في تمام الساعة الثالثة والنصف عصرا من نهار الثلاثاء، 17 سبتمبر/ أيلول، شهد لبنان أقوى ضربة استخباراتية وجهتها له إسرائيل، زلزالاً أمنياً كبيراً، لم تطلق فيه دولة الاحتلال رصاصة واحدة أو صاروخا، بل كان سلسلة انفجارات، استهدفت الآلاف من عناصر المقاومة في “حزب الله”، لو واجههم الجيش الإسرائيلي في حرب برية، لما استطاع أن يصل إليهم بتلك الدقة، ويسقط منهم هذا العدد، وفي التوقيت ذاته.
لكنه تمكن من تحقيق ذلك باختراق جهاز الاستدعاء الآلي “البيجر”، وهو جهاز صغير، يُستخدم في الاتصالات اللاسلكية لتفادي عمليات التجسس عبر الهواتف النقالة، حيث قاموا بـ تلغيمه وتحويله إلى قنبلة متفجرة، تقتل صاحبها أو تصيبه بجروح، وذلك عن طريق إرسال رسالة محددة، بُعثت إلى كافة الأجهزة، في وقت واحد!. وفي غضون ثوان قليلة، انفجرت تلك الأجهزة عقب تلقي صوت الاتصال، فأصيب مسؤولون وكوادر من المقاومة، من بينهم مسؤول سلاح الإشارة، كما تم الكشف عن إصابة “محمد مجتبى”، السفير الإيراني في لبنان، بالإضافة إلى عناصر من حزب الله داخل سوريا، وأعلنت وزارة الصحة اللبنانية عن سقوط 12 قتيلا بينهم طفلان، ونحو 2800 مصاب.
وقبل أن تستوعب العقول صدمة ما حدث في هذا النهار، شهد اليوم الذي يليه، الأربعاء 18 سبتمبر/ أيلول، موجة جديدة من التفجيرات، شملت عددا من المناطق اللبنانية، لكنها هذه المرة طالت أجهزة الاتصال اللاسلكي (أيكوم في 82) والتي يطلق عليها اسم “توكي ووكي”، مخلفة 20 قتيلا بالإضافة إلى مئات الإصابات، كانت أغلبها من بين المسعفين ورجال الأمن والدفاع المدني، الذين يحتاجون تلك الأجهزة، في ما يمارسونه من أعمال.
ويعتقد الخبراء أن تفجير تلك الأجهزة، تم من خلال تشغيل تردد راديو معين، لكنهم لم ينفوا كذلك فرضية وجود شحنات صغيرة متفجرة تم زرعها مسبقا داخل الجهاز، ويزيد من قوة تأثيرها المدمر وجود البطاريات، وأن هذه المواد المفخخة والمتفجرة لا تُكتَشف عند أي فحص عبر الأجهزة المتعارف عليها، ويشيرون إلى أن سلسلة التصنيع والتوريد لتلك الأجهزة، هي المسؤول الأول عن ذلك الاختراق.
وقد نقلت وكالة رويترز للأنباء، عن مصادر أمنية لبنانية وإسرائيلية، قولها إن جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) قام بزرع متفجرات داخل 5 آلاف “جهاز مناداة” استوردها حزب الله اللبناني قبل أشهر من التفجيرات، وباختراق ترددات شبكة الاتصالات اللاسلكية، تم ارسال رسالة تُفعل تلك المتفجرات.
جريمة قتل جماعي، استخدمت فيها إسرائيل جهاز اتصالات مدني، واستعانت فيها بشركة عالمية وتقنيات الأمن السيبراني لتنفيذ مذبحة مروعة، تُضيف إلى سجلها المشين في الجرائم غير المسبوقة في قطاع غزة جريمةً وحشية جديدة، تحطم فيها كل القواعد المحرمة في المعارك والحروب.
وقد تنصلت شركة “غولد أبولو” التايوانية المصنعة لأجهزة “البيجر” من المسؤولية عن تلك الانفجارات، مؤكدة أن الأجهزة صُنعت وبيعت من قبل شركة “بي إيه سي”، ومقرها العاصمة المجرية بودابست، وهي تمتلك عقد ترخيص من الشركة التايوانية. وقد دافع وزير الاقتصاد التايواني عن بلاده قائلاً إن الأجهزة قد تم صنعها خارج تايوان، لكن المتحدث باسم الحكومة المجرية، أكد أن الأجهزة لم تُصنع في المجر، وأن دور الشركة المجرية لم يتعدَّ كونها وسيطاً في إتمام الصفقة، بينما هي لا تصنع شيئا على الإطلاق.
