لم يمتصّ اللبنانيون بعد هول المجزرة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي أمس الثلاثاء، بتفجيره أجهزة البيجر التي يستخدمها عناصر حزب الله والتي أعادت إليهم شريط انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/ آب 2020، حيث سقط مواطنون شهداء وجرحى على الطرقات وفي منازلهم، والدماء تغطي أجسامهم، وسيارات الإسعاف تنتشر في الشوارع وتسارع لنقل المصابين إلى المستشفيات التي امتلأ معظمها، وشهدت توافداً كبيراً للمتبرعين بالدم من غالبية المناطق، وسط إعلان حال استنفار أمني وصحي.
وفخخت إسرائيل أمس أجهزة اتصال “بيجر” وفجّرتها في وقت متزامن، في تمام الساعة الثالثة والنصف من بعد الظهر بتوقيت بيروت، في الضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب والبقاع، إلى جانب مناطق في سورية، ما أسفر عن سقوط عددٍ من الشهداء وأكثر من ألفي جريح، غالبيتهم عناصر من حزب الله، وبينهم أبناء كبار النواب والمسؤولين في الحزب، إضافة إلى إصابة السفير الإيراني مجتبى أماني.
وأقفلت المدارس والثانويات والجامعات ومعظم الإدارات الرسمية والنقابات أبوابها اليوم الأربعاء، حداداً واستنكاراً لـ”الجريمة الجماعية”، في حين تشهد الأروقة السياسية حركة مكثفة من اللقاءات والاجتماعات والاتصالات لمناقشة التطورات الأخيرة وتداعياتها وتأثيرها على مسار المواجهات العسكرية على الجبهة الجنوبية، نظراً لضخامة العملية، التي اعتُبرت بمثابة أكبر خرق لشبكات اتصال حزب الله، ومن شأنها أن تمهّد لعمليات ميدانية أكثر تطوراً وعنفاً في الأيام المقبلة.
وفتح الهجوم الإسرائيلي الباب واسعاً أمام احتمال توسّع رقعة الحرب، خصوصاً أنه أتى على وقع تهديدات إسرائيلية باللجوء إلى الخيار العسكري لإعادة السكان إلى الشمال، ورغم التحذيرات الأميركية من سلوك هذا الاتجاه، آخرها تلك التي نقلها المبعوث الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين خلال جولته، أول من أمس الاثنين، في دولة الاحتلال.
حزب الله أمام تحدّي الردّ
وترى أوساط سياسية لبنانية أنّ ما حصل خرق غير مسبوق في إطار المواجهات بين حزب الله والاحتلال، وسيؤدي حتماً إلى تغيير في أدوات الصراع، علماً أنّ الأنظار عادت الآن إلى حزب الله على غرار ما حصل عند اغتيال القيادي فؤاد شكر، وسط ترقب للردّ، وهو من المتوقع أن يعلنه الأمين العام حسن نصر الله، يوم غدٍ الخميس، خلال إطلالته للحديث عن آخر التطورات، علماً أنّ الحزب أصبح أمام تحدٍّ أكبر اليوم، خصوصاً ضمن بيئته التي تنتظر أن يكون “القصاص قاسياً” بالنظر إلى حجم العدوان. وبينما التزمت إسرائيل الصمت حيال الهجمات، حمّل حزب الله الاحتلال المسؤولية الكاملة عن “العدوان الإجرامي”، مؤكداً أنه سينال “قصاصه العادل”، في حين تناولت أبرز الصحف الأميركية تفاصيل العملية الإسرائيلية وكيفية إخفاء متفجرات داخل دفعة من أجهزة اتصال “بيجر” تايوانية، تم استيرادها إلى لبنان.
وقال مؤسس شركة غولد أبولو التايوانية هسو تشينغ كوانغ، اليوم الأربعاء، إنّ أجهزة الاتصال بيجر التي انفجرت أمس ليست من تصنيع الشركة، بل صنعتها شركة في أوروبا لديها الحق في استخدام العلامة التجارية للشركة التايوانية. في هذا الإطار، يقول مصدرٌ نيابيٌ في حزب الله لـ”العربي الجديد”، إنّ “تحقيقات واسعة فُتحت لمعرفة كيفية حصول التفجيرات والخرق الذي طاول الأجهزة، حيث إن الشحنة كانت جديدة، واستوردت قبل أشهر قليلة”، لافتاً إلى أنّ “الحزب لديه الكثير من الأجهزة، ولم تنفجر كلها”.
