غزة … قصـة صمود “تعرف على المقاومة في غزة من الألف إلى الياء”

منذ إشعال شرارة الانتفاضة الأولى حتى طوفان الأقصى.. قطاع غزة يروي تاريخاً من مواجهة الاحتلال الإسرائيلي

“أتمنى لو أستيقظ يوماً وأرى غزة وقد ابتلعها البحر!”


جاءت هذه العبارة نصاً على لسان رئيس وزراء إسرائيل الأسبق إسحاق رابين، وترددت كمعنى على لسان أغلب قادة دولة الاحتلال منذ نشأتها وحتى اليوم.

إنها الحقيقة التي تجسد تاريخ غزة الممتد في مقاومة الاحتلال، فمنها اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ومن رحم تلك الانتفاضة ولدت، قبل نحو نصف قرن، حركة المقاومة الإسلامية حماس كحركة تحرر وطني تصيب الاحتلال بالتخبط وتكشف همجيته أمام العالم أجمع.

هنا سنحكي قصة غزة هاشم أو غازاتو أو هازاني، وغيرها من الأسماء التي أطلقت على مر العصور على قطاع غزة، الذي أصبح أول أرض فلسطينية تجبر الاحتلال الإسرائيلي على الانسحاب منها منذ نكبة 1948. القطاع الذي يرغب جيش الاحتلال حالياً باجتياحه برياً، لكنه “خائف” من المقبرة التي تنتظر قواته.

قطاع غزة.. تاريخ وأرقام

قطاع غزة هو شريط ساحلي ضيق تبلغ مساحته الإجمالية 360 كلم مربع فقط ويمثل 1.33% من مساحة فلسطين التاريخية. يقع في المنطقة الجنوبية من السهل الساحلي الفلسطيني على البحر المتوسط. يمثل قطاع غزة شريطاً ضيّقاً طوله من شماله إلى جنوبه 41 كلم، بينما يتراوح عرضه بين 5 و15 كلم، يحده من الشمال والشرق ما أصبحت تعرف الآن بدولة إسرائيل، ومن الجنوب الغربي شبه جزيرة سيناء المصرية.

يسمى الآن قطاع غزة نسبةً لأكبر مدنه وهي مدينة غزة، لكنه حمل أسماءً متعددة على مدار تاريخه الممتد لأكثر من 5 آلاف عام، مر عليه خلالها كثير من الغزاة، رحلوا جميعاً وبقيت غزة صامدة وستبقى.

أطلق الفرس على القطاع تسمية “هازاتو”، وسمّاه الكنعانيون “هزاني”، وأطلق عليه المصريون قديماً تسمية “غازاتو”، أما العرب فسموها “غزة هاشم” نسبة إلى هاشم بن عبد مناف، جد خاتم المرسلين وإمامهم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.

وعلى مدار الأزمان كان لموقع مدينة غزة الجغرافي أهمية خاصة، نظراً لأنها تقع على أبرز طرق التجارة في العالم القديم، وهو الطريق الذي كان يبدأ من حضرموت واليمن وينتهي في بلاد الهند، كما كان لغزة أهمية عسكرية كبيرة، كونها حلقة الوصل بين مصر والشام.

كما كان لموقع غزة، على حافة الأراضي الخصبة عذبة المياه، والتي تأتي مباشرة بعد صحراء سيناء، تأثير هام في وجود غزة وبقائها وأهميتها، فهي المحطة الطبيعية للقادمين من مصر العربية متجهين إلى بر الشام، كما أنها المحطة الأخيرة لكل قادم من الشام ووجهته مصر، فقد كانت ملتقى القوافل قبل دخول البادية، فيها يستكملون ما يلزمهم قبل المرور بالصحراء أثناء طريقهم إلى مصر.

الآن يتكون قطاع غزة من نحو 44 تجمعاً سكنياً، أبرزها مدينة غزة ورفح وجباليا والنصيرات وبيت لاهيا وبيت حانون والبريج وغيرها، ويبلغ عدد سكان القطاع أكثر من 2.3 مليون نسمة، ويعتبر من أكثر مناطق العالم اكتظاظاً بالسكان، ولهذه الحقيقة سبب مباشر هو النكبة الفلسطينية عام 1948.

