
تقرير خاص
في أحد أزقة مدينة إب القديمة، جلست أمّ أحمد تطرق باب أحد المشرفين الحوثيين كل صباح، تسأله عن ابنها الطبيب الذي اقتيد فجرًا قبل أشهر. لا ردّ، ولا خبر. فقط نظرات باردة وعبارة متكررة: “التحقيق لم يكتمل بعد.”
مشهدها الحزين يتكرر في ذمار، وصاب، ويريم، وغيرها من المدن التي تحوّلت إلى مسرح لحملات اختطاف واسعة تشنها جماعة الحوثي ضد المدنيين منذ أسابيع، في استعراض قاسٍ للقوة، يعكس عمق أزمتها وفشلها الداخلي.
ذمار.. مدينة تخنقها المداهمات
في يوم واحد، اقتحمت المليشيا منازل نحو ثمانين شخصًا في منطقة وصاب بمحافظة ذمار، بينهم معلمون وشخصيات اجتماعية. المداهمات جرت فجر الثلاثاء 28 أكتوبر، وسط رعب النساء والأطفال الذين وجدوا أنفسهم بين فوهات البنادق.
يقول أحد أقارب المختطفين، مفضلاً عدم ذكر اسمه خوفًا من الانتقام لموقع الوعل اليمني: “دخلوا المنزل قبل الفجر. فتشوا كل شيء، حتى كتب المدرسة التي يعلّم فيها أخي. قالوا إنهم يبحثون عن من يحتفل بـ26 سبتمبر.” الحادثة لم تكن الأولى، لكنها جاءت في سياق تصعيد متواصل منذ أشهر، استهدف المئات من أبناء ذمار وإب، بعضهم اختفى دون أثر، وبعضهم لم يعد إلى بيته حتى اليوم.
إب.. الخوف من الطرقات والعطش من الحنفيات
في إب، تجاوز عدد المعتقلين منذ مايو الماضي المئة شخص، بينهم أطباء ومهندسون ومحامون، وفق تقديرات محلية. لكن الخوف لم يعد وحده سيد الموقف، فحتى المياه باتت تُستخدم كسلاح ضد السكان. ففي مدينة يريم، قطعت المليشيا مشروع المياه لأكثر من شهرين، لتضطر الأسر إلى شراء الماء من السوق السوداء بأسعار تفوق قدرتها.
يقول المواطن (ع.ن) من يريم لموقع الوعل اليمني: “نعيش بلا ماء، بلا أمان، ولا صوت يستطيع أن يشتكي. إذا تحدثت، تُتهم بالخيانة. حتى الصمت صار تهمة.”
الاختطاف تجارة مربحة
مصادر محلية تحدثت عن “صفقات” مالية تجري خلف جدران السجون. فكل معتقل له سعر للإفراج عنه، وكل أسرة تُجبر على دفع مبالغ كبيرة مقابل وعد زائف بالحرية.
الناشط الحقوقي إبراهيم الجحدبي، وهو أحد من عاشوا تجربة الاعتقال سابقًا، يقول:“الاختطاف لم يعد مجرد وسيلة ترهيب، بل أصبح موردًا ماليًا. المليشيا تربط الإفراج بالمبالغ أو بولاءات سياسية. إنها صناعة خوف تدرّ أرباحًا.”
ويضيف أن كثيرًا من الأسر باعت ممتلكاتها لتأمين خروج أبنائها، بينما يُترك آخرون لشهور طويلة دون تهمة أو محاكمة.
صراع داخلي يلتهم المدنيين
في الوقت الذي تبرّر فيه المليشيا اعتقالاتها باتهامات التجسس وإرسال الإحداثيات، يرى مراقبون أن السبب الحقيقي يعود إلى تفاقم الصراع داخل صفوفها.
الكاتب والدبلوماسي محمد جميح علّق على هذه الظاهرة بالقول:
“الاختراق حصل في قياداتهم العليا، لكنهم يعتقلون البسطاء ليغطوا فشلهم. يختلقون الجواسيس في الأفران والمحال والمواصلات، بينما الخلل في قمة الهرم.”هذا التبرير الأمني أصبح، بحسب مراقبين، أداة لإعادة فرض السيطرة الميدانية داخل الجماعة، وإرسال رسائل ولاء متبادلة بين أجنحتها المتصارعة.
صمت دولي يثير الريبة
في ظل هذه الانتهاكات، لا صوت يعلو على الخوف. أسر المعتقلين يطرقون أبواب المنظمات الحقوقية دون جدوى. لا زيارات، لا محاكمات، ولا بيانات إدانة جدّية من الأمم المتحدة أو بعثاتها.
يقول الجحدبي: “الصمت الأممي أخطر من الجريمة نفسها. هذا الصمت يمنح الحوثيين شعورًا بالإفلات الكامل من العقاب. العالم يتحدث عن السلام، لكن لا يسمع أنين الأمهات.”
ذمار تنتفض في بيان
في المقابل، أصدرت الأحزاب والمكونات السياسية في ذمار بيانًا شديد اللهجة أدانت فيه الاعتقالات، معتبرة أنها “انتهاك لكرامة الإنسان وعداء لثوابت الشعب”. وطالبت بالإفراج الفوري عن المعتقلين والمخفيين قسرًا، داعية إلى توحيد الصف الوطني لمواجهة ما وصفته بـ“نهج القمع والتسلط”.
وجاء في البيان أن استمرار هذه الممارسات “لن يزيد اليمنيين إلا تمسكًا بالحرية ورفضًا لمشروع الكهنوت”، في وقت تتنامى فيه موجة السخط الشعبي ضد الجماعة داخل معاقلها.
نهاية مفتوحة على الألم
بين ذمار وإب، تُروى كل يوم حكايات لأبناء فُقدوا في الظلام، وأمهات ينتظرن خلف الأبواب المغلقة. لا محاكم، ولا عدالة، ولا أصوات تجرؤ على السؤال.
في تلك المدن التي كانت يومًا عامرة بالعلم والتجارة والحياة، لم يعد الناس يبحثون عن الرفاه أو الوظيفة، بل عن حق بسيط في الأمان.
هكذا اختُزلت حياة اليمنيين تحت سلطة الحوثي: أن تبقى صامتًا كي تبقى حيًا، وأن تصلي ألا يُطرق بابك فجرًا.