ويشير المصدر إلى أنّ “هناك روايات كثيرة تخرج في الاعلام تتحدث عن تفاصيل الهجوم وكيفية تنفيذه، ولكن هناك معلومات ليست كلها دقيقة، والتحقيقات التي يقوم بها الحزب ستكشف ما حصل، لكن كما قال الحزب في البيان فإنّ إسرائيل تقف خلف الهجوم وستنال العقاب المناسب”. ويضيف المصدر حول ما إذا كان الردّ سيكون مدروساً على غرار ما حصل بعد استهداف شكر: “الكلام كلّه سيقوله الأمين العام للحزب الخميس، والقصاص طبعاً سيكون عادلاً، نحن قلنا وكرّرنا أننا لا نريد الحرب ولا نزال نستبعد هذا السيناريو رغم إصرار العدو على جرّنا إليه، لكننا على أتم الجهوزية له”.
وفي المشهد السياسي، تتكثف اللقاءات والاجتماعات اليوم لبحث التطورات الخطيرة، إذ أشار مصدرٌ مقرّبٌ من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أنّ “هناك استنفاراً كاملاً واتصالات على أعلى المستويات لمناقشة العدوان الخطير على لبنان، إذ على المجتمع الدولي والأممي أن يتحرّك فوراً وبشكل جدّي للوقوف بوجه الإجرام الإسرائيلي وتماديه في الاعتداءات التي يريد من خلالها جرّ لبنان إلى الحرب”. وأضاف المصدر أن “الاتصالات تتطرق أيضاً إلى المساعدات التي تنوي بعض الدول تقديمها للبنان، خصوصاً الطبية منها، في ظلّ الأعداد الكبيرة من الجرحى، كما أن هناك رسائل وصلت تفيد بخطورة ما يحصل وضرورة التحلّي بالهدوء لمنع تفلّت الأمور وتفجّرها”. وأشار المصدر إلى أنّ “ميقاتي يواكب ما يحصل مع الأجهزة الأمنية والمعنية، ويتابع التقارير التي تصله في إطار الهجوم الإسرائيلي، وهناك استنفار كبير على المستوى الصحي لمعالجة المصابين”.
إلى ذلك، قال مصدر دبلوماسي في السفارة الأميركية في بيروت لـ”العربي الجديد”، إن الولايات المتحدة تنظر بقلق شديد إلى التطورات الخطيرة وتشدد على ضرورة التهدئة، لافتاً إلى أن الحل الدبلوماسي للتهدئة ووقف إطلاق النار لا يزال ممكناً، وهو المسار الوحيد لوضع حدّ للتوترات.
لبنان يرفع حالة الجهوزية لمواجهة أسوأ السيناريوهات
وفي السياق، قالت أوساط حكومية لبنانية لـ”العربي الجديد”، إنّ “هناك رفعاً لحالة الجهوزية وتكثيفاً للاجتماعات في حال تطور العمليات العسكرية، خصوصاً لجهة استيعاب أعداد أكبر من النازحين”، وأشارت إلى أنّ “الاجتماعات والتدابير تتخذ تحسباً للسيناريو الأسوأ الذي نتمنى ألا يحدث، لكن يجب أن نكون على أهبّة الاستعداد لمواكبة أي طارئ، خصوصاً صحياً وغذائياً، وعلى مستوى وجود مراكز عدة وتجهيزها لاحتواء النازحين في حال تسجيل أعداد إضافية وجديدة ربطاً بالتطورات والخشية من توسع رقعة الحرب”.
ولفتت المصادر إلى أنّ “المخزون الغذائي كافٍ ومؤمَّن لأكثر من 3 أشهر. من هنا لا داعي للهلع، علماً أننا لم نسجّل بعد أي حالات توافد على السوبرماركات أو المحال الغذائية، كذلك الأمر بالنسبة إلى المحروقات الموجودة بشكل طبيعي ومؤمنة والمخزون كافٍ، ولم نسجل بهذا الإطار أيضاً أي تهافت على المواد”.
48 ساعة حرجة لبنانياً
في سياق التحليلات، يقول العميد المتقاعد عادل مشموشي لـ”العربي الجديد”، إنّ “الهجوم الإسرائيلي أمس قد يكون بمثابة عملية تحضيرية لمعركة واسعة، من هنا نحن أمام 48 ساعة حرجة وخطرة جداً، وقد يستغل العدو الوضع الذي أحدثه للذهاب بتصعيد أوسع على الجبهة الجنوبية للبنان”، معتبراً أنّ “حزب الله والمقاومة هما الآن في موقفٍ حرجٍ، ما قد يضعنا أمام ردود فعل ربما موجعة أكثر من تلك التي نفذها الحزب رداً على اغتيال قائده فؤاد شكر”. ويرى مشموشي أنّ “عملية أمس هي غير مسبوقة ليس فقط في معرض الصراع اللبناني الإسرائيلي، بل على مستوى العالم، سواء نوعياً أو استخباراتياً، وهي على قدرٍ كبيرٍ من الخطورة، وطبعاً ليست وليدة الساعة، بل جرى التحضير لها منذ أشهر، وبالتحديد منذ أن بدأ يتكشف خرق العدو لأجهزة الاتصال الهاتفية المزوّد بها عناصر حزب الله، ما ترجم بالتعقّب والاغتيالات المتتالية والمكثفة لعناصر وقادة ميدانيين في حزب الله”.
ويضيف الخبير العسكري “يبدو أنه بعد دعوة نصر الله عناصر الحزب ومقاتليه إلى التخلي عن الأجهزة الهاتفية، بدأ البحث عن وسيلة اتصال ثانية، خصوصاً أنّ الجيوش والجماعات المقاتلة عادة ما تستخدم أكثر من وسيلة اتصال سواء لاسلكي أو سلكي، مع الإشارة إلى أن الشبكات السلكية إجمالاً لا تتمتع بالمرونة، من هنا تفتش القوى العسكرية عن أجهزة لاسلكية رغم احتمال خرقها كونها تحصل عبر موجات في الفضاء ويسهُل اعتراضها، فكان اختيار البيجر، وهو وسيلة معروفة قديماً وتستخدم من قبل الشركات والمستشفيات بشكل خاص والأطباء لإيصال الرسائل العاجلة مكتوبة أو حتى صوتية”.
ويعتبر مشموشي أنّ “العدو حتماً عرف بموضوع الشحنة ومكان شرائها واستيرادها، ربما بمساعدة من أجهزة مخابرات غربية، فإمّا تعاون مع الشركة المُصنعة، خصوصاً أنّ العمليات هي تفجيرية وليست قضية انفجار بطارية، إذ هناك مواد متفجرة موضوعة داخل الأجهزة أحدثت هذه الأضرار البشرية البالغة، أو أنه أجرى تعديلات عليها، وأحدث تغييرات في البرمجيات بطريقة عملها ليتمكن من إرسال رمز سري لتفجيرها، أو جرى استبدال الأجهزة بأخرى مفخخة، لكن بكل الأحوال هناك خطأ جوهري حصل بتوزيع الحزب وسيلة اتصال واحدة على الكمّ الكبير من العناصر، خصوصاً قبل التحقق منها وإجراء فحص للعينات، علماً أنه يفترض أن يكون هناك تنوع أكثر بوسائل الاتصال”.
ويشدد مشموشي على “ضرورة إجراء عمليات معاينة لكل التجهيزات وأجهزة الاتصالات التي ستُستعمل من الآن وصاعداً خشية تكرر العملية، سواء مباشرة من العدو أو بواسطة عملاء أو أجهزة مخابرات”، مشيراً إلى أن “العدو سائر لمزيد من التأزيم، وهذا واضح من خلال عمليات الاغتيال وسلسلة اعتداءاته جنوباً وبقاعاً، عدا عن ضربه إيران، ويمكن لما حصل أمس أن يشجع القادة الإسرائيليين، خصوصاً رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، على التصعيد أكثر، ولا سيما أن إسرائيل تشعر بأنها متفوقة في ظل ما تلقاه من دعم أميركي وغربي”.