عن منشورات مرفأ في بيروت، صدر حديثاً “كتاب الوصايا – شهادات مبدعات ومبدعين من غزّة في مواجهة الموت (2024)”.
الكتاب فكرة وتحرير الشاعرة والمترجمة الفلسطينية ريم غنايم وتقديم ألبيرتو مانغويل وجوديت بتلر. تقوم فكرته، الذي أطلقته وحررته ريم غنايم، على رصد حركة الحياة والموت وحبل الكتابة بينهما في مرحلة مفصليّة في التاريخ الفلسطينيّ الحديث: الحرب على غزّة.
يقدّم كتّاب وكاتبات من غزة، من مختلف الأعمار، وصاياهم – شهاداتهم في لحظات مصيريّة تفصل بين صمودهم وموتهم تحت الأنقاض.
للوصيّة هنا مدلولات ومعان لا يمكن أن يصفها المرء إلا من خلال فعل الكتابة نفسه وهي تنوجد على حافة الموت. الوصيّة، في ظلّ حرب شرسة يواجهها المكان وأهله، في لحظة فلسطينية راهنة مصيريّة، وفي وقت تغلب فيه ترسانة الحرب، يتصوّر لنا فيها مشهدٌ عبثيّ يواجه فيه الإله أبولو الإلهة آريس: الشّعر والإلهام يقاوم الوحش الدمويّ، وتنحشر فيه آلهة الإلهام فجأة في تارتاروس كعقابٍ جماعيّ عليهم فيه أن يواصلوا الصّمود وأن يهبوا للكلمات حياةً من تحت الأرض.
هكذا نجد أصواتًا متشكّلة متعدّدة لكتّاب وكاتبات من غزّة، منهم من نجا بحياته وخرج من المكان المردم، ومنهم من نجا وظلّ يتنفّس وسط الركام، ومنهم من لم ينجُ فكتبَ الوصيّة وغادر العالم.
خليطٌ من أصواتٍ هذا الكتاب، وصايا تتضمّن غضبًا، وتعلنُ براءة، وتصرخُ في يأسٍ، وأخرى لا تزال تتشبّث بخيط الأمل، أو أذعنت في سلامٍ لموتها القادم، أو أذعنت لأملٍ قد لا يأتي. كتّابٌ وكاتبات يبتكرون رؤى داخل وصايا هي أشبه بوثيقة أدبيّة تكتب حكاية المكان لحظة الهجوم عليه، ومعها لوحاتٌ تلوّنُ هذه الحكاية الفلسطينيّة بريشة الفنانة الراحلة هبة زقّوت التي ارتقت مع طفلها في إحدى الغارات في تشرين الثاني عام 2023.
يقدّم الكاتب الأرجنتيني الكندي ألبرتو مانغويل هذا الكتاب تحت عنوان “بيانٌ ضدّ الموت”، ويحاول تحليل ثيمة العنف ومواجهة الضحيّة مأساتها فيقول:
“إن المأساة الكبرى التي يعيشها الشعب الفلسطيني، لا يمكنُ وصفها بالكلمات. وحدهم الضحايا يمتلكون القدرة على نقل الظروف التي يعيشونها إلى من يشهدون هذه المأساة. ولكن حتى في تلك الحالة، حتى بلسان المتألمين، تخفق اللغة. تخفق لأنها في جوهرها محاولتنا العقيمة لإضفاء معنى على العالم، لرؤية عالمنا المربك هذا من خلال المنطق. لكن في الكوارث، كتلك الحاصلة في غزة، تقع الأحداث المأسوية خارج أي سبب منطقيّ يمكن تصوره”.
وفي مقدّمة أخرى تلي مقدمة مانغويل والتي تحمل عنوان “بين الأحياء والأموات” تواصل الكاتبة والناقدة الأميركية جوديث بتلر:
“ما هي الوصية الأخيرة؟ إنها آخر ما تبقّى من رغبةٍ وأمل. ما هي الشهادة؟ إنها تمنحنا شذرات من حياة لا تزال على قيد الحياة، بينما تسبر غور مستقبل حياة لم تعد على قيد الحياة. تسأل الوصية عما تبقى من الرغبة في مواجهة هذه الوحشية، وهذا الدمار الشامل. حتى في الوقت الذي لا يبقى شيء يمكن تقديمه، تظل الوصية بمثابة فعل كتابة، وتنقل الكلمات التي تحمل آثار حياة زائلة وأخرى قادمة، كلمات تم جمعها قسرًا للإسرار على أواصر التضامن بين الأحياء والأموات”.
وتكتب في تظهير الكتاب، محررة الكتاب وصاحبة الفكرة، الفلسطينية ريم غنايم:
” تُهندسُ هذه الوصايا والشهادات شعريّة جديدة وتقبضُ على المعنى مرّة وتفلته مرّات، وتمنح للمشهد الأدبيّ الفلسطينيّ عمومًا، التفكير في العلاقة مع اللغة والكتابة بين الصّمت والصّوت، ومدلولات المعنى الكامن فيهما بما يتجاوزهما أيضًا”.
أسئلة كثيرة تطرحها هذه النصوص على القارئ، أسئلة ترتبط بمعنى الكتابة لحظة الموت، وكيف تتحول الكلمات إلى مواجهة حقيقيّة جمعيّة تمنح الضحيّة سلطة الاكتمال والمقولة الأخيرة والموقف الأخير.
المصدر: النهار العربي