عن الشعر والفلسفة

إن الفلسفة في أعمق تجلياتها، هي محاولة لمواجهة الأسئلة الكبرى والمقولات الكبرى والحقائق الكبرى، كالحياة والموت والألوهية و حقيقة الكون وحقيقة الإنسان ومصيره. إنها محاولة لتفسير شامل للوجود. وهي بنت العقل الخالص، العقل الذي يعلو بنا فوق ذواتنا، ويمنحنا الوعي بالوجود العميق ويوغل بنا إلى حقائق الأشياء.

وهي بهذه المفاهيم تلتقي والشعر الذي هو محاولة لتفسير العالم وسؤال كبير، وإن بقي بلا إجابة، عن جدوى الوجود من عبثيته وعن الإنسان الذي يظل “على قلق كأن الريح تحته” منذ صرخته الأولى وحتى شهقته الأخيرة.

ولعل السؤال الذي يقحم نفسه علينا ونحن بمعرض الحديث عن الشعر والفلسفة، هو أيهما كان الأسبق؟

وبالنظر في التراث الإغريقي، نجد أن الفلسفة اليونانية استهلت فجر حياتها بالبحث في أصل الكون وطبيعته، وكان ذلك امتداداً طبيعياً لشغف شعراء المأساة الإغريق الذين كانت لهم شطحات أسطورية خصبة في تفسير نشأة الكون وعلاقته بالآلهة؛ كما هو الحال عند “هزيود” مثلاً. وكان يطلق على شعراء المأساة الإغريق لقب “الفلاسفة الأوائل “. وأجدني أميل إلى هذا الرأي، الذي يجعل الأسبقية للشعر على بدايات الفلسفة، ميلاً شديداً؛ كون الشعور والشطح والخيال وهي من مخصبات الشعر، تأتي قبل نضوج وتكون وتسيد العقل، وهو المطلِقُ الأوحد للفلسفة وأسئلتها الكبرى

أما عند العرب الجاهليين، فلا يمكننا الحديث عن فلسفة وفلاسفة، بل عن حكمة وحكماء. فنحن نجد عند الشعراء العرب في العصر الجاهلي أمثال الشنفرى وزهير بن أبي سلمى وطرفة بن العبد ولبيد والحطيئة وغيرهم، خطرات من الحكمة. والحكمة كما هو معروف عند أية أمة من الأمم، تشكل إرهاصات التفكير الفلسفي، الذي لم يصل إليه العرب، وإنما وصلوا إلى ما يسميه أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام: “الخطرة الفلسفية التي لا تتطلب إلا التفات الذهن إلى معنى يتعلق بأصول الكون من غير بحث منظم وتدليل وتفنيد”

لكن حتى هذه الخطرات الفلسفية التي كنا نجدها عند بعض الشعراء الجاهليين، لم يعد لها وجود بعد الرسالة المحمدية، لأسباب معروفة، حتى عند الشعراء الذين عاشوا العصرين” المخضرمين” فلم نعد نجد عند لبيد أو الحطيئة مثل تلك الشذرات من الحكمة والتأمل، بل إننا لم نعد نقرأ شعراً بالمفهوم الإبداعي، فما بالك بالشعر المتسم بالحكمة والتأمل. وكلنا يعرف ما قاله الأصمعي في شعر حسان الإسلامي. حسان الذي قيل عنه أنه أول من سمى المزاج ( مزاج الخمر بالماء) قتلاً في بيته:

إن التي ناولتَنِي فرددتُها قُتِلتْ، قُتِلْتَ، فهاتها لم تُقْتلِوقد مر زمن طويل قبل أن يعود الشعر إلى الخطرات الفلسفية، على يد أبي تمام، الذي كان “لا يُسقط معناه البتة” كما قال عنه الصولي والذي لا يمكن لنا أن نقرأه إلا بالعقل الخالص، العقل الذي تشرب الفلسفة اليونانية بفضل الترجمات التي نشطت آنذاك، وأفاد منها أبو تمام في معانيه العالية، واستعاراته البعيدة، وتورياته العميقة، “فقد كان قوي الفكر غواصاً على المعاني”.

