
هل يمكن أن يكون هذا المطلب الشرعي المشروع ضربا من الرفاه السياسي الطوباوي؟ ونحن نختبره نظريّا لا غير؟ أيمكنُ ونحن نرى القضيّة الفلسطينيّة على عدالتها ـ تتعقّد يوما بعد يوم، في هذه «المعادلات» السياسيّة العالميّة المضطربة؛ ولكنّها تتصدّر الواجهة شرقا وغربا؟
ولكن ليس معنى ذلك أن نلوذ فلسفيّا بالنّظريّات والأطروحات التي ما انفكّت تؤصّل لخطاب في التّشاؤم أو الإحباط تعتبره تمثّلا صائبا لقدر الإنسان المحتوم. ونحن لا نملك في زمننا هذا سوى النوستالجيا، هذا الحنين إلى ماض لم يكن في كلّ حقبه ذهبيّا، كما يقع في وهْم كثير منّا.
والمدوّنة السياسيّة الغربيّة لا تزال تتّسع لهذه الظّاهرة «معاداة السامية» وتجعل منها «تابو». ومن المفيد أن نعرف منبتها الأصليّ في المدوّنة التي تمتُّ إليها بصلة من الصّلات، أو في النّصّ الذي تنتسب إليه؛ فليس تجنّيا أن نصلها وهي المفاهيم القديمة، بظاهرة مستحدثة آن للفلسطينيّين وكلّ أحرار العالم، أن يعملوا من أجل أن تنصّ عليها المواثيق الدوليّة، ونعني «تجريم معاداة الفلسْطنة»؛ ولها مظاهر لا تخفى مثل: نزع الطابع الفلسطيني عن القدس الشرقيّة، وإعلانها عاصمة لدولة الاحتلال «واحدة وغير قابلة للتقسيم»، و«الأسرلة» أو «التهويد»، وطرد الفلسطينيين وتهجيرهم وبناء الجدار، والنقل القسري والاستيطان والسجن والتهميش، وتبرير هذه الهمجيّة في غزّة والضفّة، وما إلى ذلك…بالرغم من أنّ فلسطين يمكن أن تكون أنموذجا ديموغرافيّا فسيفسائيّا يتعايش فيه الفلسطينيون واليهود.
ولا ضير في أن نستدعي إلى مفهوم جديد «معاداة الفلسْطنة» ظاهرة قديمة «معاداة السامية»؛ لنرى إليه (المفهوم) من خلالها. فنحن لا نزال نقرأ بيانات سياسيّة معادية للحق الفلسطيني، بذريعة أنّ مساندة فلسطين من «معاداة السامية». ولا بدّ من الاستدراك على منابت هذه «المعاداة» القديمة المزعومة في الغرب وفي أمريكا، وهي سابقة على الهولوكست، وكشف زيفها. وهل مناهج التّفكير السياسي المعاصر ومقارباته، إلاّ رحلة إلى المنابت الأولى التي درجت بها المفاهيم ونشأت؟
قد يرى البعض في هذا الطرح نوعا من النوستالجيا وهي ضمادٌ لجروح الروح وندوبها نتيجة ما ابتلي به عرب الرّاهن التّاريخيّ، وما ساموا به أنفسهم بأنفسهم، قبل أعدائهم. وقد ينطوي هذا على مقدار من الصحّة أو الحقيقة، غير أنّه لا يمكن أن يصرفنا عن هذا المطلب العادل أو توجيه أقلامنا ناحيته.
وهو مطلب له مسوّغاته ووجاهته، لعلّ أظهرها ضمان السّلم والأمن، وتدبّر شؤون الشعوب بقدر معقول من الدّيمقراطيّة، وإن لم نوفّر بعدُ الحدّ الأدنى من هذا الضّمان، على اختلاف مجتمعاتنا. فهل «الحقّ» السياسي بل الإنساني مطلب مشروع لبعض البشر دون الآخرين؟
هذا المطلب متعيّن اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، وقد استفحلت همجيّة الاحتلال ووحشيّته، في ظلّ تنامي التّدبير الغربي الظالم، وهو يُرى ويُلمس سواء في معيشنا أو ما يحفّنا من وسائل الاتّصال المسموعة والمرئيّة. وهذا لا يعني الانتقال من سجّل مثاليّ إلى سجلّ مادّيّ؛ على نحو ما قد يتوهّم بعضنا من ذوي الإدراك السياسي السّاذج، وهم يعيشون التحوّلات التّاريخيّة «العجيبة»، وإنّما نعني بالأساس التّحوّل من مستوى تنتسب إليه قيم هي ضروب وجود؛ وقد تكون «الحقيقة» المنسية من بينها، إلى مستوى تستحيل فيه هذه القيم أشياء عينيّة قابلة للتّعميم؛ ولا بدّ أن يكون «تجريم معاداة الفلسْطنة» من بينها؛ وقد ولّى زمن «معاداة السامية»؛ بل إنّ هذا اليمين الصهيوني الحاكم هو خير من يجسّد معادة الفلسْطنة والسامية معا. ومع ذلك نسأل ونتساءل ما إذا كان يجوز لنا ـ حتى لا نصادر حقّ هؤلاء من مثاليّين أو غربيّين متعصّبين ـ أن نحصر مقاربة هذا «الحق»؛ في الانتقال من سجلّ التّعالي؛ حيث «القيم» حبيسة ما يسمّيه زملاؤنا من أهل الفلسفة «الإرجاء الميتافيزيقيّ» أو اللاهوتيّ، إلى سجلّ المحايثة؛ حيث «القيم» حبيسة أنماط سلوك وضروب عيش يجري تسويقها بتسخير آليّات كثيرة من الدّعاية والإشهار في حضارة اليوم.
لعلّ المطلوب دائما هو أن نفحص بنية ذواتنا؛ عسى أن نتبيّن ما إذا كان الأمر معقودا على ذاتيّة فرديّة أم على ذاتيّة جمعيّة. وهذا يعني أن نفتح الخطاب الفكري/ السياسي على مجالات علوم النّفس وعلوم الاجتماع والسياسة، أو حتّى على الفضاء الأنثروبولوجيّ. وهذه ليست مهمّة منهجيّة فحسب، بل هي مهمّة قِيميّة كذلك. فهذه العلوم تدفعنا إلى أن نقايس أنفسنا، نحن العرب، بغيرنا من الأمم التي تستأنف اليوم التّأسيس المعرفيّ لـ«الحقّ» و«القيم» أو تتولّى التّرويج لها عالميّا. لِمَ نقصّر في حقّ أنفسنا؟ لِمَ لا نشرع هذا الخطاب دون وجل أو خوف، ونفتحه على مصراعيه؟
وهل يمكن أن يكون «الحقّ» مطلبا ملحّا لبعضنا ومطلبا مرجأ لبعضنا الآخر؟ وبالرغم من الجريمة المروّعة في فلسطين وفي غزة والضفّة تحديدا، فإنّنا ملزمون شعوبا وحكومات وأفرادا بأن نتوافق ونتّفق على منظومة من القيم مثل العدالة والحريّة وحقّ الاختلاف، بصرف النظر عن العِرق والدين والطائفة؛ والقيم التي تجمعنا نحن البشر كلّ متجانس، فيما نحن دول وهويّات وذوات تُحدّ من منظور تاريخي، أو جغرافي أو قانوني، أو بسيكولوجي، أو ديني…
والبشر خليط من براغماتيّة متوحّشة وإحيائيّة دينيّة، وبعضنا مستنير يرشده العقل إلى ضرورة تنسيب الأحكام.. وبعضنا تشطّ به أهواء الانتساب إلى «رسْم» من أمّته أو ثقافته أو حضارته.. «دَرَسَ» وبعضنا يتأرجح بعد بين لائكيّة تغري بمكاسب الحداثة وبين شراكة دينيّة يراها موحّدة لصوت الأمّة… وبعضنا يرى في التّكتّلات القوميّة مدخلا للتّكتّلات الاقتصاديّة القادرة على التّصدّي لخطر الاستقطاب العولميّ، وبعضنا ساذَج لا يدرك من السياسة غير القدرة على سدّ الفراغ العَقدِي؛ بعد أن فقدت العقيدة السّماويّة تأثيرها فيه. ناهيك عن هؤلاء الذين يتخبّطون بين أدبيّات العقيدة وبين الثّقافة التي يشيعها الخطاب الليبرالي المتغنّي بالدّيمقراطيّة والثقافة «الإنسانويّة»؛ وهؤلاء الذين تطغى عليهم براغماتيّة متوحّشة، ولا يزالون يُعدّون الإنسانَ رقما اقتصاديّا في معادلات الإنتاج والرّبح هازئين بكلّ نقد يتذرّع بالقيم الإنسانيّة. ومع ذلك فلا مناص في أن نقف إلى جانب هؤلاء الذين يصرّون رغم كلّ شيء، على ثقافة حقوق الإنسان ورهانات الدّيمقراطيّة، وأن لا نقتصر على اللعب في الهامش.
قد يبدو ما تقدّم التفافا إيديولوجيّا أو ما يشبه ذلك على مطلب من حقّ الفلسطينيّين ومن واجبهم قبل غيرهم، أن ينهضوا به؛ وإن كان الفضل فيه اليوم لجنوب أفريقيا، في هذا الراهن البشري الذي افتتحه الفلسطينيّون وهو ينقلنا من فضاء إشكاليّ إلى فضاء إشكاليّ آخر يجاوره ويقاطعه في آن وربّما يداخله في هذا المستوى أو ذاك مداخلة تفرضها كونيّة القيم وإن تخالفت مساراتها لاعتبارات حضاريّة، وتفاوتت مستوياتها لمقتضيات ثقافيّة أو لغير ذلك ممّا يمكن أن نصادفه في تاريخ البشر، وفي هذا الصراع العالمي المحتدم اليوم في المنطقة العربيّة خاصّة حيث تعيدنا فلسطين إلى تاريخ الشرّ والخير معا؛ دون التّقيّد بالبحث في نسب هذا التّاريخ إن كان غربيّا أو شرقيّا؛ فهو اليوم في ذمّة كل البشريّة. وبالفعل فإنّ الخير لم يكفّ البتّة عن أن يكون الشّأن الأهمّ بالنّسبة إلى الإنسان؛ فما هو في حكم البداهة هو أنّ كلّ الناس يسعون إلى أن يعيشوا في مجتمعات الخير والرفاه والسعادة. وقد يكون هذا من قبيل إجراء أوّليّ، ليس إلاّ؛ وقد لا يفي بالمرام ونحن نرى ضحايا الشرّ يزداد عددهم يوما بعد يوم في فلسطين. وعليه فإنّه ينبغي أن نستنبت مفهوم الخير من عين ما ليس هو إيّاه. ونحن لا نطلب ذلك من منطلق الاعتراض على الاعتبار الذي يذهب إلى كون الخير شأنا خياليّا، فهو كذلك وسيظلّ على ما نرى من تاريخ البشر، وإنّما المطلوب أن نقف على دلالته في صميم التّخييل الذي يتلفّع به. وربّما لا اعتراض على التّحديد الذي يذهب إلى أنّ الخير هو دائما خطّ متخيّل بعيد يلوح في الأفق ولا ينفكّ يتباعد كلّما توهّمنا الاقتراب منه.
بيْد أنّ الحياة لم تعد سرّا أو لغزا، بل صار الإنسان قادرا على خلقها أو صنعها. ونقرأ اليوم كيف أنّ العلم والتكنولوجيا هما جلد ثانٍ للإنسان، وأنّهما يمتلكان القدرة على تحريرنا من ربقة الزمان والمكان. بل هناك من يقول إنّ أربع قوى تدفع بالإنسان قُدُما إلى التفرّد الذي لا شبيه له. أوّلها عالم إنسانيّ مترابط، وثانيها إعداد البشر لاستكشاف عالمهم الجديد أي الفضاء، وثالثها الذكاء الاصطناعي، ورابعها ما يسمّيه العلماء «التقدّم في واجهات الدماغ ــ الكومبيوتر». وهذه القوى المتضافرة ستفضي بالإنسان، كما يقرّر العلماء، إلى اكتساب «الدماغ الرابع» مصدر «الذكاء الأعظم». وقد ينشأ «ضمير إنساني» أفضل بكثير من ضميرنا المعطوب.
منصف الوهايبي