لا دخل لهذا الكلام بالموقف من اغتيال نصر الله، لأن المشاعر شأن شخصي، وإن تأثّرت بتقدير العقل للموقف على نحو ما. وليس هذا دفاعا عن إيران، فقد كتبت عشرات المقالات وآلاف التغريدات ضد مشروع تمدّدها، وكان ذلك قبل ربيع العرب، وقبل تدخّلها في سوريا. ومن يتابعني يعرف ذلك.
حين نقول إيران، فهي إيران وتوابعها فقط، ولكن حين نقول “الكيان”، فالأمر يتعلّق بالغرب، لأن “الكيان” صناعة غربية، بل أداة للمشروع الإمبريالي الغربي، ومن كان لا يعرف ذلك، فربما أدرك الحقيقة بعد “الطوفان”، حين هبَّت أمريكا وحلفاؤها لنُصرته.
هنا يكون سؤال أيّهما أكثر خطرا، ليس إيران أم “الكيان”، بل إيران أم أمريكا والغرب، وإلا هل كانت الأمّة تافهة طوال عقود حين اعتبرت الصراع في فلسطين قضيّتها المركزية؟!
هنا تغدو المقارنة جدُّ بائسة، بين غرب يُطاردنا منذ قرون وأمعن فينا احتلالا واستعمارا ونهبا، ثم تقسيما ومنعا لامتلاك القوة، وتكريسا للشرذمة (عبر “الكيان” ذاته)، وبين دولة إقليمية تمدَّد نفوذها في 4 دول عربية في غفلة من نظام رسمي عربي بائس وضائع بسبب خلافاته وخلل أولوياته.. أقول تمدَّد نفوذها، ولا أقول “احتلت”، لأن من يسيطرون في تلك الدول هُم من أبنائها، ويساعدهم أو يتواطأ معهم أو يشاركهم بعض السُنّة أيضا.
أفتح قوسا كي أشير إلى سوريا وثورتها.
هذه الثورة كانت جزءا لا يتجزّأ من “ربيع العرب”، ولم تكن ثورة طائفية، ولو لم تدخل إيران على الخط، لكان الموقف من تلك الثورة هو ذاته من بقية الثورات، أي الرفض والاستهداف من الغرب ومن “الثورة المضادة” العربية.
من يعتقد أن إيران (وهي مُجرمة في سوريا) كانت سبب إجهاض الثورة، لا يعرف شيئا في السياسة، بل ولا حتى روسيا، لأن أمريكا والغرب وبعض العرب إياهم أرادوها ثقبا أسود يستنزف الجميع، بما في ذلك إيران وروسيا، مع ضرب ربيع العرب، لأن “الفيتو” الغربي على حكم شعبي حقيقي في سوريا على حدود “الكيان”، هو “فيتو” حاسم، كما أن الإجماع الدولي كان حاسما ضد الثورة أيضا؛ كل طرف تبعا لحساباته.
والنتيجة أن مصالح “الكيان” وحراستها من أمريكا والغرب هي السبب الأهم لإجهاض ثورة سوريا، بصرف النظر عن القاتل المُباشر، ولنتذكّر أن البراميل المتفجّرة كانت هواية النظام المجرم ذاته قبل إيران.
تعالوا إلى العراق.. أليست أمريكا هي المُجرم الأكبر؟.. ثم اليمن.. أليست المبادرة الخليجية هي من عبثت بالثورة ورفضت نجاحها، وتبعتها آمال القوم إياهم بضرب “الإصلاح” بالحوثيين، لأجل الخلاص من الطرفين، ما أفسح المجال لتمدّد الحوثي؟ في الحالتين كانت هناك مساعدة عربية أو غربية، ولولاها لما نجحت إيران. ألم تكن أمريكا هي التي غطّت مليشيات الحشد لضرب “داعش”؟! فأين هي القوة الأسطورية لإيران وتوابعها التي يتوهَّمها البعض. ألم تستهدف أمريكا التنظيم في سوريا أكثر من روسيا وإيران (هو لا يمثّل الثورة طبعا)؟!هل بوسع إيران وتوابعها (إذا قرّروا) أن يفعلوا بالأمّة ما فعله الغرب طوال قرون؟! كلا، وألف كلا.
ألم يسيطر (الفاطميون) على مصر لأكثر من قرنين، فأين هُم الآن؟!
أما حكاية التشييع التي يطير بها البعض، فلا تعدو إهانة للسُنّة ومذهبهم.. كم سُنيّا تشيّع في العراق أو إيران أو لبنان.. هل يمكن لمن نشأ على محبَّة أروع النماذج الإنسانية (وليس الإسلامية فقط) في عالم الحُكم كأبي بكر وعُمر أن يراهما (كذا وكذا مما تعرفون)، وماذا عن حكاية المهدي الغائب وقصص الثارات التي لا صلة لها بجوهر الدين المُكتمل قبلها، هل سيقتنع بها أحد لم يأخذها بالوراثة، وهي وراثة في طريقها للاندثار، لأن الأجيال الجديدة من كل الأديان ستحدِّد قناعاتها بنفسها، حيث انتهى الزمن الذي يمكن لحاكم أو لحُكم أن يغيِّر فيه مذهب الناس بقرار سياسي، وهذا لا يعني إساءة لأحد، فلكل أن يعتقد ما يشاء، وهذه المنطقة تعجُّ بالأقليّات من كل لون، ولها جميعا حقوقها في دولة عادلة.
أعيد القول إن المقارنة ليست بين “الكيان” وبين إيران، بل بين ما يمثِّله “الكيان” من مشروع غربي ضد الأمّة، وبين إيران، وهنا تغدو المقارنة عبثية، لأن إيران نفسها مُستهدفة، وإلا فلماذا يطاردونها منذ عقود بالعقوبات، تماما كما طاردوا صدام، وكما طاردوا محمد علي باشا في مصر حين سعى لامتلاك القوة، وحقَّق تقدُّما كبيرا، حتى كانت اليابان ترسل إلى مصر مهندسين لنقل التجربة؟!
من دون أن يتراجع هذا الغرب الفاجر، فسنبقى أمّة مستضعفة، وهو عدوُّنا الأكبر، بل عدوُّ كل المستضعفين في الأرض ممن احتلهم واستعمرهم ونهب ثرواتهم، ثم ترك ديارهم ونصَّب حكاما فاسدين عليها، وما زال يعبث بها على كل صعيد.
أما إيران، فلا طاقة لها بنا إذا اختارت العداء، لكنها دولة موجودة ولن يشطبها أحد، وحين تعرف حدودها، سيكون التفاهم مُمكنا، بل يمكن أن يكون التفاهم بين محاور المنطقة (العرب، تركيا وإيران) محطة نحو إضعاف النفوذ الغربي برمّته.
تذكير آخر: ما يحدث لإيران اليوم، وأيضا لحزب الله باغتيال قادته، لم يكن انتقاما لسوريا وشعبها، وإلا لقتلوا رأس نظامها بهجوم بسيط، ومعه كل رموز عصابته، لكن وجوده مصلحة لهم (النظام وليس الشخص)، بل هُم من كانوا وراء إجهاض الثورة من الناحية العملية، وطبعا عبر الغرب (معه بعض العرب أيضا) الذي منع الثوار من التمدُّد نحو دمشق حين كان جاهزا للسقوط، كما منعوا السلاح النوعي عنهم.
ما يحدث لإيران اليوم، وأيضا لحزب الله باغتيال قادته، لم يكن انتقاما لسوريا وشعبها، وإلا لقتلوا رأس نظامها بهجوم بسيط، ومعه كل رموز عصابته، لكن وجوده مصلحة لهم (النظام وليس الشخص)، بل هُم من كانوا وراء إجهاض الثورة من الناحية العملية
ما يحدث لإيران اليوم، ليس بسبب العراق وسوريا واليمن أو المشروع الإقليمي، بل بسبب تحدّيها لقرار الغرب باحتكار “الكيان” للسلاح الاستراتيجي، ودعمها للمقاومة في فلسطين، ولو تنازلت عن ذلك كله، فسيقبل الغرب بما حصلت عليه من تمدّد إقليمي وأكثر، لأن الصراع بينها وبين العرب والأتراك يمثل مصلحة له (ولكيانه الحبيب) من دون شك.
هي كلمات مُخلصة دفاعا عن هذه الأمّة ودينها، وعن حقها في أن يكون لها مكان تحت الشمس، وهي تُخاطب من كان له عقل وقلب، ولا شأن لها بعشّاق نظرية المؤامرة، ومن يرون أن كل ما يجري هو تفاهم صهيوني أمريكي إيراني، أو مسرحية طويلة لا يسيل فيها “الكاتشاب”، كما في المسارح، بل تسيل فيها دماء بلا حصر، بما فيها دماء أهم القادة!
رسائل أخيرة:
أولا لأحبّتي السوريين الذين وقفت معهم من أول يوم لثورتهم، وحملت رسالة دمائهم الزكيّة؛ من الطفل حمزة الخطيب، وحتى آخر شهيد، أقول لهم إن بقاء نظام الأقلية الطائفي في سوريا لم يكن إلا بسبب وجود “الكيان”، وهو خارج منطق التاريخ، ولا يمكن أن يستمر مهما طال عمره، ومهمَّتكم وقد أصبحتم “شتاتا” بالملايين أن تواصلوا معركتكم معه دون توقف بكل وسيلة ممكنة، بالوقفات والمظاهرات والكتابات، وبالمحاكمات الدولية، وهو ما سيجعل بقاءه صعبا. أما في الصراع مع العدو الصهيوني، فأنتم أولى بحمل الرسالة لأن “الكيان” عدوّكم الأكبر، ولولاه لما بقي النظام.. وذلك الشيخ “القسّام” الذي يفوح عطره في الأجواء كان من شعبكم الأبي.
أما إخوتي في اليمن، فقد وقفت معكم أيضا ضد انقلاب الحوثي، وبقاء حُكم تلك الأقليّة (وهي جزء من الشعب) رهن ببؤس سياسات “الداعمين”، وهو لن يستمر أيضا، وسيعود اليمن لكل أبنائه، وليس لفئة دون أخرى، وهُم كانوا جميعا بكل فئاتهم طوال العقود من أكثر الناس انحيازا لفلسطين وقضايا الأمّة كلها.
وفي العراق، كان الشيعة هُم من هتفوا قبل سنوات “إيران بره بره”، والنتيجة أنه بلد بثروات كبيرة، تعرّض لأكبر عملية نهب في التاريخ، ويستحق شعبه المكلوم أن يُحكَم مدنيا من كل أبنائه الشرفاء، وليَعبُد بعد ذلك كل أحد ربَّه كيف يشاء، ويعتقد ما يشاء دون استفزاز أو إهانة للآخرين.
وفي لبنان بلد متنوِّع، والشيعة فيه كما غيرهم يستحقون أن يعيشوا في بلد مستقر، بعيدا عن تهديد الصهاينة، وعبث العابثين من الدول الأخرى، وصولا إلى نظام عادل يستوعب الجميع، تماما كحال إيران التي يستحق شعبها أيضا عيشا كريما واستمتاعا بثرواته، بعيدا عن إملاءات الخارج والأحلام غير المنطقية بالتمدُّد المذهبي.
لكن مظالمنا كأمّة لا تنحصر في هذه الدول، إذ تعيش أكثر شعوبنا رهينة الظلم الداخلي والتبعية الخارجية، ولا بد لنا من فجر جديد، يمنحنا فرصة أخذ مكاننا تحت الشمس، كما كان حالنا لقرون عديدة.