ثقافة وفكر

كتب: “المحتوم.. علم الحياة بلا إرادة حرة”: مهلًا! أنت لا تشتري القهوة بإرادتك

هناك من يرى أن نقرة الرابط التي انتهت بك وأنت تقرأ هذه الكلمات لم تكن نقرتك أنت. أنت لم تنقر ذلك الرابط بملء إرادتك، ولا تقرأ هذه الكلمات بإرادتك الحرة، لكن ثمة من أملى عليك هذا القرار الذي يبدو لك قرارك الشخصي الحر. وليس من يرون هذا الرأي دائماً متدينين سيماهم على وجوههم وإيمانهم بالمكتوب منذ الأزل راسخ في قلوبهم، لكنهم أحياناً يكونون علماء يرون أن من يملي عليك أفعالك ليس كياناً متعيناً، وإنما هو سلسلة أحداث بدايتها الانفجار الكبير. فتخيل أن يكون الانفجار الكبير، وما أعقبه من نشوء وارتقاء، وبقاء للأقوى أو الأصلح، وانقراض سلالات ونجاة أخرى، وقيام حضارات وانهيارها، وغير ذلك كثير وكثير، ناهيك بطفولتك وجيناتك، هي التي نابت عنك في نقر ذلك الرابط. ألا يكون هذا تجهيزاً أطول مما ينبغي لعمل علينا أنا وأنت أن نقبل أنه ليس على هذا القدر من الأهمية؟

قد تكون قراءتك لهذه السطور أمراً بسيطاً بالفعل، لكن، أهو أمر قليل الأهمية حقاً أن تكتشف أنك عديم الإرادة، أو بعبارة أخرى دمية لم تعرف الحرية قط؟ ذلك ما يقوله روبرت سابولسكي، أستاذ علمي الأحياء والأعصاب بجامعة ستانفورد، الحاصل على منحة العبقرية من مؤسسة ماك آرثر، الذي قضى عقوداً في العمل عالماً متخصصاً في الرئيسيات قبل أن يتجه إلى علم الأعصاب، ومخصصاً أغلب حياته المهنية لبحث السلوك في مملكة الحيوان والكتابة عنه في كتب منها “التصرف: بيولوجيا البشر في أفضل حالاتنا وأسوئها”.

المحتوم

صدر حديثاً لروبرت سابولسكي كتاب “المحتوم: علم الحياة بلا إرادة حرة” في قرابة 530 صفحة عن دار بنغوين. وفيه يواجه ـ بتعبير هوب ريس (نيويورك تايمز – 16 أكتوبر 2023) الحجج البيولوجية والفلسفية القائلة بالإرادة الحرة ويدحضها، مؤكداً أننا لسنا فاعلين أحراراً، لكن البيولوجيا والهرمونات والطفولة وظروف الحياة تتعاضد لتنتج أفعالنا التي نشعر، محض شعور لا أكثر، بأنها من اختيارنا.

يعترف سابولسكي أن زعمه هذا مستفز، لكنه راض بأن يبدأ قراؤه في مساءلة اعتقادهم الراسخ. ويقول إن التخلص من الإرادة الحرة “يضرب في مقتل إحساسنا بهويتنا واستقلالنا الذاتي ومصدر توليدنا للمعنى” وهذا ما يجعل من الصعب زعزعة هذه القناعة.

يعرف سابولسكي ما يترتب على زعمه هذا من آثار هائلة: فغياب الإرادة الحرة لا يجعل أحداً مسؤولاً عن سلوكه، خيراً كان أم شراً. وهذا ما يراه “تحريراً” لأغلب الناس ممن يتقبلون أن تكون الحياة بالنسبة لهم “لوماً، وعقاباً، وحرماناً، وتجاهلاً، بسبب أمور ليست لهم سيطرة عليها”.

يكتب أوليفر بوركمان (غارديان 24 أكتوبر2023) أن الناس عندما يصادفون للمرة الأولى الجدال الفلسفي المتعلق بمسألة الإرادة الحرة، فإن هذا الجدل قادر على أن يعصف بعقولهم عصفاً.

“في وقت مبكر من الأسبوع الحالي، على سبيل المثال، وأنا مار بمقهى، توقفت لشراء القهوة، وشعرت يقيناً أنني كان يمكن أن أختار غير ذلك. فلم يدفعني أحد إلى ذلك بفوهة بندقية، ولست عبداً للإدمان الطاغي على الكافيين. كل ما هنالك أنني أردت قهوة”.

“لكن مهلاً: تلك الرغبة، وتلك الحركات الجسدية المرتبطة بالشراء، تسببت فيها أحداث داخل مخي. وما الذي تسبب في أحداث مخي؟ أحداث مخية أسبق، بالتفاعل مع بيئتي. مخي نفسه، في هذا الصدد، إنما هو على حاله الراهن بسبب جيناتي وتربيتي، وكلاهما نشأ عن مصادفة التقاء أبوي، وهكذا دواليك دواليك، في سلسلة لا انفصام لها من الأسباب ترجع حتى الانفجار الكبير”.

“لو أن أفعالنا “محتومة” على هذا النحو، فالآثار الأخلاقية المترتبة على ذلك مذهلة. يصبح من الصعب أن نجد سبيلاً إلى لوم فلاديمير بوتين أو دونالد ترمب ـ على أي شيء يفعلانه. فلو أنني ولدت بمثل جينات أحدهما بالضبط، وتلقيت مثل تربيته، لصرت إياه ببساطة، فما من ركن سري في ذاتي تقبع فيه (إرادة حرة) شبحية، قادرة على اتخاذ قرارات أفضل”.

“ربما لأن إنكار الإرادة الحرة مخالف تماماً للبديهة ـ والحديث عن أشباح داخلية يفتقر بوضوح إلى العلمية ـ فإن غالبية الفلاسفة “توافقيون” في هذا الأمر. فهم يعتقدون أن أفعالنا محتومة لكن لدينا إرادة حرة على رغم ذلك، لكن التوافقيين محقون في شيء: لو أنك تريد قهوة، ولا يحول دون حصولك عليها شيء ـ بمعنى أن بوسعك تدبير ثمنها، وأن المقهى مفتوح، وما إلى ذلك- فبأي معنى لا يكون شراؤك لها عمل إرادة حرة؟ ألأنك لم تختر أن تريد القهوة في المقام الأول؟ لكن لتحقيق هذا التعريف للحرية، يجب أن تكون حراً في ألا تريد ما تريد، وهي فكرة بالغة الغرابة”.

“ينطلق أستاذ العلوم السلوكية الشهير روبرت سابولسكي في كتابه (المحتوم) إلى هذه الأرض الزلقة بهدف القضاء على الإرادة الحرة مرة وإلى الأبد، وليبين أن مواجهة عدم وجودها لا ينبغي أن يكون حكماً علينا باللاأخلاقية أو اليأس. يتبع روبرت سابولسكي استراتيجية بالغة الطموح، وهي أنه يتتبع كل رابط في السلسلة السببية المعهودة الكامنة وراء كل سلوك بشري، ابتداء بما يجري في المخ خلال الثواني الأخيرة قبل قيامنا بسلوك ما، رجوعاً على طول الطريق إلى حيث تتشكل أدمغتنا بأولى تجاربنا، بل وبما قبل ذلك، في مستوى دقيق للغاية هو مستوى الناقلات العصبية والجينات”.

“وعلى طول الطريق يطرح حججاً حماسية ضد أفكار من قبيل (العزيمة) التي ترى أن من ينشأون في أوضاع تضغط على قوة إرادتهم يختارون تنمية قوة الإرادة في أنفسهم. نعم، هناك من “يقهرون الحظ السيئ بالمثابرة والعزيمة المذهلتين” لكن قدرتهم على المثابرة والعزيمة هي أيضاً منحة منحها لهم الحظ. فكل شيء حظ، حتى امتلاكك من عدمه للسمات الشخصية المناسبة للتعامل مع سوء الحظ. فـ(الحظ) بتعبير المتشكك في الإرادة الحرة غالين ستراوسن (يبتلع كل ما عداه)”.

يقر أوليفر بوركمان لكتاب “المحتوم” بأن فيه “أداء عظيماً” وأنه “يستحق القراءة لما تقدمه مرافقة سابولسكي من متعة عميقة”، لكنه يتشكك في تأثير الكتاب بقوله إن تعداد أسباب السلوك البشري قد لا يغير رأي أحد في الإرادة الحرة. لأن “معظم منكري الإرادة الحرة لا يقيمون حجتهم، في النهاية، على نتائج علمية محددة، وذلك لأنه لو أن السبب في وضع العالم الراهن هو مجمل الوضع الذي كان عليه العالم من قبل، وأن سبب العالم السابق كان العالم الأسبق، وهكذا، فلا قيمة تذكر للتفاصيل الدقيقة الخاصة بالسبب المعين للنتيجة المعينة”.سئل سابولسكي في حوار (نيوساينتيست- 18 أكتوبر 2023) عما حدا به وقد قضى سنين في دراسة قردة البابون البرية، ثم برز في علم الأعصاب، أن يقرر دراسة الإرادة الحرة وهي أقرب إلى الفلسفة. “هل من حادثة معينة حرضته؟ أو دافع إلى ذلك؟ فقال سابولسكي “نعم. لما بلغت الـ14 من العمر، مررت بتجربة وجودية مثيرة، وذات ليلة استيقظت في الثانية صباحاً وأنا أقول “أها، فهمت. لا إله. ولا غرض. ولا إرادة حرة. وهكذا مضى الأمر منذ ذلك الحين”.

يبدو لي شيء من التناقض هنا: كيف تظل تتبع الأسباب، في سلسلة تبلغ الانفجار الكبير، ثم تتوقف عن تتبع الأسباب؟ لماذا لا تستمر إلى ما لا نهاية، أو بالأحرى، ما لا بداية؟ لماذا تتوقف قبل الوصول إلى “الإله”؟

لو صدقنا أنه ما من إرادة حرة، فهو لم يتوقف، بل أوقف، وقع حدث في مخه قبل ثانية من توقفه، وقبل ساعة، وقبل ملايين السنين، فكان محتوماً أن يتوقف، لأن “الله يهدي من يشاء” و”يضل من يشاء”. وعلى مثل هذا الضرب من التفكير نشأت في تاريخ المسلمين فرق، وفيها أريق دم وحبر كثيران. غير أننا، بعيداً من الجبر والاختيار، والجبرية والمعتزلة، نبقى مع روبرت سابولسكي، أحد أكثر العلماء الأميركيين احتراماً الآن إذ يكتب قائلاً “ما نحن إلا محصلة لما لا سيطرة لنا عليه: البيولوجيا والبيئة والتفاعلات القائمة في ما بينها”.

لم يكتف سابولسكي بحكمة الصبي ذي الـ14 ربيعاً، فمضى في إجابته عن سؤال الدافع إلى دراسة الإرادة الحرة قائلاً “منذ خمس سنوات، نشرت كتابي عن سلوك البشر وألقيت منذ ذلك الحين كثيراً من المحاضرات في الموضوع العام، فكنت أقضي زهاء ساعة في الحديث إلى الناس عن أحداث الثانية السابقة على القيام بسلوك معين، والدقيقة السابقة، والساعة، وآلاف السنين وكل ما فيها من تأثيرات مختلفة، ثم يظهر شخص من الجمهور في فقرة الأسئلة ليقول شيئاً من قبيل (كل هذا الكلام يحملني بشكل ما على أن أتساءل عن الإرادة الحرة). فوجدت أنني بحاجة إلى تأليف شيء عن السخافة المطلقة والإفلاس التام لفكرة الإرادة الحرة قياساً إلى كل العلوم ذات الصلة”.

ماذا عن الإرادة الحرة؟

نقل كورني بورتل (لوس أنجليس تايمز-17 أكتوبر 2023) عن سابولسكي قوله “إن العالم في فوضى حقيقية، ويزداد ظلماً بكوننا نكافئ الناس ونعاقبهم على أمور لا سيطرة لهم عليها. فليست لدينا إرادة حرة. وكفوا عن أن تنسبوا إلينا ما ليس فينا”.

