ثقافة وفكر
أخر الأخبار

أشهر لص لوحات في العالم الملقب بـ”الرجل العنكبوت” يحكي قصته في فيلم وثائقي

“المكان: متحف الفن المعاصر في باريس، الزمان: 20 مايو/ أيار، الساعة الثالثة والنصف فجرا، الحدث: سرقة خمس لوحات لأشهر فناني القرن العشرين من المتحف الواقع على ضفاف نهر السين، في مقابل برج إيفل المتلألئ وسط عاصمة النور.

هذا ليس ملخص فيلم روائي، بل واقعة حقيقية شهدتها باريس في العام 2010 كان بطلها الفرنسي، من أصول كرواتية/ بوسنية، فيران توميش، الذي نجح في التسلل، بمهارة لص محترف، إلى داخل المتحف وتمكن من سرقة اللوحات الخمس وهي : لوحة بيكاسو “حمامة البازلاء” التي رسمها عام 1911 ، ولوحة “مشهد رعوي” لهنري ماتيس التي ترجع الى العام 1906، ولوحة الفرنسي جورج براك “شجرة زيتون قرب إيستاك” التي تعود الى العام 1906، ولوحة الرسام الإيطالي موديلياني “امرأة تحمل مروحة” عام 1919، ولوحة الفرنسي فرنان ليجيه “طبيعة صامتة وشمعدانات” وتعود الى العام 1922.

تراوحت قيمة هذه اللوحات الخمس، بين 100 و200 مليون دولار، غير أن قيمتها الحقيقية تكمن في كونها تمثل أبرز التجارب التشكيلية في القرن العشرين، وتعكس تطور الفن في أوروبا، ومن هنا فإن السطو على هذه اللوحات يعتبر إحدى أشهر السرقات التي طاولت الأعمال الفنية على مر التاريخ، وفق ما جاء في الفيلم الوثائقي “فيران توميش: الرجل العنكبوت في باريس” Vjeran Tomic: The Spider-Man of Paris” الذي يعرض على منصة “نتفليكس”.

اللص يروي

وعلى الرغم من أن الكثير من تفاصيل هذه الحادثة أصبح معروفا، إذ تناولته الصحافة باهتمام بالغ، وتابعت مستجداته التي انتهت بالقبض على اللص في 2011 والحكم عليه بالسجن لثماني سنوات، غير أن اللافت في هذا الفيلم الوثائقي، للمخرج جيمي روبرتس، هو أن بطل حادثة السرقة، هو نفسه الضيف الرئيس في الفيلم الذي يمتد لـنحو ساعة و26 دقيقة، لا تخلو من التشويق، ومن اللحظات الدرامية التي ظهرت عبر مشاهد تمثيلية تستعيد الواقعة وتدعم المادة الأرشيفية الوثائقية التي يستعين بها المخرج من صور فوتوغرفية ومقاطع فيديو تستجلي وقائع هذا الحدث الذي لم تتضح ألغازه كاملة، إلى الآن، ذلك أن اللوحات المسروقة لا تزال مفقودة.

 في حادثة من هذا النوع النادر، فإن ما يثير الفضول هو أن نسمع اللص نفسه، يروي الحكاية من وجهة نظره  بكل تفاصيلها وملابساتها، ومن هنا تأتي أهمية هذا الفيلم، خصوصا أن اللص توميش قد أنهى محكوميته وهو الآن يتحدث بمنتهى الهدوء والوضوح والثقة، من دون أي خشية من أن تسجل شهادته كدليل ضده، ولذلك نسمعه يكاد يتفاخر بقدرته على سرقة اللوحات من مكان يفترض أن يكون الأكثر حماية وأمنا، خصوصا أننا نتحدث عن باريس المستقرة، ويروي اللص كذلك جانبا من ماضيه البعيد، وحرمانه من حنان الأب والأم، مذ كان طفلا، وهو ما خلق لديه، لاحقا، نوعا من “الخواء الروحي”، فهو يقول: “لم أحظ بتربية ورعاية الأبوين، بل ربيت نفسي بنفسي”.

من هو توميش؟

ولد توميش العام 1968 في باريس، وعندما كان في السنة الأولى من عمره تعرضت والدته لحادث سير، فلم تعد قادرة على رعاية الطفل الذي أُرسل إلى البوسنة ليرعاه عمه وعمته هناك، وعندما بلغ العاشرة عاد إلى باريس محاولا الاندماج والتأقلم، دون جدوى، فعاش طفولة معذبة، وهو ما يحيلنا على رواية “أوليفر تويست”، لتشارلز ديكنز، وما عاناه بطلها من الحرمان والتهميش.

