
غزة – الوعل اليمني – أزهار الكحلوت
خرج الغزيون من الحرب مثقلين بجراح الفقد، لكنهم لم يجدوا الحياة كما كانت. الشوارع ما زالت صامتة، والبيوت تروي حكايات الغياب. في غزة، لا ينتهي الألم بانتهاء القصف، بل يمتد إلى كل يومٍ بلا دواء ولا غذاء ولا أملٍ قريب.
الهدوء لم يجلب الراحة، بل كشف وجوهًا أنهكها الحصار، وصمودًا يبحث عن حياةٍ وسط الركام. هنا، كل وجهٍ يحكي قصة مقاومةٍ صامتة، وحياةٍ تستمر رغم كل ما انتهى.
أوجه عديدة للمأساة
ومن بين تلك الوجوه التي تبحث عن حياةٍ وسط الركام، تبرز قصة سامية عياد (43 عاماً)، التي تعيش في خيامٍ مهترئة في دير البلح، على أطراف الأمل، بعد أن فقدت ابنها البكر أحمد في 24 يناير/كانون الثاني 2025.انتهت الحرب، لكن معاناتها لم تنتهِ، فهواجس النزوح والفقد ما زالت تلاحقها كظلٍ لا يفارقها.
تشكو سامية من المعاناة التي ما زالت تلاحقها، وتقول وهي تنظر إلى الأفق: “لم يتغير شيء؛ الحرب انتهت، لكننا ما زلنا نعيشها كل يوم”.
تسكن سامية في خيمةٍ مرقعةٍ تتسرب منها برودة الليل وحرارة النهار، لا تقيها شيئًا ولا تحفظ شعور الأمان لأطفالها. لكن أكثر ما يؤلمها هو وضع ابنها المصاب بالشلل النصفي، الذي يعاني بصمتٍ من غياب العلاج وندرة الأدوية والمستلزمات الطبية.
تقول سامية بصوتٍ متهدّج: “ابني يحتاج رعاية خاصة وأدوية يومية، لكن لا دواء ولا مستلزمات، حتى الكرسي المتحرك مكسور منذ شهور، ولا أحد يهتم.”
ابنها ذو مناعة ضعيفة جدًا، يحتاج إلى غذاءٍ متوازنٍ ونظامٍ صحيٍّ صارم، غير أن الواقع مختلف. فالمواد الغذائية نادرة، والأسعار باهظة، والتكيات الخيرية هي مصدر طعامهم الوحيد.
وتضيف الأم بمرارة: “نتناول ما يُقدم لنا من التكية، لا خيار آخر.. أحيانًا لا يكفي، وأحيانًا لا يناسب حالته الصحية، لكن ماذا نفعل؟”
الأزمة الغذائية تفرض ضغطًا إضافيًا على العائلة، إذ لم تصل أي مساعدات غذائية منذ فترة طويلة، وتعتمد الأسرة على ما توفره الظروف من الخبز أو المساعدات المحدودة .

وتتدفق شاحنات المساعدات إلى غزة منذ إعلان الهدنة، لكنها لا تكفي لسد الحاجة المتزايدة. كما تفرض إسرائيل قيوداً على دخول المواد الغذائية والوقود، مما يُبقي آلاف العائلات في طوابير طويلة للحصول عليها .
وفقاً للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، بلغ المتوسط اليومي لدخول الشاحنات التجارية والمساعدات منذ بدء تنفيذ وقف إطلاق النار (171) شاحنة فقط، من أصل (600) شاحنة يُفترض دخولها يومياً وفق البروتوكول الإنساني.
حتى بعد انتهاء القصف، تظل سامية مشدودة بالحنين إلى منطقة الشجاعية، حيث كان بيتها وأهلها وأطفالها يعيشون حياتهم قبل النزوح. تقول بصوتٍ خافت: “أحلم بالعودة إلى الشجاعية، إلى زقاقنا وبيتنا، حتى لو لم يكن كما تركناه. هناك شعور بالأمان والطمأنينة لا أجده هنا.”
أمل وحنين العودة
ومثل سامية، يواجه أكرم أبو جراد تحدياته اليومية في مخيم النزوح، حيث يظل الحنين إلى البيت والأمل بالعودة راسخاً رغم كل شيء.
في المخيم ذاته، يجلس أكرم أبو جراد (52 عاماً) أمام خيمته المهترئة التي نصبها قبل أشهر فوق أرضٍ كانت مكباً للنفايات. يحدق بعينيه المتعبتين على شاشة هاتفه المحمول، حيث تظهر صورة منزله في مدينة بيت حانون شمال قطاع غزة ، الذي دمره الاحتلال الإسرائيلي .
يقول أكرم للوعل اليمني: “قلبي يحن إلى بيتي في بيت حانون، وأتمنى العودة مهما كانت الظروف. حتى لو بقي فقط ركام بيتي، سأعيش هناك في خيمة لأكون قريبًا من ذكرياتي ووطني.”
وأبو جراد واحد من آلاف النازحين الذين ما زالوا عالقين في مخيمات النزوح رغم مرور أسابيع على إعلان وقف إطلاق النار، فالمنطقة التي كان يسكنها مدينة بيت حانون ما زالت خاضعةً لسيطرةٍ عسكريةٍ إسرائيليةٍ مباشرة، وتُصنَّف ضمن “المناطق الصفراء”، أي المحظور دخول المدنيين إليها بذريعة “الاعتبارات الأمنية”.
ووفق الخطة الأميركية لوقف إطلاق النار، تقتصر المرحلة الأولى من الاتفاق على انسحاب الاحتلال إلى “خطٍّ عازل” (الخط الأصفر) يتراوح بين 2.1 و4 أميال داخل غزة، مع الاحتفاظ بـ 55% من مساحة القطاع تحت سيطرته العسكرية المؤقتة، مما يجعل عودة المدنيين أمراً معقداً وغامضاً بالنسبة لأكرم وعائلته.

التحديات اليومية
يواجه أكرم تحديات يومية صعبة ويصف معاناته قائلاً: “الحياة هنا صعبة جدًا، المياه قليلة والطعام غير كافٍ، ونضطر أحيانًا أن نعتمد على ما يُقدّم لنا من مساعدات. أنا بعيد عن المخيمات والمياه ما بتيجي عندنا، أرسل جالونات المياه لصديق في مخيم قريب ليملأها لنا”.
إضافة إلى كل هذه الأزمات، يعاني أكرم من مرض تضخم في البروستاتا ويضيف عن وضعه الصحي: “قبل الحرب كنت أتلقى العلاج بانتظام، لكن خلال الحرب توقف كل شيء، وحتى الآن لا أجد دواءً مناسبًا. ظروف الخيمة قاسية، لا نظافة، لا حمام صحي، وقلة المياه والطعام تزيد من معاناتي اليومية”.

كما يواجه أبناؤه صعوبات في الدراسة بسبب النزوح المستمر، مما يزيد من الضغوط على العائلة ويجعل الحياة اليومية أكثر تعقيدًا.
على أطلال الحرب، تستمر الحياة في غزة، حيث يصنع الناس من الألم حياة ومن الرماد أملًا. بين دواء مفقود ومدرسة مهدمة ومائدة خالية، تبقى الوجوه الغزية شاهدة على صمودٍ لا ينكسر. ومهما طال الحصار، تقول هذه الوجوه للعالم بصمتها: نحن هنا.. نحيا رغم كل شيء.






