ثقافة وفكر
أخر الأخبار

قصص لأدباء عرب تخلوا عن مكتباتهم.. ما دافعهم؟

لم يكن الكاتب المصري محمد أمين، أوّل من تشهد الثقافة العربية تخلّصه من مكتبته الشخصية سخطاً على أحوال معيشية سيئة، بل فعلها قبله كثيرون من أرباب الفكر والثقافة ممن جاء تخلصهم من كتبهم بمثابة صرخة في وجه الفقر وظروف الحياة الرديئة. قبل أكثر من ألف سنة، تخلَّص فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، أبو حيان التوحيدي، من مكتبته. وكذلك اضطر الأديب والكاتب المصري، عباس محمود العقاد، إلى بيع كتبه في أواخر حياته بسبب ضائقة مالية كان يمرّ بها.

وباع الشاعر عبد الحميد الديب كتباً عليها إهداء العقاد لباعة كتب الأرصفة في سور الأزبكية. وكان لكلّ منهم فلسفته عند اتخاذه ذلك القرار الموجع بأن يتخلص من رئته التي يتنفس بها، أي كُتبه. في هذا التقرير نسلَّط الضوء على هذه الظاهرة في الثقافة العربية قديماً وحديثاً، وعلى الفلسفة الكامنة وراءها.

التبرع بالكتب كالتبرع بالأعضاء

عَنوَنَ الكاتب المصري محمد أمين، مقالته بـ”يشبه التبرّع بالأعضاء”، وحكى فيها قصة بيعه مكتبته ونشرتها صحيفة المصري اليوم بتاريخ 18 نيسان/أبريل 2024. وكان قد تبرَّع أمين بمكتبته الشخصية ومكتبه لبوّاب العمارة التي يسكن فيها في آخر أيام شهر رمضان الماضي.

يقول أمين حول هذه الواقعة: “التبرّع بالمكتبة يُشبه التبرع بالأعضاء… صحيح أن كل شيء راح لحاله، ولكن سوف تشعر أن هناك شيئاً ما ينقصك… ربما حاولت أمس أن أقنع نفسي بأنها صدقة مع أن ورقة بمائة جنيه كانت تحل المشكلة كلها، ولكن ‘عم علي’ كان يأخذ البقايا من الأوراق والكتب ليبيعها ويقتات من ثمنها، فوجدت أنني إزاء شعوره بالحاجة وتعاطفي الشديد معه تبرعت بالمكتبة كلها، وقد سبق أن تبرعت بمكتبتي الأولى للمسجد الكبير في قريتي!”.

وحول الفكرة التي دفعته ليقدم على ذلك، يقول: “ولذلك لم يكن غريباً أن أتبرع أيضاً هذه المرة بالمكتبة، فالثقافة التى لا توفر الغذاء للفقراء تبقى ثقافةً نظريةً، لا قيمة لها، ويصبح مآلها إلى البواب أو بائع الروبابيكيا أو الرصيف على سور الأزبكية والميادين العامة أو سور الجامعة، وأنا وأنت نمرّ على باعة الكتب عند جامعة القاهرة ولا نسأل أنفسنا كيف وصلت إليهم!”.

مرارة تدمي القلب

علَّق الشاعر فاروق جويدة، على تبرّع محمد أمين بمكتبته في زاويته “هوامش حرّة” في جريدة الأهرام (بتاريخ 18 نيسان/أبريل 2024)، تحت عنوان “العقاد يبيع مكتبته”. وفي هذه المقالة، يتذكر جويدة ما حدث مع العقاد: “كان كاتبنا الكبير عباس محمود العقاد يمر بأزمة ماليه اضطرّته أن يبيع جزءاً من مكتبته، وعلم أنيس منصور بالقصة فذهب إلى مصطفى أمين الذي أرسل 200 جنيه إلى العقاد، ولكن العقاد رفض أن يأخذ المبلغ من أنيس منصور، وقال له أنيس إنه مبلغ تحت حساب مقالاتك في الأخبار، فقال له العقاد: أنا لا أحصل على مقابل لمقالات لم أكتبها بعد، وكان يحصل على خمسين جنيهاً في المقالة. قال أنيس منصور: وأعدت المبلغ لمصطفى أمين”.