يكشف توميش في هذا الوثائقي أن والده كان يعنفه، ويعاقبه، ولم يجد حنانا أو اهتماما من أحد، وسرعان ما تورّط في سرقات بسيطة من المتاجر، كما يعترف هو، موضحا أنه كان مولعا بالكسب السريع من دون جهد. انتسب إلى الجيش، وشعر بقيمته وبأنه قد يكون مفيدا حين تتاح له الظروف، لكن بعد التسريح من الجيش شعر مجددا بالوحدة والضياع، فعاد إلى ممارسة السرقة، بعدما طوّر أدواته ومهاراته، حتى حاز لقب “الرجل العنكبوت”، إعلاميا، لقدرته المدهشة على تسلّق المباني حتى الطبقات العليا، وكان حريصا على السرقة من الأحياء الراقية والغنية في باريس مثل “حي فاش”، وفي إحدى المرات سرق لوحات لأوغست رينوار (1841 – 1919) لكن ألقي القبض عليه وسجن، ويعلق ساخرا: “أحب رينوار، لكنه تسبب في سجني”، غير أن حادثة السرقة هذه وغيرها من الحوادث تمر بشكل عابر في الفيلم، ليتم التركيز على سرقة المتحف.

وحين نصغي إلى توميش لا نرى في وجهه أي ملمح للشر، فهو يطل عبر الشاشة كرجل مسالم ودود، تورط في السرقات نتيجة الظروف والأجواء التي عاش فيها، كما أنه لم يؤذ أحدا خلال عملياته، وهو كان يتعمد السرقة من الاثرياء دون غيرهم، وأظهر، للمفارقة، عطفا واهتماما حيال مشرّدي باريس، في لفتة تذكّرنا  بشخصية روبن هود، فكان يصطحب بعضهم الى المطاعم والحانات، مثل المشرّد غيوم الذي يظهر في هذا الوثائقي ويقر بالاهتمام الذي حظي به من جانب توميش، كما أن إحدى صديقات توميش تقدم في هذا الوثائقي شهادة عن توميش وتصفه بالصديق الوفي والمخلص.

الضربة الكبرى… والتوبة

تماما كما يحدث في الأفلام حين يقرر البطل الإقدام على عملية أخيرة والتوبة بعدها، لكن يتم القبض عليه، يوضح توميش أنه ملّ السرقات الصغيرة ومن إنفاق ما يحصل عليه في الملاهي والحانات، والعودة مجددا إلى السرقة، فقرر القيام بعملية سرقة معتبرة أخيرة، ويترك هذه “المهنة السيئة” الى الأبد ، بعد أن يحصل على مبلغ مُجزٍ يعينه على بدء حياة جديدة، قائلا إنه كان قد قرر شراء قارب والسفر في البحر بعيدا من دون أن يوضح وجهته أو هدفه، وكأن في داخله أمنية غامضة وهو أن يهجر الأرض ومن عليها ويتوه في زرقة البحر للانهائية، منتقما من ماضيه القاتم.

كان توميش يتخلص من مسروقاته من خلال تاجر التحف واللوحات الفرنسي كورفيز الذي شجعه على سرقة لوحات قيّمة من المتحف الباريسي، ليحصل في المقابل على مبلغ مجز. يروي توميش كيفية استعداده لهذه العملية الدقيقة والمحفوفة بالأخطار والتي تتطلب الكثير من المهارة والحرفية، فراقب المتحف لأيام، وتعرف إلى مخارجه ومداخله، ونوبات حراس الأمن الليلية، وشاهد الكنوز الثمينة المعلقة على جدران المتحف، واكتشف أن أجهزة الإنذار معطلة، وهو ما أقرّ به مسؤولو أمن المتحف في التحقيقات، وحين عرف كل هذه التفاصل، اشترى العدّة المطلوبة، وتردّد على المتحف لخمس ليال كي يفك براغي إطار النافذة التي تسلل منها في الليلة المشهودة، ونجح في سرقة اللوحات الخمس. حمل هذه الكنوز في صندوق سيارته ومضى بها إلى تاجر التحف كورفيز الذي تسلمها منه في مرأب سيارات في مقابل 50 ألف دولار لكل لوحة، وعاد إلى منزله، بعد ليلة طويلة، مطمئنا، ليفتح التلفزيون ويجد أن خبر السرقة يتصدّر نشرات الصباح.

شرعت السلطات الفرنسية في تحقيقات موسعة دون أن تعثر على أي دليل يقودها إلى اللص الجريء، لكن من بين من حامت حولهم الشكوك هو توميش، صاحب السوابق، فوضع تحت المراقبة. في غضون ذلك، كان كورفيز قد أخلّ بالاتفاق مع توميش الذي حصل منه على 40 ألف دولار فقط، في ما ماطل في دفع المبلغ المتبقي لأشهر، فاضطر توميش إلى السرقة مجددا، وهنا ضبطته الشرطة متلبسا بسرقة جديدة ليقتاد إلى الحجز، وهناك اعترف دون ضغوط بأنه هو من سرق اللوحات لخمس، فاستدعي كورفيز كذلك إلى التحقيقات بعدما روى توميش علاقته به، وحكم عليه بالسجن سبع سنوات، واستدعي كذلك متهم ثالث هو يوناثان بيرن، وحكم بالسجن لست سنوات، ولم تستطع السلطات الفرنسية انتزاع اعتراف من المتهمين في شأن مكان اللوحات الخمس، وهذه كانت غايتهم الرئيسة، فكل ما سمعوه منهم هو أن بيرن وفي لحظة غضب لا نعرف سببها، مزق اللوحات ورماها في حاوية القمامة، غير أن المحققين لم يقتنعوا بهذه الرواية، وظلّ يحدوهم الأمل، كما يقول بعضهم في هذا الفيلم الوثائقي بأن اللوحات ستظهر يوما ما.

