الأدبُ المقارن: هو دراسةُ العلاقات التاريخية بين الآداب المختلفة في ثقافاتها، ومواطن التلاقي بينها، وما لهذا التلاقي من تأثير وتأثر، ويرنو درس الأدب المقارن إلى إثراء الأدب القومي بكسر الغزلة القومية في سبيل استفادة الآداب من بعضها. ويُشترط لدراسة النصوص الأدبية دراسة مقارنة: ثبوت اللقاء التاريخي بينها، بمعنى اطلاع مؤلف النص الثاني على النص الأول. بعبارة أُخرى، الوقوف قصديًا على النص الأول. كما أنه يشترط اختلاف القوميات، بمعنى يكون كل نص من ثقافة مختلفة، وقد اشترطت المدرسة الفرنسية اختلاف اللغات، ولكن الأمريكيين أَبوا ذلك.
وعليه فإن مما يدخل درس الأدب المقارن: دراسة تأثر السيرة الهلالية، كملحة عربية. إن صح التعبير.
بالإلياذة والأوديسة ، أما دراسة العلاقات بين نصوص من ثقافة قومية واحدة لا تدخل درس الأدبِ المقارن مثل: “الموازنة بين أبي تمام والبحتري”، أو دراسة تأثير مقامات الهمذاني في مقامات الحريري.
وقد نشأ الأدب المقارن، في البداية تحت مسمى الأدب العالمي، بدعوة من الشاعر الألماني غوته ويعني أن الآداب عامل وحدة بين القوميات، ثم أخذ الفرنسيون هذه الدعوة بهدف دراسة النصوص المتعالية في جمالها وتأثيرها على غيرها من ثقافات أخرى، وهنا ظهر مصطلح تاريخ الأدب المقارن، الذي شاع باسم “الأدب المقارن”. ولو تأملنا قليلًا نجد أن هذا الدرس يحملُ في بنيته الثقافية مفهوم هيمنة، فالقوي هو من يحدد الجميل، والمهزوم ثقافيًا يقبل ويصدق وإن كان هذا الجميل منافيًا لثقافته ومبادئه ودينه.
ولعل أهم وأقدم ما يرصده التاريخ من تأثير وتأثر بين الثقافات، هو تأثر ثقافة الرومان بالثقافة اليونانية العظيمة، هذا التأثر الذي وصل حد التماهي، فحين نقرأ ملحمة “الإنياذة” للشاعر الروماني الأول فرجيل تذكرنا مباشرة بالملحمة الأهم في التاريخ “الإلياذة” للشاعر اليوناني الضرير هوميروس، فثمة أوجه تأثر كثيرة، لا تسعفنا طبيعة المقال لذكرها. مثلًا: نلاحظ التشابه في عناوين الملحمتين، كما أن الهيكلية العامة فيها تشابه واضح من حيثُ ترابط الموضوعات، وصراع البشر مع الآلهة، وغيرها. ولو نظرنا في دلالات الآلهة عند الرومان، نجدها هي نفسها التي عند اليونان مع تغير الأسماء فقط. مثلًا: أفروديت إلهة الجمال عند اليونان تقابلها فينوس عند الرومان.
الأدب المقارن علم بحثي تاريخي؛ فهو يبحثُ في إثبات اللقاء التاريخي بين النصوص الأدبية، ويبرهن لهذا، ويبحث في أيهما الأسبق تاريخيًا؛ لمعرفة المؤثر والمتأثر، ولا بد من الإشارة إلى أنه لا يهتم بمصداقية النص، لأن غايته الوحيدة دراسة تلاقي الآداب وليس التأريخ بالمطلق، أي يهمه النص نفسه لا من قاله. مثلًا: الأدب المقارن درس نقاط تأثر ملحمة “الكوميديا الإلهية” بالنسخة المكذوبة من الحديث النبوي المعروف بمسمى “حديث المعراج”.
ولهذا العلم جانب نقدي أيضًا؛ لأنه يترصد نقاط تلاقي النصوص، وأوجه التأثير والتأثر بينها، وكيفية التأثر: فهل كان من حيثُ الموضوع أم الصورة أم الأسلوب( فخم ــــ بسيط). وقد يقيم دراسة حول جنس أدبي بعينه، مثلًا: تأثر “قصيدة النثر” عند العرب بهذا الجنس عند الغرب، وقد تكون دراسته حول مذهب أدبي. مثلًا: تأثر المذهب الرومانسي العربي بالرومانسية الغربية، وقد يدرس تأثر أديب بآخر من قومية مختلفة، كأن يدرس تأثر الشاعر الفلسطيني محمود درويش بالشاعر الأسباني لوركا، بلا شك هذه الممارسات ميدانها علم النقد الأدبي.
ولعله لابد من الإشارة إلى الفروق بين التناص والأدب المقارن، باعتبار أن ميدانهما التأثير والتأثر.
بينهما علاقة عموم وخصوص، فكل درس أدب مقارن هو تناص بالضرورة، وليس العكس، التناص علاقة بين نصين أدبين، تنشأ في تصور القارئ، غالبًا، وقد لا يدرك الكاتب هذه العلاقة، وقد تختلف وجهات نظر القراء حول وجود تناص أم لا. إذن التناص يكتفي فقط برصد علاقة تأثير وتأثر بين نصين، سواء قصدها الكاتب أو افترضها القارئ.
أما درس المقارن لا يقنع بهذا، وإنما يضيق دائرة التناص واضعًا شرطين أساسين للنصين محل الدراسة وهما: ثبوت اللقاء التاريخي بينهما، بمعنى إثبات قراءة مؤلف النص الثاني للنص الأول، واختلاف قومية كل من النصين. وتشترط المدرسة الفرنسية اختلاف لغة النصين.
التوافق : كل منهما يدرس التأثير والتأثر بين النصين.
الاختلاف: يشترط المقارن الاثبات التاريخي، واختلاف القومية، أما التناص فلا.
أمثلة توضح الفروق بين التناص والأدب المقارن:
أولًا. في التناص:
يقول الشاعر الفلسطيني الراحل أحمد دحبور في قصيدته الشهيرة ” حكاية الولد الفلسطيني”:
أنا العربي الفلسطيني
أقول، وقد بدلت لساني العاري بلحم الرعد
ألا لا يجهلن أحد علينا بعد..
حين نقرأ هذا المقطع نتذكر مباشرة قول الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا
لم يثبت لدينا قطعًا أن الشاعر قرأ قصيدة ابن كلثوم. والشاعران من قومية واحدة، فهذا تناص. ٍوإن ثبت اللقاء التاريخي يكون هذا التناص موازنة؛ لأنه على كل حال الشرط الأخر ثابت. فلا يمكن اجراء دراسة مقارنة.
مثال آخر في التناص:
يقول الشاعر نزار قباني في قصيدته” هوامش على دفاتر النكسة”:
لا تلعنوا السماءْ
إذا تخلّت عنكمُ
لا تلعنوا الظروفْ
فالله يؤتي النصرَ من يشاء.
وليس حدّاداً لديكم.. يصنعُ السيوفْ.
قول الشاعر “فالله يؤتي النصرَ من يشاء” يستحضر الآية الكرية (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ )(آل عمران:13 )
نحن لا نعرف يقينًا هل قباني قرا هذه الآية، ولكننا نفترض ذلك. كما أن النصين من ثقافة ولغة واحدة. وهي العربية. فليس ثمة مجال لأن يخضع النص لدرس الأدب المقارن.
ثانيًا. مثال في درس الأدب المقارن:
تأثر توفيق الحكيم في روايته “الرباط المقدس” برواية “تاييس” للكاتب الفرنسي أناتول فرانس.
إن شروط الأدب المقارن متوفرة في العلاقة بين النصين، فهما من قوميتين مختلفتين، الفرنسية والعربية.
كما أنه ثبت قراءة الحكيم للرواية الفرنسية بنص روايته؛ فهو يذكر اسم “تاييس” في عدة مواضع.
مثال آخر:
تأثر محمود درويش في قصيدته الرائعة ” خطبة الهندي الأحمر” بالنصوص الهندية المترجمة.
شرطان الدراسة المقارنة ثابتان: اللقاء التاريخي. ويكفي أن نعرف أن درويش صدر قصيدته ببعض كلام الزعيم الهندي سياتل: هل قلت موتى؟ لا موت هناك فقط تبديل عوالم” . واختلاف القوميات. النص المؤثر هندي والمتأثر عربي.
جواد العقاد – اليمامة