نكبة 1948.. تهجير نحو غزة
في ذلك اليوم من شهر مايو/أيار 1948، الذي بات يمثل وصمة عار في جبين الإنسانية، وبخاصة الغرب “المتحضر”، أعلن عن قيام دولة إسرائيل، بعد أن اقتطع الإنجليز الجزء الأكبر في فلسطين وأهدوه لليهود، ليقيموا دولة الاحتلال عليه، وهو ما يعرف بالنكبة الفلسطينية.

قامت العصابات اليهودية بتهجير الفلسطينيين قسراً من مدنهم في يافا وحيفا وبئر السبع وغيرها من مدن فلسطين، ونزح كثير منهم إلى قطاع غزة، الذي تمثل الغالبية العظمى من سكانه اليوم نازحين من بيوتهم وقراهم ومدنهم الفلسطينية. يعيش أكثر من 75% من سكان القطاع في تجمعات سكنية كانت عبارة عن مخيمات للاجئين يبلغ عددها ثمانية، وهي:

لم تحتل إسرائيل قطاع غزة عام 1948، لكن القطاع عانى كما عانت فلسطين كلها منذ ذلك التاريخ. فمساحة القطاع الضيقة وموارده الزراعية، على وفرتها، تعرضت لضغوط شديدة بفعل العدد الكبير من النازحين.

وتشير الدراسات الكثيرة التي أجرتها مؤسسات دولية وأممية إلى الأوضاع المأساوية، وبخاصة في المخيمات الثمانية في القطاع، نظراً للكثافة السكانية العالية، وتعتبر وفيات الأطفال الرضع بالقطاع من أعلى المعدلات في العالم، والفقر والحرمان سيد الموقف بين أهالي غزة، إذ ترتفع معدلات الإعالة إلى أكثر من ستة أفراد، والبطالة تصل إلى نحو 60% من إجمالي قوة العمل الفلسطينية هناك.

ظلَّ القطاع تحت الإدارة المصرية منذ نكبة 1948 وحتى حرب 1967، وكان مقر الحاكم الإداري للقطاع يقع في مدينة غزة، حيث كانت مقراً للواء الجنوبي في فلسطين أثناء الانتداب البريطاني (1920-1948)، وأصبحت المدينة عاصمة للقطاع. لم تدخل إسرائيل القطاع إلا لفترة وجيزة عام 1956، أثناء العدوان البريطاني-الفرنسي على مصر، والذي شاركت فيه إسرائيل، فدخلت قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء أيضاً، لكن سرعان ما انسحبت وعاد القطاع إلى الإدارة المصرية.

إسرائيل تحتل قطاع غزة
وقع قطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب 5 يونيو/حزيران 1967، وبدأت إسرائيل كعادتها في بناء المستوطنات في القطاع على أمل تغيير الواقع الديموغرافي فيه، وفرض أمر جديد ينهي آمال الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة في المستقبل.

ومنذ اليوم الأول لاحتلال القطاع، سعى الجيش الإسرائيلي لإخضاع أهل غزة وفرض الأمر الواقع الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، كما فعل بباقي مدن وقرى فلسطين المحتلة، لكن المجتمع الغزاوي، المُمثل للشعب الفلسطيني ككل، وقوى المقاومة في القطاع، أثبتوا قدرة غير عادية على الصمود وكسر إرادة العدو، وكان لأهل غزة دور بارز في الكفاح الفلسطيني ضد الاحتلال منذ انطلقت الرصاصة الأولى للمقاومة مطلع عام 1965.

ووقع القطاع فريسة للسياسات الإسرائيلية خلال الفترة من 1967 حتى 2005، وهي السياسات التي أدت إلى تفاقم الأوضاع الديموغرافية والاقتصادية بصورة تعجز الكلمات عن وصفها.

“منذ بدء الاحتلال في يونيو/حزيران 1967، اتَّبعت إسرائيل سياسات لا تعرف الرحمة، من مصادرة الأراضي، والاستيطان غير الشرعي، وإخلاء أصحاب الأرض، إلى التمييز الصارخ، والقوانين العنصرية، ما أصاب الفلسطينيين بمعاناة هائلة، وحرمهم من حقوقهم الأساسية”، هذا نص ما جاء في تقرير لمنظمة العفو الدولية، عنوانه “الاحتلال الإسرائيلي: 50 عاماً من التجريد من الأراضي”.

ورصد هذا التقرير، وغيره المئات وربما الآلاف من تقارير المنظمات والمؤسسات الدولية، كيف أثَّر الاحتلال الإسرائيلي على جميع أوجه ومناحي الحياة اليومية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة. فالاحتلال يقرر ما إذا كان بإمكان الفلسطيني أن يذهب للعمل أو لمدرسته أو أن يسافر في الخارج، ومتى وكيف يفعلون ذلك، ليس هذا وحسب، بل تُقرر قوات الاحتلال إذا ما كان الفلسطيني، ومتى وكيف، يمكنه زيارة أقاربه أو العمل لكسب قوته أو المشاركة في تظاهرة احتجاجية أو الذهاب لأرضه الزراعية للعمل فيها، أو حتى الحصول على الكهرباء أو أي إمدادات من المياه النظيفة، وهو ما يعني العيش يومياً في ظل الخوف والمهانة، وجعل حياة الفلسطيني رهينة للاحتلال.

مقاومة الاحتلال
لكن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، ومنها قطاع غزة بطبيعة الحال، لم يستسلموا للاحتلال، وسطَّرواً تاريخاً من الصمود. واتخذ النضال والصمود ومقاومة الاحتلال أشكالاً متعددة، ومنها محاولات الأسرى التي لا تتوقف للهروب من المعتقلات الإسرائيلية.

وترتبط قصص فرار الأسرى الفلسطينيين في المعتقلات الإسرائيلية ارتباطاً وثيقاً بتاريخ النضال الفلسطيني ذاته، وتمثل مجالاً رئيسياً في المعركة القائمة لتحرير فلسطين من قبضة الاحتلال. وعبَّر عن ذلك واحد من أشهر الفلسطينيين في مجال الهروب من السجون الإسرائيلية وهو حمزة يونس.

تمكَّن يونس من الهرب مرات عديدة من معتقلات الاحتلال الإسرائيلي. في كتابه حول الهروب من سجن الرملة، شرح يونس لماذا شكَّل الهروب هاجساً، فقال إن الأمر بالنسبة له “كان موقفاً مبدئياً يجب أن يتّخذه وإلا قد ينتهي. هل أستطيع أن أنتصر على إسرائيل منفرداً؟ لستُ مسلّحاً ولا حتى مدرّباً على السلاح، فهل يُمكن أن أحرزَ نصراً على ترسانة السلاح والطائرات ودولة الجيش والشرطة والأمن وكلاب الأثر؟”.

ومن القصص البارزة في هذا المسار المقاوم عملية “الهروب الكبير” من سجن غزّة المركزي عام 1987، والتي تمكَّن خلالها الأسير مصباح الصّوري من قص قضبان نافذة المغسلة في المعتقل المركزي، باستخدام “نصف منشار حديد” هرَّبه إليه أحد أصدقائه في “رغيف فينو” أثناء الزيارة، وبمساعدة اثنين من المعتقلين هما عبد السّلام أبو السرهد وعماد الدين عوض شحادة، وهما لم يهربا معه لأنهما كانا لا يقضيان محكومية مؤبدة مثله، وكانت فترة سجنهما قد شارفت على الانتهاء.

لكن الصّوري لم يهرب من السجن بمفرده، بل بصحبة 5 من الأسرى المحكومين بالمؤبدات، ليصبح العدد ستة، في واحدة من أبرز عمليات الهروب التي تم تنفيذها على مدى أسابيع في ظروف صعبة، تُوجت بالنجاح في الفرار عبر النافذة التي استغرق قص قضبانها مدة تراوحت بين 3 و7 أيام (حسب الروايات المتعددة).