اللافت أن المحققين حين يتحدثون عن المتهمين فإنهم يمدحون سلوك توميش المرن والمتجاوب، فيما بدا أن كورفيز وبيرن المنتميين إلى شبكة متخصصة في بيع الأعمال الفنية المسروقة في السوق السوداء، كانا غير متعاونين، وأظهرا تعنتا، وحاولا تضليل التحقيق.

تاريخ من السرقات

جذبت اللوحات الفنية عبر التاريخ، اللصوص وتجار اللوحات في السوق السوداء، فهي وسيلة للإثراء السريع، وثمة الكثير من الحوادث التي وقعت في فترات مختلفة، وإذ نجحت السلطات في استعادة بعض اللوحات المسروقة، فإن لوحات أخرى اختفت إلى الأبد، ومن بين أشهر السرقات سرقة لوحة رامبرانت “جاك دي غين الثالث” التي لم تسرق مرة واحدة فقط، بل أربع مرات في أعوام 1966 و1973 و1981 و1986، لذلك لقبت بـ”اللوحة المسروقة”، واستعيدت بعد كل سرقة.

لوحة الموناليزا الشهيرة لدافنشي سرقت عام 1911 من متحف اللوفر في باريس، حين تمكن الإيطالي فينشينزو بيروجي من إخفائها تحت ملابسه مرتديا زي طاقم العمل في المتحف، غير أن اللوحة ظهرت من جديد عام 1913 حين أبلغ تاجر إيطالي الشرطة مباشرة عقب التعرف الى اللوحة عندما عرضها اللص للبيع.

من أشهر السرقات الفنية كذلك، تلك التي حصلت في مارس/آذار 1990، في متحفبمدينة بوسطن الأميركية، حين توجّه لصان يرتديان ملابس ضباط شرطة إلى حراس الأمن مدعيين تلقيهما بلاغا عن اضطرابات ستحدث داخل المتحف. انتهك رجال الأمن، آنذاك، بروتوكول الحراسة، وسمحوا لهما بالدخول، فقام اللصان بتقييدهم وسرقا لوحات قيمة من بينها لوحة “عاصفة على بحيرة طبريا”، لرامبرانت ولوحة “الحفلة” للرسام الهولندي يوهانس فيرمير، ولوحة  لإدوار مانيه، وبعض أعمال التشكيلي والنحات الفرنسي إدغار ديغا، ولا تزال القضية عالقة حتى الآن، والإطارات الفارغة لا تزال معلقة على جدران المتحف، على أمل أن تظهر اللوحات يوما ما.

لوحة “الصرخة” للفنان النروجي إدوارد مونخ سرقت كذلك في عام 1994 من أحد متاحف النروج  بالتزامن مع انطلاق الألعاب الأولمبية الشتوية هناك، ونظرا الى أنها كانت واحدة من أشهر اللوحات في العالم، لم يتمكن اللصوص من إعادة بيعها، وبعد شهر واحد، تلقت السلطات رسالة تطالب بفدية قدرها مليون دولار لإعادة اللوحة، وبعد ذلك تمكنت الشرطة من التوصل إلى اللصوص، واعتقال أربعة منهم، بينهم النروجي الشهير بال إنغر لاعب كرة القدم الذي تورط في السرقات، وخسر سمعته الكروية، وأنتج فيلم وثائقي حمل عنوان “الرجل الذي سرق الصرخة” تناول سيرة هذا اللاعب اللص، التي تتقاطع في الكثير من محطاتها مع سيرة حياة توميش، بطل الوثائقي الذي نحن في صدده.

وإذا ما انتقلنا من الواقع إلى السينما، فسنعثر على قائمة طويلة من الأفلام التي طرحت موضوعة سرقة اللوحات الفنية، بعضها متخيل، وبعضها الآخر مستوحى من أحداث حقيقية، فاللوحات الفنية كانت دائما موضع اهتمام اللصوص، ذلك أن قطعة قماش ملونة لا يتجاوز حجمها المتر المربع الواحد، تقدر بملايين الدولارات، ووفقا لتقرير أممي فإن تجارة اللوحات في السوق السوداء تحتل المركز الرابع في قائمة الجرائم الأكثر ربحا بعد المخدرات وغسل الأموال وتجارة الأسلحة، ومثلما أن المتاحف والغاليريهات تشدد المراقبة، وتطور وسائل الحماية، فإن “لصوص الجمال”، بدورهم، يطورون أساليبهم وأدواتهم، وهذا ما يعني صعوبة إغلاق ملف “السرقات الفنية” الغامضة والمعقدة.

إبراهيم حاج عبدي – المجلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى