د. عبدالله الغيلاني
قوة قتالية قوامها نحو أربعين ألف مجاهد، شحيحة الموارد، ضعيفة التسليح ، تعمل في ظروف أمنية و سياسية بالغة العسر ، شديدة الحرج ، قد أطبق العالم الرسمي على إستئصال شأفتها و ملاحقتها حتى الاجتثاث. و في ذروة شدتها تلك تقدم على مبادرة عسكرية إخترقت تحصينات إسرائيل و أصابتها في مقتل لم تتعافى منها حتى اللحظة.
و الحق أن غزوة السابع من أكتوبر لم تثخن في إسرائيل فحسب ، بل أثخنت في كل داعميها من العرب و العجم ، فهي المعركة الأولى في تاريخ الصراع الراهن مع اليهود التي تشكل حداً فاصلاً بين حقبتين و مرحلتين لكل منهما خصائصه و سماته و استحقاقاته.
ما تقدم هو توصيف موضوعي لحالة قائمة و أنموذج حي نرى أداءه رأي العين و نتابع فاعليته القتالية و السياسية لحظة بلحظة !! نحن أمام أنموذج خليق بالدراسة و التحليل بغية الوصول إلى أصول النشأة التي أنتجت أنموذجاً بهذا القدر من الفاعلية و المكنة الاستراتيجية رغم وعورة المسالك و كثرة المهالك.
عند البحث عن “أنموذج مرجعي” (Benchmark) للقياس عليه و ضبط وجوه التماثل و التباين ، لم أجد في النماذج المعاصرة (في نطاق ما أحطت به علما) ما يناظر كتائب القسام من حيث أصول المنشأ و عناصر التكوين و طرائق الأداء. و لعل تفرد الأنموذج القسامي يعزى إلى خمسة أصول شكلت في مجملها معالم طريق ضبطت المسارات وحددت المقاصد و عصمت الخيارات الاستراتيجية من آفتي الطيش و الخور و وفرت للعقل التخطيطي (السياسي و العسكري) زاداً معرفياً و مكنته من الاستبصار و تقدير المآلات:
- المرجعية الفكرية : المستمدة من نصوص الوحي بما اشتملت عليه تلك النصوص من ثوابت التوحيد و نواميس التدافع و قطعيات العقيدة و منهجيات التعاطي مع النوازل. هذه المرجعية هي التي شكلت رؤية الحركة الكونية و عصمتها من التردي في منحدرات أوسلو و أمدّتها بشحنة من اليقين و الإستعلاء الإيماني و حفظت هويتها العقائدية من التخليط و صانت منهجها من الزيغ.
- البناء الإيماني: يظهر جلياً أن المقاتل القسامي يعبر محطات متتالية من الإعداد الروحي و الترقي الإيمانيّ، حتى يتجرد لفكرته و يصفو لرسالته، فلا تتزاحم في نفسه النوازع و لا تشده جواذب الأرض . و بهذا الإعداد التربوي الكثيف تعلو كفة المجاهد المؤمن و تسمو تطلعاته فلا يهن و لا يضعف و لا يستكين و إن أصابه شيئ من المكاره ، فزاده الإيمانيّ لا يزال يمده بطاقة روحية متوثبة و إقدام لا يعرف الإحجام ، إلا محترفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة.
- الرؤية السياسية: لا ينفصل العمل العسكري عن الرؤية السياسية ، بل هو خاضع لها دائر في مداراتها. و رؤية الحركة السياسية بأفقها الاستراتيجي البعيد و ديناميكيتها التكتيكية المرنة توفر للجهد القتالي مساحة للحركة و تحدد له مديات التوغل و تضع له معالم السير.
- التفوق النوعي: ليس متاحاً لكل أحد أن يلتحق بالكتائب ، فمعايير الإختيار صارمة و شروط الإستيعاب محكمة . و أول المعايير حيازة ملكات فطرية تستجيب لشروط القبول من أصالة معدن و صفاء سريرة و ذكاء عقل إنضباط حركة و ثبات جنان و غير ذلك مما يتفرد به الأفذاذ و يحوزه النابهون. و قد ولّد ذلك المنهج تفوقاً نوعياً تجلت آثاره في الأداء الميداني . فالأقدام و الثبات إنما يعكسان جودة العنصر البشري الذي فاق عدوه صبراً و جسارة.،
- بوصلة مشروع التحرير: بات واضحاً أن خيارات الكتائب الإستراتيجية محكومة بمؤشرات مشروع التحرير . و ترجمة ذلك أن الخيارات العسكرية يجري تداولها وفقاً لمقتضيات الرؤية التحريرية الكلية و ليس نبعاً لإملاءات المعطيات الجزئية المتغيرة. و أحسب أن معركة السابع من أكتوبر، رغم إرتباطها بحماية الأقصى و تحرير الأسرى و رفع الحصار عن غزة، جاءت وفق حسابات جيوستراتيجية أبعد من مهيجاتها المباشرة الآنفة الذكر. و هذا الأصل ( أي الإحتكام إلى الرؤية التحريرية الكلية) يجري على خيارات الحركة السياسية أيضاً، و عنه تنبثق قراراتها المرحلية و به تنضبط مقارباتها .
ما تقدم هو إستخلاصات مركزة ، و إلا فإن تحليل أنموذج القسام يستغرق مساحة أوسع من المتاح في هذه المنصة. و خاتمة القول أن المتهج بإصوله الخمسة هذه هو سر تمكين الحركة و إكسابها تفوقاً نوعيا على المستويين العسكري و السياسي .

فقاعة الذكاء الصناعي: هل يعيش العالم وهماً رقمياً جديداً؟
ماذا يعني انضمام سوريا إلى التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة؟
الاتهامات الحوثية للسعودية بإدارة خلايا تجسسية.. تحليل الأبعاد السياسية والدوافع الخفية
مهزلة في المؤتمر القومي العربي