لا أزال أذكر نهاية عام 1993، لأني احتفلت بها مع أخي ومجموعة من صديقاته وأصدقائه الأمريكان من معارفه في إحدى جامعات كاليفورنيا. كنا نقف أمام قصر الأميرة النائمة في ديزني لاند (Disney Land)، حيث كان الجميع يتبادلون النكات والضحكات، وأنا الوحيدة التي كنت صامتة ومذهولة أمام ذاك الكيان الهائل المضيء والماثل أمامي في وسط بحيرة متلألئة، وكنت في حيرةٍ من أمري، وشعرت أني سافرت من خلال بوابة نجمية إلى عالم الخيال والأساطير، وزاد إيماني، ولو مؤقتاً، بحقيقة قصص الأميرات والوحوش التي قرأتها بشغف في صغري.
صَحوت من غفلتي على صوت المفرقعات والألعاب النارية في سماء ديزني، وتيقنت أن عرض أضواء الليزر العجيب الذي كان سينطلق عند منتصف الليل مؤذناً ببداية السنة الجديدة، قد بدأ فعلاً، والذي كنت أنتظر مشاهدته بلهفةٍ للمرة الأولى في حياتي. أظن أن وقع تلك الأحداث الصاخبة كان عظيماً على قلب فتاةٍ ريفية جاءت من بلدة السخنة الصغيرة الوادعة، والتي تبعد عن عمان حوالي 40 كيلومتراً، في زمنٍ كان يخلو من الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
لن أنسى تلك الليلة أبداً، خاصة لأن القدَر تكرّم عليَّ بفرصة التعرف على “ماري سول”، إحدى الفتيات في المجموعة، والتي فاجأتني ببساطتها وخفة دمها ونقاء قلبها، فأصبحنا كأختين توأم طيلة مكوثي في أمريكا، وعن بعد لِما قبل ورود خبر وفاتها المؤسف خلال الشهر الماضي، نتيجة الانتشار المفاجئ والسريع للخلايا السرطانية في دماغها. أتساءل دائماً عن سبب الفراق المبكر للأشخاص الطيبين، والذين يودّونك دون أن تكون لديهم أجندات خفية.
هناك ذكرى ثانية ظلت ترافقني ليومنا هذا، ربما لأنها تزامنت مع وفاة المغفور له جلالة الملك حسين المعظم، في شهر فبراير/شباط من عام 1999. كنت مشاركة في ندوة دولية تم عقدها في طوكيو عن تطوير المشاريع الصغيرة، وكان البرد قارساً نتيجة هطول الثلوج المستمر في اليابان، وكنت أمُّر بحالة حزنٍ شديد على وفاة مليكنا، لعلمي أننا كأردنيين قد فقدنا وسنفتقد للأبد شعاع عينيه اللتين كانتا تغرورقان بالدموع دون استئذان حين يمر بموقفٍ إنساني تهتز له مشاعره. أقنعتني “شارمين” زميلتي في الندوة والآتية من جنوب أفريقيا، بمرافقتها في عطلة نهاية الأسبوع، للذهاب معها في رحلة إلى المنطقة المحاذية لجبل فوجي (Fuji) على متن القطار. صعد بنا القطار سفح جبلٍ عالٍ مغطى بالأشجار الحرجية داكنة الخضار، ثم توقفنا عند محطة تلفريك ملاصقة لمتجرٍ كبير، فوجدنا هناك حلوى مصنوعة من الكستناء، والتهمت عدة حبات منها خلال دقائق معدودة من شدة جوعي، وشربنا الشاي الأخضر الساخن لكي نشعر ببعض الدفء، فقد كان الثلج يتساقط بشدة طوال رحلتنا في القطار.
قررنا الصعود لقمة الجبل العالي، والذي يواجه قمة جبل فوجي الشامخة، والتي لم نستطع رؤيتها جيداً بسبب الضباب أو ربما السحاب الكثيف حولها، فركبنا عربة التلفريك وصعدت بنا لقمة الجبل، حيث توقفت العربة عند محطةٍ ثانية، ووقفنا على شرفة المحطة الكبيرة، نتأمل المنظر الخلّاب للجبال الشامخة حولنا والتي تتغطى قممها بالثلوج البيضاء. اقترحت صديقتي أن نكمل رحلتنا إلى قمة جبل آخر يواجهنا، فوافقتها بحماس، ولا أعلم لماذا، وركبنا عربة تلفريك ثانية وبصحبتنا زوجين من ماليزيا تعرّفنا عليهما في المطعم. تذكرت حينها أغنية عبد الحليم حافظ، التي يقول فيها: “لو أني أعرف أن البحر عميقٌ جداً ما أبحرت”، ولكني استبدلت بعض الكلمات وصرت أعيدها مع نفسي، قائلةً: لو أنِّي أعرف أن الجبل عالٍ جداً لما ركبت التلفريك، وحدث هذا في منتصف رحلة التلفريك عندما اختفت فجأة الغيوم التي كنت أظنها ضباباً، عندما زادت سرعة الرياح المصاحبة للعاصفة الثلجية، وبدأت عربتنا بالتأرجح بقوةٍ يميناً ويساراً، والذي رفع من درجة الرعب التي كنت أعيشها في تلك اللحظة، أني رأيت طائرةً مروحية صغيرة تطير أسفل العربة، فاستطعت عندها تقدير مدى الارتفاع الذي نحن به، والدليل على ذلك عدم قدرتي على رؤية القاع الفاصل بين الجبلين. خلال تلك الدقائق العصيبة، كأن الخوف كان بادياً على وجهي، وتأكدت من ذلك، بسبب ردة فعل شارمين التي بدأت تطمئنني بأن رحلتنا قاربت على النهاية. وصلنا بسلام كما وعدتني صديقتي، وكنت أحسب نصف الساعة الذي مضى كأنه الدهر، وشكرت الله كثيراً، ولكني بنفس الوقت، وفي أقصى مراحل الخوف التي مررت بها في حياتي، كنت أشعر بمتعةٍ غريبة في غير محلها، وهو إحساس يتفرّد به الشباب عن غيرهم، ربما لأنهم لا يخافون من المغامرة لقصر الفترة الزمنية على وجودهم في الحياة الدنيا، أو لأنهم يعانون من بعض الجنون والاستهتار في تلك المرحلة العمرية، وحسب خبرتي فإن هذه المشاعر تتلاشى مع تقدم العمر، وتزيد وتيرة الإحساس بمشاعر التشبث بالحياة، لإدراكنا المتأخر، كم هي الحياة نفيسة وغالية. الذي أريد أن أقوله، إنه في منتصف تلك الرحلة، وعندما كانت عربة التلفريك تتأرجح بنا بقوة بين قمتي الجبلين والعاصفة الثلجية تضربنا بقوة، تخيلت أن العربة على أعتاب بوابةٍ نجمية، وأننا ماضون بلا رجعة إلى عالم البرزخ الذي قرأت عنه كثيراً في كتب الدين.
أما الذكرى الثالثة، فكانت عند مرافقتي لأخي وأصدقائه لمدينة البتراء الأثرية خلال زيارتهم للأردن في عام 1993. كانت هذه المرة الأولى التي أزور بها البتراء، وتعجَّب من ذلك أصدقاء أخي، لأن سبب زيارتهم الأساسي للأردن كان الذهاب لرؤية تلك المدينة الوردية، والتي ذاع صيتها في جميع أنحاء العالم. ربما كان سبب تقاعسي عن زيارتها، لأني قرأت عنها كثيراً وشاهدت العديد من البرامج الوثائقية الخاصة بها قبل زيارتي الأولى لها، وظننت أنها شبيهة بالمناطق الأثرية الأخرى التي تعّجُ بها الأردن، مثل المدرج الروماني في عمان، ومدينة جرش الأثرية،…إلخ.
انطلقت مجموعتنا من عمان في الصباح الباكر على متن باص إحدى شركات النقل السياحي، والذي يمتاز بسرعته، مع ذلك، استمرت رحلتنا قرابة ثلاث ساعات. نزلنا من الباص مترّنحين وشاعرين بدوارٍ خفيف من طول الجلوس في المقاعد الضيقة خلال رحلتنا الطويلة، واتجهنا مباشرة إلى البوابة الكبيرة لشراء تذاكر الدخول لمدينة البتراء، وتمت إحاطتنا بعد دخولنا من قبل أصحاب الخيول التي ستأخذنا إلى “الخزنة”، وهو المَعْلم الرئيس للبتراء، وامتطينا صهوات الخيول وانطلقنا من خلال “السيق” أو الطريق المؤدي إلى قلب تلك المدينة الأثرية، والذي يخترق جبالاً كلسية بعلوٍّ يصل إلى 80 متراً، وعرضه يتراوح ما بين 3 و12 متراً، أما طوله فيزيد على 1200 متر.
كان مرافقي “حَمَد” ماسكاً بزمام حصانه ويحدّثني عن التاريخ القديم للمنطقة وقبيلة “البدول” التي ينتمي إليها، والتي تسكن الكهوف المحيطة بمدينة البتراء، خلال مرورنا بذلك الشق الذي تحجب جدرانه أشعة الشمس من شدة ارتفاعها في بعض الأماكن. كان حمد يمازحني خلال مسيرنا عندما يقوم فجأةً بالتصفير، فيسرع الحصان خطاه، فيضحك عندما أسحب بعصبية وخوف لجام الحصان، ثم يصفّر مرةً أخرى، فيعود الحصان لمشيته الاعتيادية الرتيبة، وأقوم أنا بمسح العرق عن جبيني بيدي المرتعشة. لم أشعر بمرور الوقت خلال رحلتنا الشيقة تلك، والتي اختلطت فيها مشاعر الخوف من الوقوع عن ظهر الحصان، مع الانبهار بذلك النفق الوردي الذي من خلاله تلفح وجهك نسمات لطيفة تحس أنها آتية من الأزمان الغابرة، والتي تعبق بمزيج من رائحة الأعشاب العطرية والأزهار البرية التي تتشبث بجدرانه الشاهقة.
أبطأ حمد خطى الحصان عند وصولنا لمنطقةٍ واسعة من السيق كانت مكتظةً بالسياح والخيول، ولم يقم بتنبيهي بأني سأعيش لحظاتٍ عجيبة عندما نتخطى الجموع الكثيفة التي أمامنا، والتي ناور حمد من خلالها بصمتٍ ومهارة حتى وصلنا إلى فجوةٍ ضخمة وعمودية، وكأنها بوابة سماوية، يصعب النظر إلى ما خلفها من شدة الضياء الذي ينبعث منها، واستطعنا اجتيازها بصعوبة، وتطلّب الأمر مني بعض الوقت لتعتاد عينيّ على نور الشمس البراق الذي يضيء الساحة الواسعة خارج السيق، حينها استطعت استيعاب منظر البنيان الوردي الشامخ الماثل أمامي، بواجهةٍ تتطاول فيها أعمدةٍ راسخةٍ عملاقة، يعلوها بجلالٍ، تاج رائع الصنع، لم أقوى للحظاتٍ طويلة عن إزاحة نظري عنه، واستيقظت من غفوتي عند سماعي لصيحات الإعجاب التي انتزعتها خزنة البتراء من أصدقائي وبقية جموع السياح، وأدركت حينها أني دخلت إلى عالم الأنباط القديم قدم الزمان.
سأختم مقالي، بوصف تجربةٍ فريدة مررت بها في خريف عام 2017، برفقة إحدى صديقاتي السابقات، والتي كانت عكس ماري سول بكل شيء. كانت صداقتي لها غريبة الأطوار، فقد كنت أعلم علم اليقين أنها لا تطيقني، وأحتار كثيراً لذلك، ولا أظن أن مشاعرها تجاهي وصلت لدرجة الكره، ربما تجاوزتها لاحقاً، ولكن بالرغم من كل ذلك، فقد انخرطنا معاً في مغامراتٍ عديدة خلال فترة تجاوزت الخمس سنين من عمر صداقتنا الكاذبة. يكفينا تحليلاً لخوارزميات شخصيات النساء الغامضة في مجتمعاتنا المعقدة والسطحية معاً، ولنركز على دور الموسيقى البارز في حياتي، والتي كنت أستعين بها لنسيان وتناسي الأزمات التي كانت تؤرقني ليلاً.
بالرغم من السلبيات العديدة لصديقتي اللدودة، فإنها كانت تشاركني حبي للموسيقى والسفر والرحلات، وتتميز عن بقية صديقاتي وأصدقائي بأنها قارئة جيدة، ولكن تختلف عني كلياً بالمواضيع التي تجذب انتباهها، وكانت تستمع للموسيقى المستقلة وأنا لا أعتبرها فناً، ومع ذلك أرغمتني عدة مرات للذهاب معها لحضور حفلات لفرق أردنية تقدم الموسيقى البديلة. الغريب أنها كانت تشاركني في سماع مختلف أنواع الموسيقى الحديثة والقديمة، وخصوصاً عندما نقوم بالطبخ معاً، فقد كانت تلك من المناسبات القليلة التي نتفق فيها معاً ولا نتشاحن.
كانت هي الوحيدة التي استجابت بحماسٍ وتلقائية للذهاب معي إلى جرش لحضور حفلٍ موسيقيّ لمغني الأوبرا الإيطالي العالمي أندريا بوتشيلي (Andrea Bocelli)، وبصراحة تفاجأت من موقفها، ولكني بنفس الوقت سُررت لأني وجدت أخيراً من يرافقني لحضور ذاك الحدث النادر والكبير، فأنا كنت أنتظر هذه الفرصة منذ فترة طويلة. توجهنا مباشرة إلى مدينة جرش بسيارتي بعد الانتهاء من الدوام، وكنا بثياب العمل، لأنه لم تسنح لنا فرصة الذهاب لمنازلنا وتغييرها، فالوقت كان لا يسمح بذلك لطول المسافة إلى جرش، وكان المفروض وجودنا في مدينة جرش الأثرية قبل موعد الحفل بساعة. وصلنا في الوقت المحدد، وتناولنا ساندويشات خفيفة، ثم جلسنا على مقاعد الدرجة الثالثة، والتي كان يزيد أسعار تذاكرها على 100 دينار أردني، وبُهرنا عند مشاهدتنا للمسرح المذهل بديكوره وإضاءاته، والذي تم إعداده في ساحة الأعمدة التي اختارها بوتشيلي بنفسه.
لا أعلم كيف مرت الساعتان، مدة حفل بوتشيلي العظيم، الذي انتهى بسرعة كما الحلم، ولكني أذكر أني كنت أرجع إلى عالمنا الأرضي عند انتهاء كل مقطوعة غنائية، بعد أن يسمو بنا بوتشيلي إلى أبعاد أثيرية نتمنى جميعاً أن لا رجعة منها، لأن صوته يسيطر عليك ويأخذك إلى عوالم الشجن والافتتان، وتعشق هذا الأسر، ولا ترجو مغادرته.
اكتشفت بعد انتهاء الحفل أن الموسيقى الجميلة ليس لها وطن، وباستطاعتها ترويض ليس فقط النفوس الثائرة والحائرة، بل إنها تمكنت وباقتدار من إذابة النظرات الجليدية الغامضة التي عادةً تعكسها عيني مرافقتي الملونتين لتصبح أكثر دفئاً وطيبة ولو لفترةٍ قصيرة.
صدق الفيلسوف الكبير جبران خليل جبران، مع أني قرأت أنه كان يكره هذا اللقب، عندما قال: سافر ولا تُخبر أحداً، عش قصة حب صادقة ولا تُخبر أحداً، عش سعيداً ولا تُخبر أحداً، فالناس يفسدون الأشياء الجميلة.
جنارا مراد – عربي بوست