وسواء أكانت بداية ما حدث في التصنيع أو في سلسلة التوريد والتخزين، فإنما هو اختراق أمني كبير، نتج بشكل أساسي لاعتمادنا على تكنولوجيا يُصنعها الغير، وهو يشكل جريمة إرهابية متكاملة الأركان، تثبت لنا أكثر فأكثر خسة وغدر المحتل الإسرائيلي، الذي أعلن عن حالة ترقب كبرى في صفوفه تحسبا للرد اللبناني، والذي لم يٌفصَح بعد عن أبعاده من قِبل كتائب حزب الله، فقام جيش الاحتلال بنشر الفرقة 98 قرب الحدود اللبنانية، وهي التي كانت تمارس عمليات قتالية على أرض غزة.
وعلى الرغم من الحزن والإحباط، الذي تسبب فيه ذلك الحادث المؤسف بين صفوف الأمة، خاصة في ظل صمت عالمي على عربدة المحتل، وخرقه لكل الأسقف، وكسره لقواعد الاشتباك، يسانده دعم أمريكي لا محدود، وتواطؤ مشين، حيث اكتفت الإدارة الأمريكية، بالتعليق على تلك الجريمة الغادرة بالقول إنها لم تكن على علم بالتفاصيل، ولم تشترك فيها من الأساس.
لكنه قد تزامن مع ذلك الحادث الأليم ما يمكن أن يعيد الأمل مرة أخرى إلى نفوسنا؛ حيث خرجت الصحف العبرية يوم الثلاثاء، تتحدث بأسى وحزن عما وصفته بأنه حدث أمني صعب جدا في جنوب مدينة رفح، بالقرب من الحدود، موضحة أن هجومًا مميتًا اعترض طريق قوات الاحتلال في محيط محور فيلادلفيا، وقد شوهدت مروحيات إجلاء عسكرية إسرائيلية تهبط أكثر من مرة في منطقة غرب مدينة رفح، وسط تحليق مكثف للمقاتلات.
وفي صباح اليوم التالي، اعترف الجيش الإسرائيلي بمقتل 4 من جنوده في تفخيخ مبنى سكني بمدينة رفح، بينهم أول مجندة تسقط منذ بداية الحرب، إضافة إلى إصابات- بعضها خطير- لعدد آخر من الجنود والضباط.
العجيب أن اعتراف جيش الاحتلال الإسرائيلي بخسائره، في تلك العملية النوعية لكتائب القسام، جاء بعد أسبوع واحد من إعلانه عن تطهير رفح، وتمكُّنه من القضاء على لواء القسام، ما دفع إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي للقول إن ما جرى في رفح يؤكد أنه حتى لو قُضي على كـتائب حـماس، سيبقى المسلحون يستهدفون جنود جيشنا، ولن يشعروا أبدا بالأمان، وأكد خبير عسكري إسرائيلي أن رفح وحدها فيها أكثر من 14 ألف مبنى مفخخ، الغرض منها استهداف الجنود.
وثارت حالة من الجدل الشديد داخل الكيان الصهيوني، وتردد صداه على وسائل الإعلام، ذلك لأن عملية التفجير التي تمت، جاءت بعد أن جرى تفعيل الإجراءات المخصصة من قِبل جيش الاحتلال لرصد المتفجرات، لكنها فشلت- كالعادة- في اكتشاف أن المبنى مفخخ، ما دفع بالقوة العسكرية للدخول إلى المكان.
هذا يؤكد لنا أن العدو مهما بلغت قوته العسكرية، ومهما علت قدراته التكنولوجية، سيقف عاجزا أمام مجموعات صغيرة من المجاهدين، بإمكانيات ضعيفة، وتسليح خفيف، لكنهم وهبوا أنفسهم لله، ولنصرة قضيتهم العادلة، فوقفوا وحدهم يقاتلون كل قوى الاستعمار الغربي الصليبي، تحت حصار خانق وحرمان لمدة تجاوزت 340 يوما، وتقترب من تمام العام، وما زال المجاهدون حتى الآن يثخنون في صفوف عدوهم، ويسقطون منه القتلى والجرحى، ويرغمون أنفه في التراب.
{ألا إنَّ نصر الله قريب}..