وبحسب رواية الأسير السّابق أبو السّرهد- أحد الستة- في لقاءٍ مع الإعلام الحربي لسرايا القدس، فقد كانوا يعملون على قص قضبان النافذة في الحمام لفترةٍ قصيرةٍ بين 10-13 دقيقة في كلِّ مرةٍ، محاولين عدمَ لفت انتباه بقية الأسرى. وتمكنوا في ليلة الأحد 17 مايو/أيار عام 1987، من قصّ قضبان النافذة بالكامل، وعندما اكتملت عملية القص أخبر الصّوري زملاءه الأسرى الخمسة الآخرين من أصحاب المحكوميات العالية بنيّته الهروبَ ليشاركوه في ذلك.

نضال القطاع لا يتوقف ضد الاحتلال
بعد نحو 7 أشهر من الهروب الكبير من سجن غزة المركزي، شهد القطاع شرارة اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، والتي عُرفت باسم انتفاضة الأقصى، وتُمثل محطة رئيسية على طريق الصمود والنضال الفلسطيني. ففي يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 1987، تعرضت سيارة تقل عمالاً فلسطينيين من مخيم جباليا للدهس من جانب شاحنة إسرائيلية، وهو ما أدى إلى استشهاد 4 عمال فلسطينيين.

حادث ربما بدا عادياً ووارد الحدوث، إلا أن معرفة هوية سائق الشاحنة الإسرائيلية، وهو مستوطن تعرض أبوه إلى الطعن في سوق غزة قبل الحادث بيومين، أثار المشاعر المحتقنة من الأساس بسبب الاعتداءات التي لا تتوقف من جانب المستوطنين وقوات الاحتلال على حد سواء. تحولت جنازة تشييع الشهداء الأربعة إلى مظاهرة عفوية رشق خلالها الفلسطينيون موقعاً عسكرياً للاحتلال في جباليا بالحجارة، فردّ جنود الاحتلال بإطلاق الرصاص، لكن ذلك لم يُرهب المحتجين.

اندلعت انتفاضة الحجارة في جميع الأراضي الفلسطينية، المحتقنة من الأساس والرافضة للاحتلال وإجرامه الذي لا يتوقف. ومن رحم الانتفاضة وُلدت حركة المقاومة الإسلامية حماس كحركة تحرر وطني، وكان ذلك يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 1987.

استمرت انتفاضة الحجارة سنوات، ونتج عنها مؤتمر مدريد للسلام وما تلاه من محادثات خلف الكواليس، بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة الراحل ياسر عرفات، والاحتلال بوساطة أمريكية، تُوجت في النهاية باتفاقيات أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية، تمهيداً لإنشاء دولة فلسطين المستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967 (القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة)، وكان المفترض أن ترى تلك الدولة النور خلال 5 سنوات، أي عام 1999.

لكن الاحتلال لم يحترم تلك الاتفاقيات، ولا توقف عن مشاريعه الاستيطانية، ولا سياساته العنصرية والقمعية تجاه الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه لم تتوقف مسيرة النضال، حتى وإن أصبح هناك مسار تقوده السلطة عنوانه “التفاوض”.

استمر النضال ومقاومة الاحتلال، الذي توسع في تشييد المستوطنات، هادفاً إلى فرض الأمر الواقع، وتحوَّل قطاع غزة إلى معقل رئيسي من معاقل المقاومة، حيث لم تتوقف العمليات ضد قوات جيش الاحتلال وشرطته ومستوطنيه، طعناً أو دهساً أو بإلقاء الحجارة أو زجاجات المولوتوف، دون أن ينجح الرصاص الحي والقنابل الحارقة وغيرها من الأسلحة الفتاكة في ردع أهل القطاع، كما هو الحال في الضفة أيضاً، وإن كانت غزة قد أصبحت تمثل “صداعاً” مستمراً للاحتلال.

تحولت غزة إلى شوكة في خاصرة الاحتلال، ليصل الأمر إلى مقولة “أتمنى لو أستيقظ يوماً وأرى غزة وقد ابتلعها البحر”، التي جاءت نصاً على لسان رئيس وزراء إسرائيل الأسبق إسحاق رابين، بينما ترددت كمعنى على لسان أغلب قادة دولة الاحتلال منذ نشأتها وحتى اليوم، وهو ما يمثل تجسيداً لغزة المقاومة للاحتلال.

وعندما تسبب إرئيل شارون، رئيس وزراء دولة الاحتلال الأسبق في إشعال انتفاضة الأقصى عام 2000، عندما تحدى الجميع واقتحم المسجد الأقصى، اضطرته غزة إلى الانسحاب منه تحت وطأة هجمات المقاومة التي لم تتوقف، وكبدت جيش الاحتلال والمستوطنين خسائر بشرية ومادية فادحة، ليصبح القطاع أول أرض فلسطينية تجبر إسرائيل على الانسحاب منها منذ النكبة عام 1948.

طوال سنوات انتفاضة الأقصى لم تتمكن إسرائيل من فرض السيطرة المطلقة على قطاع غزة، ولا حماية المستوطنين في القطاع، لم تنسحب إسرائيل من قطاع غزة عام 2005 تنفيذاً لاتفاقيات كانت قد وقعتها، علماً أن اتفاقيات أوسلو مع السلطة الفلسطينية كانت تنص على الانسحاب من الأراضي المحتلة طبقاً للقرارات الدولية (القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة)، في غضون 5 سنوات فقط، لكنها أُجبرت على الانسحاب منها بفعل المقاومة المسلحة.

الشقاق الفلسطيني وحصار غزة
على المستوى الفلسطيني، أدت الأحداث منذ النكبة وحتى الانسحاب الإسرائيلي من غزة إلى بلورة وجهتي نظر رئيسيتين: الأولى ترفع شعار الواقعية وتتمسك بمسار المفاوضات السلمية مع الاحتلال حتى تحقيق حلم الدولة الفلسطينية المستقلة، وهو المسار الذي تمسكت به السلطة برئاسة محمود عباس.

أما وجهة النظر الثانية فترفع شعار المقاومة المسلحة، وأنها السبيل الوحيد لإجبار إسرائيل على الاعتراف بحقوق الفلسطينيين في وطنهم، وهو المسار الذي تمسكت به فصائل المقاومة، وعلى رأسها حركة المقاومة الإسلامية (حماس). وتسبب هذا الاختلاف فيما حدث في القطاع عام 2006، واستغلته إسرائيل في فرض حصار شامل على غزة ما زال مستمراً.

أصبح قطاع غزة رمزاً للمقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وأصبحت السلطة في الضفة رمزاً لمسار السلام والتفاوض مع إسرائيل، وحظي هذا المسار الأخير بدعم دولي وعربي شبه كامل، فكيف سارت الأمور على المسارين؟

بعد التخلص من ياسر عرفات عن طريق تسميمه، وتولي محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية، وافقت السلطة على أن تتحول إلى “شرطي” للاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتخلي تماماً عن أي شكل من أشكال المقاومة المسلحة، رغم أن ذلك حق قانوني معترف به لأي شعب تحت الاحتلال، في مقابل بعض الامتيازات المادية. أقيمت انتخابات تشريعية في الأراضي الفلسطينية، وفازت بها حركة حماس بأغلبية تؤهلها لتشكيل الحكومة وإدارة السلطة، لكن إسرائيل وداعميها الغربيين رفضوا احترام رغبة الشعب الفلسطيني، ووقع الشقاق بين حركتي فتح وحماس.

سيطرت حماس على غزة، وفرضت إسرائيل حصاراً شاملاً على القطاع منذ عام 2007، ليتحول إلى أكبر سجن مفتوح في العالم، والهدف هو “ترويض” القطاع وساكنيه حتى ينتهي الاحتلال من تهويد القدس بالكامل، وضم الضفة الغربية بالكامل أيضاً، من خلال خطة الاستيطان المستمرة، ومن بعدها الانفراد بغزة بطبيعة الحال.

ولم تكتفِ إسرائيل بالحصار الشامل على غزة، بل شنت من وقت لآخر عمليات عسكرية في القطاع، بعضها كان عبارة عن عمليات اغتيال لقادة المقاومة، والبعض الآخر كان حروباً ومحاولات اقتحام بري، والهدف المعلن هو القضاء على فصائل المقاومة الفلسطينية، وبخاصة حماس.