ولاحظ هنا التبادلية التي حدثت بين الشعر والفلسفة؛ فقد تقدمت الفلسفة على الشعر، وصار الشعر ينهل ويعل من الفلسفة، وقد كان هذا بفعل تحضر الإنسان العربي، وترقي العقل في مناحي حياته كافة.

ورغم ما قلته عن أبي تمام، فلم يكن هذا الشاعر الفذ إلا متأملاً عميقاً، وحداثياً سباقاً، ومؤسساً للآتي الأعظم، ولم يشكل حالة شعرية فلسفية في الزمان والناس والموت والنسل والحياة والشك في خلود النفس، كالتي نجدها عند أبي الطيب المتنبي، في أبياته:

إذا ما تأملت الزمان وصرفه تيقنت أن الموت ضرب من القتلِ

وما الدهر أهل أن تؤمل عنده حياة وأن يُشتاق فيه إلى النسلِ

تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم إلا على شجب والخلف في الشجب

فقيل تخلص نفس المرء سالمةً وقيل تَشْرَكُ جسم المرء في العطب

ومن تفكر في الدنيا ومهجته أقامه الفكرُ بين العجز والتعب

يدفن بعضنا بعضاً ويمشي أواخرنا على هام الأوالي

وكم عينٍ مُقَبَلةِ النواحي كحيلٍ بالجنادل والرمالِ

وهي على محدوديتها، فقد شكلت اللبنات الأولى لفلسفة الرجل الذي سيبقى المجسرَ الأولَ والأوحدَ لعلاقة الشعر العربي بالفلسفة.

أبو العلاء المعري:

يقول يوسف كرم في كتابه ( تاريخ الفلسفة الحديثة ط دار المعارف 1962) عن نيتشه: إنه أديب مطبوع حشر في زمرة الفلاسفة، لأنه كتب وفكر في الإنسان ومصيره والأخلاق وقيمتها؛ وفكر تفكير الأديب وكتب كتابة الأديب أو النبي الملهم.

وفي رأيي: إن أبا العلاء المعري فيلسوف حشر، أو ربما حشر هو نفسه في زمرة الشعراء، فقد عبر عن فلسفته المتكاملة بالشعر في اللزوميات وسقط الزند.

صاغ بالشعر فلسفته في الإنسان ومصيره، وفي الدين والأخلاق و النسل والنبوة والله، فلسف كل شيء في الوجود، وأخضع كل شيء لمذهبه الفلسفي، حتى الشعر لسان فلسفته ألزمه ما لا يلزم.

ولأن أحداً لا يمكنه أن يبني في الهواء، فإنني أرى أن فلسفة أبي

العلاء في الحياة والموت وما بعد الموت قد تأثرت الى حد ما بالفلسفة الأبيقورية، التي كانت طهورية؛ تطهر النفس من اللذة

ومن آثامها وآثارها وتروضها على الألم، وترفعها عن الإيمان

بالجزاء المنتظر، وكانت تعتقد بأن الإنسان يتحلل إلى عناصره الأولى بعد موته. والدليل على أن أبا العلاء كان ينكر النشور؛

هو نقده لأرسطو الذي كان يؤمن بالروح وبقيامة الأجساد، وبالحياة

الثانية قوله:

إن تسأل العقل لا يوجدك من خبر عن الأوائل إلا أنهم هلكوا

لو صح ما قال رسطاليس من قدمٍ وهبَّ من مات لم يجمعهم الفلكُ

لقد آمن أبو العلاء بإمامية العقل وأنكر كل إمام سواه . وقد عبر أبو العلاء عن فلسفته العقلية هذه، بكثير من الأبيات الشعرية أكتفي بذكر بعضها:

أيها الغر إنْ خُصصتَ بعقلٍ فاسألنه فكل عقل نبي

اثنان أهل الأرض؛ ذو عقلٍ بلا دينٍ وآخر ديِّنٌ لا عقل له

كذب الظن لا إمام سوى العقل مشيراً في صبحه والمساءِ

فإذا أطعته جلب الرحمة عند المسير والإرساءِ

العقل إن يضعف يكن مع هذه الدنيا كعاشق مومس تُغويه

أو يقوَ فهي له كحرَّة عاقلٍ حسناء يهواها ولا تُهويه

ولن أغادر هذا الفيلسوف قبل أن أستقرأ فلسفته في الرسل والديانات والنسل، والتي تتجلى في الأبيات الآتية:

ولا تحسبْ مقالَ الرُّسْل حقاً ولكنْ قول زورٍ سطروه

وكان الناس في عيش رغيدٍ فجاؤوا بالمحال فكدروه

أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما دياناتكم مكر من القدماءِ

أرادوا بها جمع الحطام فأدركوا وبادوا وماتت سنة اللؤماء.

وبهذا، يكون أبو العلاء قد سبق الفلسفة الماركسية التي اعتبرت أن الدين مخترع بشري، وأنه زائف.

أما فلسفة أبي العلاء في النسل ، فتتجلى في الأبيات الآتية :

أكان أبوكم آدم بالذي أتى نجيباً فترجون النجابة بالنسلِ ؟

فدونك شغلاً ليس هذا لعله يعود بنفع لا كشغلك بالنسل

وأكثر النسل يشقى الوالدان به فليته كان عن آبائه دفعا

أنسل أو أعقم فالتوحد راحةٌ سيان نجلك والخبيث الناسلُ

لو أن بني أفضلُ أهل عصري لما آثرت أن أحظى بنسلِ

ومرةً أخرى فقد سبق أبو العلاء، العالم الانجليزي “روبيرمالتوس”

الذي اشتهر بنظريته في النسل والمواليد في القرن الثامن عشر للميلاد. غير أن أبا العلاء قد بنى فلسفته على أسس أخلاقية اجتماعية، بينما بنى مالتوس نظريته على أسس اقتصادية اجتماعية.

فلسفة الشعر عند خليل حاوي:

سعى خليل حاوي إلى خلق فلسفة شعرية، تكيف الدين مع الحياة الواقعية التي يحياها الناس، بعيدا عن الغيبيات التي لا يدركها الإنسان، أو التي لا تعنيه في ظل هذه الحياة العصرية المعقدة وكان يرى أن تلك المفاهيم الغيبية، لا تستجيب لحاجات الناس المستحدثة. وقد خاض معارك فكرية ضارية مع أصحاب الديانات ومع أولئك الذين ما زالوا يعتقدون بأن الزمن واقف عند أقدامهم

ويتجلى موقف حاوي من الفكر والعلم والإنسان ومن سدنة الديانات

في قوله:

قابع في مطرحي من ألف ألفْ

قابع في ضفة “الكنج” العريقْ

طرقات الأرض مهما تتناءى

عند بابي تنتهي كل طريقْ

وبكوخي يستريح التوأمان؛

الله والدهر السحيقْ ( قصيدة البحار والدرويش، ديوان نهر الرماد)

وتتجلى الفلسفة الشعرية عند حاوي في قوله:

دوختهم حلقات الذكر

فاجتازوا الحياة

حلقات حلقاتْ

حول درويش عتيقْ

شرَّشت رجلاه في الوحل وباتْ

ساكناً يمتص ما تنضحُه الأرضُ المواتْ ( نفس القصيدة السابقة)

لقد كان للشاعر خليل حاوي آراء فلسفية في السياسة والدين والحياة والاجتماع والحضارات، لا يمكن لنا أن نلم بها في هذه العجالة. وقد عبر عنها شعرياً كأروع وأعمق ما يكون التعبير. ويكاد يكون هو الشاعر العربي الأوحد الذي عقد زواجاً كاثوليكيا بين الشعر والفلسفة. كان شاعراً ناضحاً بالفلسفة، كان فيلسوفاً حتى في طريقة موته.

شعرية التأمل:

وأقصد بها تلك القوة من التأمل ذات المرجعيات الفكرية والفلسفية وحتى التجربة الذاتية ، التي تشحن النص بشحنات شعرية عالية.

و هذه قصيدة للشاعر وليد خازندار، وجدت فيها شعرية التأمل حاضرةً بقوة وهي بعنوان الصمت:

في مكانها زهرة الصبارِ

في إنائها

كعادتها

دون ماءٍ

في مكانه الكرسيٌّ

رمادياً

في الزاويةِ

عليه منفضة السجائرِ

والسجائر المطفأةْ

الملاءات لم تزلْ في مكانها

مشوشةً

هادئةً

والبابُ المواربُ، الذي طالما تهامسنا خلفه،

لما يزل موارباً

يا إلهي..

لكم تغير كل شيء

لكم تغير كل شيء

ولا أريد أن أعلق على القصيدة؛ كيلا أقتلها، ولكن تأمل معي ، كيف أنهاها الشاعر بهذه المفارقة الساخرة ” يا إلهي .. لكم تغير كل شيء.. لكم تغير كل شيء”.

ولا ينفرد وليد خازندار بهذه الثيمة الشعرية التي أسميتها شعرية التأمل فقد وجدتها حاضرة بقوة أيضا عند الشاعر باسم النبريص، وخاصة في ديوانيه نظم العقل الخالص ومقال في معنى الريح، وقد وقعت أيضاً على أثر فلسفة هيجل الحسية الواقعية التي تريد آن ترفع المحسوس إلى مقام المطلق والواقع إلى مقام الحق ،في معظم قصائد الديوانين المذكورين. فالشاعر يبدأ قصيدته غالباً بما هو محسوس وواقعي عبر عملية شعرية تأملية ليصل بها إلى يوتوبياه المفتقدة، ولكنه لا يصل…..

والقارئ لديوان “ما زلت تشبه نفسك” للشاعر خالد جمعة يستطيع أن يعثر بلا عناء، على قدر من الشعرية التأملية، ذات المنطلقات الوجودية هذه المرة ( وجودية كيركجارد ومن بعده سارتر) فالشاعر جمعة وإن كان يعلي من العقل، إلا أنه يدرك أن هذا العقل يسفر في الغالب عن مفارقات حسب “كيركجارد”، لذلك يحاول دائما آن يحد من سلطته، وينزله من عليائه إلى الأرض لصالح الإنسان، الذي يؤمن بنفسه قبل إيمانه بأي شيء آخر. لهذا توغل الشاعر عبر أسئلته الشعرية في الانسان كموجود أناني شكاك قلق، الإنسان الحر حرية مطلقة في اختياره، يرفض أو يقبل، يؤمن أو يشك دون أن يعني ذلك انهيار القيم والأخلاق عنده” حسب سارتر. ( قصائد، عن الرواية والتابوت، أسئلة، عن موت الإله الصغير، الأشياء للظل، ما بعد الموت، فراغ في الخارطة، فراغ على الخارطة).

أما شعرية التأمل في ديوان “أفٍ” لموسى أبو كرش، فقد انطلقت من مرجعية فلسفية عربية تتمثل في بيت المتنبي:

وإذا الشيخ قال أفٍ فما ملَّ حياةً وإنما الضعفَ ملّا

فالشاعر لا يتأفف تصنعاً أو نزقاً، فهو كما نقرأ في كثير من قصائد الديوان محبٌ للحياة مقبلٌ عليها، لكن ما دفعه إلى التأفف حد القرف، هو ما يحيط به من ضعفٍ، ولك أن تؤولَ هذا الضعف كيفما تشاء.

-جبر شعث

Exit mobile version