وتعلق قائلة إن “أغلب علماء الأعصاب يعتقدون أن للبشر على الأقل درجة ما من الإرادة الحرة. وكذلك أغلب الفلاسفة والغالبية الكاسحة من العوام. والإرادة الحرة جوهرية في كيفية رؤيتنا لأنفسنا، وتغذية رضانا عن منجزاتنا أو خجلنا من فشلنا في القيام بالصواب، لكن سابولسكي يقول إن تحليل السلوك الإنساني عبر منظور أي منهج أحادي يترك مجالاً لإمكانية القول إن البشر يختارون أفعالهم، أما هو فيشعر بعد مسيرة مهنية عابرة للمناهج والعلوم أنه من التزييف الفكري كتابة أي شيء مخالف لما يعده النتيجة التي لا مفر منها وهي أن حرية الإرادة أسطورة، وكلما سارعنا بقبول ذلك، ازداد مجتمعنا عدلاً. فلو أنه مستحيل على أي مخ مفرد أن يعمل دونما تأثر بعوامل لا سيطرة له عليها، فلا يمكن أن يوجد مجال منطقي للإرادة الحرة”.

تكتب كورني بورتل ـ وهي المحررة الطبية في “لوس أنجليس تايمز” التي كتبت طويلاً في السلوك الإنساني لمجلات كثيرة مرموقة ـ “إننا نعلم أننا نتخذ قرارات أسوأ ونحن جياع أو متوترون أو خائفون. نعرف أن تركيبتنا الجسمانية متأثرة بالجينات الموروثة عن أسلاف نائين وعن صحة أمهاتنا في أثناء الحمل، وما أكثر الأدلة التي تشير إلى أن من نشأوا في بيوت الفوضى والحرمان يرون العالم رؤية مختلفة ويتخذون قرارات مغايرة لقرارات من نشأوا في بيئات الأمن والاستقرار والثراء. فكثير من الأمور المهمة خارجة عن سيطرتنا”.

وتستدرك “لكن دراسة أجريت عام 2008 وكثر الاستشهاد بها، تبينت أن من قرأوا فقرات ترفض فكرة الإرادة الحرة كانوا أرجح احتمالاً للغش في امتحان أعقب تلك القراءة. وثمة دراسات أخرى أثبتت أن من يشعرون أنهم أقل سيطرة على أفعالهم يكونون أقل مبالاة بارتكاب الأخطاء في عملهم، وأن عدم الإيمان بالإرادة الحرة يفضي إلى قدر أكبر من العدوان وقدر أقل من الأمل”.

فهل هذه الدراسة العلمية دعوة إلى عدم قراءة كتاب سابولسكي هذا، بل كل ما ينفي الإرادة الحرة؟ أهي دعوة إلى الجهل، أو تقسيم المعرفة إلى ضار ونافع؟ ليس هذا ما أفهمه أنا على الأقل، ذلك أن ما يلفت نظري في الفقرة السابقة هو الإشارة إلى الإيمان، ولو في غيابه.

ليس مطلوباً من العلماء أن ينظروا في ما بين أيديهم من أدلة ثم يختلقوا منها ما الأنسب للمجتمع، وإلا فما هذا بعلم، بل لون من البروباغندا المقيتة التي يبرع فيها غير العلماء. إنما يكتمل جهد العلم بجهود الفلاسفة وعلماء الأديان والمفكرين، والقراء أنفسهم، ممن يجب أن يطالعوا نتاج أولئك جميعاً ضمن سياق أكبر. ولذلك تلفت نظري مفردة الإيمان. فلماذا يستبعد تأثيره ضمن ملايين المؤثرات التي تسبب السلوك البشري؟ لماذا لا يكون إيمان الشخص بأنه ذو إرادة حرة عاملاً محفزاً للإرادة الحرة، أو عاملاً مثبطاً لكل عناصر الحتمية البيولوجية وكل الحتميات؟ لماذا لا يكون الإيمان بالإرادة الحرة جداراً على الجينات إما أن تعبره لتؤثر في أفعالنا، أو تعجز عن عبوره فيمتنع تأثيرها، وليس الجينات فقط، هناك أيضاً العصبونات، والتنشئة، والبيئة، والانفجار الكبير الذي قد يكون إيمان أحدنا أكبر منه.

ربما لا يكون في ركن خفي منا كيان شبحي اسمه الإرادة الحرة، لكن لعل في هذا الركن من أنفسنا فكرة، أو إيمان بأن أعناقنا مربوطة بحبل، لكن هذا الحبل، لعلة ما، ولفترة ما، ملقى على غاربنا، وليس طرفه في يد غير أيدينا.

*INDEPENDENT

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى