه فقال لي: «المعرفة حجاب».
كان يرى ما لا يراه.. رأى «وجوه دخانية في مرايا الليل» رغم فقدانه بصره، ورأى «رواغ المصابيح» رغم أن ذاكرة الضوء لم تكن لديه، وتخاطرَ مع «كائنات الشوق الآخر» رغم أنه كان يعيش في «زمان بلا نوعية».
في العام 1998م، سألت الأستاذ البردوني عن مشاركته في العراق في مهرجان الموصل، حين ذهب إلى هناك للمشاركة بمناسبة مرور ألف سنة على وفاة أبي تمَّام.. بعد أن انتهى من إلقاء قصيدته في حضور أساطين الشعر وكبرائه جاءه نزار قباني وقال له: نعتذر يا أستاذ عبدالله لأننا قرأنا قصائدنا وأنت موجود.. فقال له البردوني: لماذا تعتذر؟ قال له نزار: لأنك قلت كل ما نريد أن نقوله ولم نستطع.. فسأله البردوني: من أنت؟ قال أنا نـِزار.. فقال له البردوني: قل نـَزَار وليس نـِزار.
بعد أن روى البردوني هذا، أطلق ضحكةً لاتزال ترنّ في أذني حتى هذه اللحظة.