5 حروب على القطاع
شنَّت إسرائيل الحرب على غزة يوم 27 ديسمبر/كانون الأول 2008، بأهداف معلنة على رأسها “إنهاء حكم حركة حماس في القطاع”، والقضاء على المقاومة بشكل نهائي، ومنعها من قصف إسرائيل بالصواريخ، والوصول إلى مكان “جلعاد شاليط”، أحد أفراد جيش الاحتلال الذي كان مأسوراً لدى المقاومة منذ عام 2006.

استمر القصف الإسرائيلي على القطاع 23 يوماً، واستخدم جيش الاحتلال أسلحة محرمة دولياً، منها الفوسفور الأبيض واليورانيوم المنضب، ودكت غزة بأكثر من ألف طن من المتفجرات. وبدورها ردت المقاومة بإطلاق حوالي 750 صاروخاً استهدفت مستوطنات غلاف غزة، ووصل بعضها إلى أسدود وبئر السبع.

نتج عن هذه الحرب أكثر من 1430 شهيداً فلسطينياً، منهم أكثر من 400 طفل و240 امرأة و134 شرطياً، إضافة إلى أكثر من 5400 جريح، ودمر الاحتلال أكثر من 10 آلاف منزل بين دمار كلي أو جزئي، بينما قتل 13 إسرائيلياً منهم 10 جنود وأصيب 300 آخرون.

لم تحقق إسرائيل أياً من أهدافها من تلك الحرب، فلم تُنهِ حكم حماس في غزة، ولم تدمر القدرات العسكرية للمقاومة، ولم تحرر أسيرها شاليط، وأُجبرت على عقد صفقة لتبادل الأسرى مع المقاومة، وهو ما كانت ترفضه منذ وقوعه في الأسر.

وبعد نحو 3 سنوات فقط، شنَّ الاحتلال حرباً أخرى على القطاع المحاصر، وكان ذلك يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، وكانت مدتها 8 أيام، والهدف منها، بحسب ما أعلن الاحتلال نفسه، هو تدمير المواقع التي تخزن فيها فصائل المقاومة الفلسطينية الصواريخ، بينما بدأت تلك الحرب باغتيال الاحتلال الشهيد أحمد الجعبري، قائد كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس. واستشهد في هذا العدوان نحو 180 فلسطينياً، بينهم 42 طفلاً و11 امرأة، وجرح نحو 1300 آخرين، بينما قتل 20 إسرائيلياً، وأصيب 625 آخرون.

وأطلقت فصائل المقاومة أكثر من 1500 صاروخ، بعضها تجاوز مداه 80 كيلومتراً، وبعضها وصل لأول مرة إلى تل أبيب والقدس المحتلة، كما استهدف بعضها طائرات وبوارج حربية إسرائيلية.

نتنياهو وعدوان 2014 على غزة
في السابع من يوليو/تموز 2014، شنَّت إسرائيل عدواناً آخر على غزة، وصرَّح بنيامين نتنياهو، أطول من بقي في منصب رئيس الوزراء في دولة الاحتلال، أن الهدف هو تدمير شبكة الأنفاق التي شيَّدتها المقاومة تحت الأرض في غزة، والتي كان بعضها يمتد تحت الغلاف الحدودي للقطاع.

استمرت هذه الحرب 51 يوماً، شنَّ خلالها جيش الاحتلال أكثر من 60 ألف غارة على القطاع، ما أدى إلى استشهاد 2322 فلسطينياً وإصابة 11 ألفاً، غالبيتهم الساحقة من المدنيين، وارتكبت إسرائيل خلال تلك الحرب مجازر بحق 144 عائلة فلسطينية، استشهد من كل واحدة منها 3 أفراد على الأقل.

وأطلقت كتائب القسام أكثر من 8 آلاف صاروخ، استهدف بعضها لأول مرة مدن حيفا والقدس، ما تسبب في إيقاف الرحلات في مطار تل أبيب. كما أطلقت المقاومة طائرات مسيرة في المجال الجوي الإسرائيلي، لم تتمكن منظومات دفاع جيش الاحتلال من اكتشافها إلا بعد أن اخترقت العمق الإسرائيلي بأكثر من 30 كيلومتراً.

وحاول جيش الاحتلال تنفيذ اجتياح بري واسع النطاق في القطاع من حي الشجاعية، شرق مدينة غزة، لكن المقاومة تصدت للعدو وكبَّدته خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، حيث قتل 68 جندياً وأصيب أكثر من 700 بجروح، وأسرت المقاومة الجندي شاؤول آرون. ومرة أخرى فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه من العدوان.

معركة سيف القدس
دون سابق إنذار، استيقظ أهالي غزة صباح يوم 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، على دوي انفجار صاروخ أطلقته طائرة إسرائيلية مسيّرة، استهدف قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس، الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في غزة، “بهاء أبو العطا”، في شقته السكنية في حي الشجاعية، شرق مدينة غزة، وأدى إلى استشهاده هو وزوجته. وردّت حركة الجهاد الإسلامي على هذا الاغتيال بعملية استمرت بضعة أيام، أطلقت عليها “معركة صيحة الفجر”، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية. وفي حين تكتمت إسرائيل على خسائرها البشرية والمادية جراء صواريخ المقاومة، أسفرت غاراتها الجوية عن استشهاد 34 فلسطينياً، وجرح أكثر من 100 آخرين، بينهم نشطاء في سرايا القدس، وأعداد كبيرة من المدنيين.

وفي مايو/أيار 2021، اندلعت معركة “سيف القدس”، التي سمتها إسرائيل “حارس الأسوار”، بعد أن استولى مستوطنون على بيوت فلسطينيين مقدسيين في حي الشيخ جراح، وتكرر اقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى.

وخلال الحرب التي استمرت 11 يوماً، أطلقت المقاومة الفلسطينية أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، بعضها تجاوز مداه 250 كيلومتراً، وبعضها استهدف مطار رامون، وأسفرت عن مقتل 12 إسرائيلياً وإصابة نحو 330 آخرين، وفق مصادر إسرائيلية. بينما أسفرت هذه الحرب عن نحو 250 شهيداً فلسطينياً وأكثر من 5 آلاف جريح، كما قصفت إسرائيل عدة أبراج سكنية، وأعلنت تدمير نحو 100 كيلومتر من الأنفاق في غزة. وتوقفت الحرب بالتوصل إلى وقف إطلاق النار بوساطة مصرية، يوم 21 مايو/أيار 2021.

طوفان الأقصى.. معركة البقاء
في تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنّت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد فتح ثغرات في الجدار الحديدي الإسرائيلي، وفي ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.

ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها “في حالة حرب”، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.

إنها عملية “طوفان الأقصى”، الاسم الذي أطلقته “حماس” على العملية العسكرية الشاملة، والتي لم تحدث من فراغ بطبيعة الحال، بعد تجاهل العالم لمأساة أكثر من 2 مليون فلسطيني يعيشون في غزة في ظل كابوس إنساني، حيث تسيطر إسرائيل بشكل كامل على أجواء القطاع وشواطئه وحدوده البرية، بحسب تقرير لموقع Vox الأمريكي، عنوانه “هجوم حماس لم يأتِ من فراغ”.

رصد هذا التقرير كيف أن “طوفان الأقصى” لم تكن سوى الخطوة المنطقية الوحيدة، في ظل الفشل المستمر للتعامل مع الموقف الخطير الذي وضع فيه الاحتلال الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، وقطاع غزة المحاصر، حيث صعَّدت الحكومة اليمينية المتطرفة برئاسة نتنياهو- منذ توليها المسؤولية في تل أبيب أواخر عام 2022- من “الآلام اليومية والوحشية التي يعيش الفلسطينيون في ظلها يومياً بسبب الاحتلال”.

على أية حال، أثبتت المقاومة الفلسطينية، المتمركزة في قطاع غزة، أن القضية لم تمُتْ، وأن الفلسطينيين جميعاً في الداخل المحتل والمحاصر وفي الشتات، لم يستسلموا لأمر واقع، تسعى إسرائيل وداعموها لفرضه منذ 75 عاماً، فقررت إسرائيل، بدعم أمريكي وغربي، أن “تقضي تماماً” على المقاومة الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة، وأعدت العدة لتنفيذ “ما تتمناه”.

بدأ جيش الاحتلال قصفاً همجياً وجنونياً على قطاع غزة بصورة غير مسبوقة، واستهدف الحجر والبشر والشجر حرفياً وليس مجازياً. لم تسلم البيوت والبنايات والأبراج في القطاع الذي يقطنه أكثر من 2.3 مليون فلسطيني، وهو المنطقة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم. لم تسلم المستشفيات وعربات الإسعاف والطواقم الطبية من هذا القصف، وكان قصف المستشفى الأهلي المعمداني، مساء الثلاثاء 17 أكتوبر/تشرين الأول، وقصف مخيم جباليا يوم الثلاثاء 31 أكتوبر/ تشرين الأول، نموذجين صارخين لما يمكن وصفه بأنه “جريمة حرب” متكاملة الأركان ترتكبها إسرائيل دون أي قلق من مساءلة من أحد.

وتم التمهيد لما ترتكبه إسرائيل من جرائم بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، من خلال حملة ممنهجة ومنظمة تشارك فيها العواصم الغربية، وبخاصة واشنطن ولندن وباريس وبرلين، من خلال الترويج للتضليل والأكاذيب الهادفة لتشويه ليس فقط حركة المقاومة الفلسطينية حماس، ولكن أيضاً الفلسطينيين داخل القطاع وخارجه، وحتى العرب جميعاً، باعتبارهم متعاطفين مع ما يصفه الاحتلال وداعموه بأنه “إرهاب”.

استدعت إسرائيل 360 ألفاً من الاحتياطي، ودفعت بدباباتها ومدرعاتها إلى غلاف القطاع لتبدأ الدخول إليه برياً، مع استمرار القصف الجنوني و”الحصار المطبق” وقطع الماء والكهرباء والوقود وأي سبيل من سبل الإعاشة، في “عقاب جماعي” صريح ومعلن، وارتفع عدد الشهداء في القطاع لأكثر من 5 آلاف، وآلاف أخرى من المصابين، أغلبيتهم الساحقة من المدنيين، في تحدٍّ صارخ لجميع القوانين والأعراف الدولية والإنسانية والأخلاقية.

لكن حتى الآن، يبدي القطاع والمقاومة صموداً كبيراً في وجه آلة الحرب الإسرائيلية، بل إن كتائب القسام، الذراع العسكري لحركة حماس، أعلنت عن تكبيد الاحتلال خسائر فادحة بينها 22 مدرعة، فيما اعترف الجانب الإسرائيلي بمقتل 11 من جنوده حتى لحظة كتابة هذا التقرير.

لا أحد يمكنه التنبؤ بما قد تنتهي إليه الأمور في هذه الحرب، فإسرائيل التي تعرَّض جيشها وسمعتها العسكرية والأمنية التي تتفاخر بها وتروج لها في المنطقة وحول العالم، تعرضت لإذلال غير مسبوق على أيدي المقاومة، وتسعى الآن لإنهائها، وإنهاء القضية الفلسطينية، لكن المؤكد هو أن هذه “الأمنية” الإسرائيلية ينطبق عليها المثل الإنجليزي “Easier Said Than Done”، أي الكلام أسهل كثيراً من الأفعال.

لكن في جميع الأحوال، ورغم الدماء الغزيرة التي تسفكها آلة القصف الإسرائيلية في غزة على مدار الساعة، لمدة أكثر من أسبوعين، لا يبدو أنها تفت في عضد الغزاويين جميعاً، مدنيين ومقاومة، وهو ما قد يكون السبب الأهم وراء خشية الاحتلال من محاولة اجتياح القطاع برياً، وفي النهاية ستظل غزة صامدةً وباقيةً كما فعلت على الدوام!

.
عربي بوست

Exit mobile version