وحول ما كتبه محمد أمين عن تخلّيه عن مكتبته الشخصية يقول جويدة: “أعترف بأن كلمات محمد أمين البديعة والمُرّة في نفس الوقت عادت بي إلى محنة الكاتب الذي يحترم قلمه، وكيف تسربت منه سنوات العمر وهو يواجه تحديات الزمن ومطالب الحياة، رغم أنه يشاهد حوله عشرات العملات الرديئة وهي تتصدر المشهد وتبيع شرف الكلمة بأبخس الأسعار”.

ويختم جويدة مقالته: “صديقي العزيز محمد أمين كلماتك أدمت قلبي في هذه الأيام الموحشة وأنت تعلم أن قلبي متعب من زمان”.

علمٌ ثقيلٌ لا خير فيه

والتخلص من الكتب احتجاجاً على ظلم الحياة ظاهرة قديمة في الثقافة العربية الإسلامية. فمن الذين تخلصوا من كتبهم الفيلسوف الأديب أبو حيان التوحيدي الذي “كان متفنناً في جميع العلوم من النحو واللغة والشعر والأدب والفقه والكلام”، كما نقرأ عنه عند ياقوت الحموي في معجم الأدباء.

ويصف ياقوت حال أبي حيان: “فَرْدُ الدنيا الذي لا نظير له ذكاءً وفِطنةً وفصاحةً ومُكنةً، كثير التحصيل للعلوم في كل فنّ حفظه، واسع الدراية والرواية، وكان مع ذلك محدوداً مُحارَفاً (أي قليل الحظ) يَتَشَكَّى صَرْفَ زمانه (أي مصائب زمانه)، يبكي في تصانيفه على حرمانه”.

ويحكي لنا ياقوت أنَّ أبا حيان “قد أحرق كتبه في آخر عمره لقلة جدواها وضنّاً بها على من لا يعرف قدرها بعد موته، فكتب إليه القاضي أبو سهل علي بن محمد يعذله (أي يلومه) على صنيعه”. فرد أبو حيان عليه برسالة طويلة أوردها ياقوت، جاء فيها: “إنَّ العلم حاطك الله يُرادُ للعمل، كما أنَّ العمل يُرادُ للنجاة، فإذا كان العمل قاصراً عن العلم كان العلمُ كلّاً (أي ثقيلاً لا خير فيه)، وأنا أعوذُ بالله من علمٍ عاد كلّاً وأورث ذلاً وصار في رقبة صاحبه غلّاً (الغلّ طوق حديدي يوضع حول عنق الأسير أو يده)”.

وعن كتبه التي أحرقها يقول التوحيدي في هذه الرسالة: “هذه الكتب حوت من أصناف العلم سرَّه وعلانيته، فأما ما كان سرّاً فلم أجد من يتحلَّى بحقيقته راغباً، وأما ما كان علانيةً فلم أُصِب من يحرصُ عليه طالباً”.

وكان التوحيدي يتوقع أن يحقق له علمه الذي حوته كتبه حياةً كريمةً يستحقها إلا أنَّ هذا لم يحدث. يقول التوحيدي عن ذلك في رسالته: “على أني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة (أي حُسن الحال) منهم، ولعقد الرياسة بينهم، فحُرمت ذلك كله، ولا شك في حسن ما اختاره الله لي وناطه بناصيتي وربطه بأمري” (ياقوت الحموي، “معجم الأدباء”، تحقيق إحسان عباس. ص1929، ص1930). وما أشبه أيام أبي حيان بأيامنا.

باع الكتب هرباً من “الطرطرة” عليه

كان الشاعر المصري عبد الحميد الديب (1898-1943)، يعيش حياة فقر وتشرد. وقد اشتهر الديب بأبياته التي يشكو فيها حاله:

“دع الشكوى وهات الكأس نسكر

ودعك من الزمان إذا تنكّر

وهام بي الأسى والبؤس حتى

كأني عبلة والبؤس عنتر

كأني حائط كتبوا عليه

هنا يا أيها المزنوق طرطر”.

(ديوان عبد الحميد الديب، شاعر البؤس. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ص 172).

يحكي عبد المنعم شميس، في كتابه “قهاوي الأدب والفن في القاهرة”، عن حياة الديب البائسة والتي لم تَجُد عليه بمأوى يأويه فكان “ينام على دكة خشبية في قهوة الفيشاوي، وإذا تكسرت ضلوعه من قسوة النوم على الخشب لجأ إلى جامع الحسين رضي الله عنه ونام على السجاد في أحد أركانه”. وعن نوادر عبد الحميد الديب مع الكاتب عباس العقاد، يقول شميس في كتابه: “عَرَفَ -أي الديب- أنَّ العقاد يذهب يوماً من كل أسبوع إلى المكتبة التجارية في شارع محمد علي، وكانت تتولى نشر كتبه أو بيعها”.

ويواصل شميس: “ذهب عبد الحميد الديب إلى المكتبة في اليوم الموعود واقترب من الأستاذ العقاد وحيَّاه وسلَّم عليه، فأراد العقاد أن يُكرِمه بطريقة مُهذَّبة لا تحرج شعوره، ولا تشعره بمذلة السؤال، وكان قد صدر للعقاد كتاب جديد أراد أن يُقدّم منه نسخاً كهدايا لأصدقائه، أو لأعلام الكُتَّاب والأدباء والصحافيين، فكتب على كل نسخة الإهداء المناسب، وقال لعبد الحميد الديب: أرجو أن تنوب عني في تقديم هذه النسخ لكل من كُتب اسمه عليها. ثم قدّم -أي العقاد- للشاعر البائس مبلغاً من المال حتى لا يُشعره بذل السؤال، وقال له خذ هذه الجنيهات لتنفق منها على المواصلات”. ويستطرد عبد المنعم شميس: “كان عبد الحميد الديب يستطيع أن يركب الترام إلى الزمالك أو الجيزة، أو العباسية، بستة مليمات.

ولكن العقاد أعطاه جنيهات، وربط عامل المكتبة نُسخ الكتاب وحملها عبد الحميد وذهب على أمل أن يقدّم كل نسخة لصاحبها نيابةً عن العقاد”. ويتابع شميس: “وبعد دقائق معدودات جاء رجل ومعه ربطة الكتب وقدّمها إلى العقاد، وقال إنه بائع كتب على سور حديثة الأزبكية”. يقول شميس: “كان عبد الحميد الديب قد باع الكتب وعليها إهداءات الأستاذ العقاد لبائع كتب على سور الأزبكية، وقد دفع العقاد للبائع الثمن الذي دفعه وزيادة” (عبد المنعم شميس، “قهاوي الأدب والفن بالقاهرة”، القاهرة: دار المعارف، سلسلة اقرأ؛ 563. ص 49-50).

احتجاج في وجه المجتمع

يقول الكاتب الصحافي والباحث محمد حسين الشيخ، لرصيف22: “هذه الحالة في رأيي تنبع من سببين، أولهما أن هذا المثقف في احتياج مادي شديد، ولا يملك شيئاً يدرّ عليه نفعاً سوى بيع كتبه، والسبب الثاني أنها وسيلة اعتراض ضد المجتمع والنظام العام الذي لا يعطي شأناً للمثقف وللثقافة عموماً، أو الذي يأخذ موقفاً معادياً من هذا المثقف، وعند وصول المثقف إلى هذه الحالة من اليأس قد يلجأ إلى بيع مكتبته كنوع من الاحتجاج في وجه المجتمع الذي لا يعيره شأناً أو يعاديه، وقد يضطر إلى حرق كتبه وليس بيعها كما فعل أبو حيان التوحيدي الذي وصل به الفقر حد أكل الحشائش”.

ويضيف الشيخ: “وهذا السلوك تحوّل في بعض الأحيان إلى سلوك عام ترعاه الدولة نفسها، إما بسبب الأزمات الاقتصادية، أو بسبب الاختلاف الفكري. ففي العهد الفاطمي حين حدثت المجاعة التي عُرفت بالشدة المستنصرية، اضطر مسؤولون في الدولة وجنود في الجيش الفاطمي إلى نهب مكتبة دار الحكمة وبيع كثير من الكتب التي كانت فيها بسبب عدم تقاضيهم رواتبهم. وفي بداية الدولة الأيوبية السنّية التي ورثت الدولة الفاطمية الشيعية، جرى تفكيك المكتبة الفاطمية التي قيل إنها احتوت على أكثر مليون ونصف مليون كتاب، وبيعها”.

انتحار معنوي وفكري

من جانبه، يؤكد الروائي والأكاديمي زين عبد الهاي، لرصيف22، “أنَّ حاجة المثقف مسألة قاسية ومؤسفة عبر التاريخ، واذا لجأ مثقف ومبدع إلى بيع كتبه فهو يقدم على مسألة انتحار معنوي وفكري، لا يمكن قياس أثرها النفسي العميق في الكاتب، فكأنك تقتطع جزءاً من روحه وتاريخه ليس بالسهل البسيط ولا بالهين الخفيف”.

كما يؤكد عبد الهادي، “أنَّ الأمر يحتاج إلى دراسة تاريخية واجتماعية للأسباب الدافعة وتفسير سيكولوجي لذلك لأنَّ الأمر لا يتعلق بالفقر والفاقة بقدر ما يتعلق بالكرامة الإنسانية، فالكاتب قلم وكرامة إذا فقد أحدهما فقدت الكتابة معناها لديه وربما الحياة نفسها فيقدم على انتحار للذات… كأنها معاقبة للذات”.

بعت ألف نسخة من مجلة لبائع الطعمية انتقاماً

ويحكي محمد حسين الشيخ، عن واقعة حدثت له باع فيها ألف نسخة من مجلة كان يكتب فيها انتقاماً. يقول الشيخ: “كنت أعمل مع شخص يُدعى إبراهيم أبو زيد، في مجلة يصدرها بهدف الكسب من إعلانات تأتيه لتُنشر في المجلة، لكن بعد فترة من العمل لم يدفع لي أبو زيد مستحقاتي المالية، وكان أبو زيد قد خزَّن في سكني ألف نسخة من المجلة لأن المجلة تركت مقرّها توفيراً للنفقات”.

ويستطرد الشيخ: “ولما وجدته يُخادعني، ويصرّ على عدم تسديد مستحقاتي، قررت أن أنتقم منه؛ فحملت أعداد المجلة وبعتها لبائع طعمية قريب من حيث كنت أسكن آنذاك في شارع شحاتة الجمل المتفرع من شارع ناهيا في بولاق الدكرور في محافظة الجيزة”. ويقول الشيخ: “لقد استلهمت ما فعلت وقتها من عمّنا محمود السعدني الذي حمل إصدارة كاملة من مجلة كان يعمل فيها على عربية كارو وباعها انتقاماً من صاحب المجلة الذي لم يعطِ للعاملين فيها حقوقهم”.

افتراقي عن كتبي كافتراقي عن أولادي

يقول محمد عبد الشفيع عاشور، مدرّس التاريخ المعاصر في جامعة الفيوم: “بالنسبة لي هذه الظاهرة تؤلمني كثيراً، لأني دائماً أسأل نفسي سؤالاً هو: من الذي سيرثُ مكتبتي؟! لم أفكر يوماً. هل يا ترى من الممكن ألا تبقى للورثة وأبيعها في يوم من الأيام؟! بالنسبة لي هذا سؤال أصعب وأكثر ألماً لأن افتراقي عن كتبي في الدنيا مثل افتراقي عن أولادي، فكل كتاب في مكتبتي له ذكرى معي؛ كيف حصلت عليه؟ لماذا اشتريته؟ ما الذي ضحيت به من أجل شرائه؟ كيف غيّر طريقة تفكيري ونظرتي إلى العالم؟ والكثير من الأسئلة التي تجعل منه ابناً باراً وصديقاً وفياً يفتح لي إجابات حقيقيةً وينصحني بأصدق النصائح لذا الافتراق عنه صعب، فما بال الافتراق عنه لظروف معيشية صعبة!”.

ويضيف عاشور: “أعتقد أن ظاهرة بيع الكتب بسبب قسوة الحياة ومن أجل تلبية الاحتياجات الأساسية، ملازمة للمثقف والباحث عن التعلم الحقيقي في العالم العربي لأنه لا ضمانه مالية له وبالتالي فإن أهم ما يمتلك من الممكن أن يتخلى عنه في يوم من الأيام، وهنا يتبادر إلى ذهني سؤال هو: ما الهدف الذي غالباً ما يسعى إليه المثقف، صاحب المكتبة، أو الأديب… أياً كانت صفته؟ سنجد أنه محاولة إصلاح المجتمع والمساهمة في تقدّمه”. ويتساءل: “فأين إذا مسؤولية المجتمع في دعم مفكّريه؟!”.

وفي سياق متصل، يؤكد الكاتب الصحافي وعضو الجمعية العمومية لاتحاد كتاب مصر، أحمد بدر نصار، لرصيف22، أنَّ ظاهرة بيع المكتبات الخاصة للمثقفين في عصرنا الحالي، لم تكن وليدة اليوم، فقد حدثت مع الأستاذ العقاد، لافتاً إلى أن بيع المكتبات الخاصة من قبل أصحابها وهم على قيد الحياة دليل صارخ على عدم الاهتمام بالمثقفين وتخلّي الجهات المعنية بالثقافة والمثقفين عن دعمهم المطلوب وهم منارة العلم والثقافة. 

رصيف 22

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى