ثقافة وفكر
أخر الأخبار

جيل التقسيط: كيف أُغرينا بالاستهلاك حتى الإفلاس؟

عماد الدين عويس

منذ لحظة انفصال قيمه عن واقعه، وتصرفاته عن معتقداته، وطغيان رغباته على حاجاته، والمسلم المعاصر حائر يتخبط في عالم الاقتصاد الرأسمالي المتوحش ينهش إيمانه ويهدر ثرواته وطاقاته. للقصة تاريخ طويل لا يتسع لها مقالنا، تركيزنا هنا على كارثة الاستهلاك عبر التقسيط التي استفحلت اليوم وتنذر بتفجير ما تبقى من شبكة علاقاته الممسكة لبقائه حيًا.

طالت ظاهرة “الاستهلاك عبر التقسيط” كل شيء مادي ومعنوي بدءًا من السكن مرورًا بالأدوات المنزلية والشخصية ووسائل الترفيه حتى الكنافة المحشوة ولم تترك العمرة ولا الحج، حتى صارت من أخطر  أنواع الغزو الاقتصادي الثقافي ما ابتلي به المجتمع العربي.

فكل السلع والخدمات أصبح شراؤها متاحًا بالتقسيط. وعروض التقسيط تلاحق أبناء المجتمع؛ خاصة الشباب، في كل مكان وفضاء وإعلان، عارضة عليهم اقتناء كل ما يرغبون فيه ولا يقدرون على دفع ثمنه في الحال من خلال نظام التقسيط. ولا توفر وسائل الإعلام الاجتماعية لحظة دون أن تبث الرغبة الاستهلاكية في أبناء المجتمع مذكرة إياهم أن المتعة أقرب إليهم مما يظنون، ولا تحتاج سوى ضغطة زر أو زيارة مول تجاري، وتوقيع عقد التقسيط، والاستمتاع الفوري بكل ما يرغبونه اليوم ويدفعون ثمنه في الغد المأمول.

مفهوم الاستهلاك بين الثقافة الإسلامية والغربية:

في العربية يشتق الاستهلاك من مادة هلك: أي فني ومات. ويقال: هلكه وأهلكه: أي جعله يهلك. واستهلكه بمعنى أهلكه. واستهلك المال: أنفقه وأنفده وأَهلكه. فيكون أهلك ماله: أي فرّط فيه وأتلفه. وفي القرآن المجيد: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا} [البلد: 6].

وفي اللغة الإنجليزية تشتق كلمة “to consumption” من الفعل اللاتيني consumere، والذي يعني “الاستيلاء أو الاستيلاء بالكامل”، ويشمل ذلك بالتبعية: “الأكل، الالتهام، الإهدار، التدمير، أو الإنفاق”. وقد ظهرت كلمة “الاستهلاك” لأول مرة في اللغة الإنجليزية في القرن الرابع عشر ـ وكانت دلالاتها سلبية في أغلب الأحيان. فاستهلاك شيء ما يعني تدميره، أو إحراقه، أو تبديده. وكان الاستهلاك بالمعنى المألوف الآن للأكل أو الشرب أو التمتع بخدمة معنوية مثل مشاهدة فيلم أو التسكع في مول، في البداية، معنىً ثانويًا إلى حد كبير.

وفي الاصطلاح الحديث يعني الاستهلاك إنفاق جزء من الدخل بغرض استعمال سلعة أو خدمة بهدف إشباع حاجة عند الإنسان بشكل لحظي (تناول وجبة، مشاهدة فيلم)، أو لمدة محددة (شراء غسالة أو حذاء أو تليفون محمول، عمل عمرة). فالاستهلاك هو الجزء الذي يُنفق من الدخل في اقتناء السلع والخدمات من أجل إشباع حاجات معينة مادية أو معنوية.

الرأسمالية وعقيدة الاستهلاك الهدري:

في عصرنا الراهن وجدنا الرأسمالية الجشعة القائمة على الهدر تحفز البشر دائمًا على استهلاك منتجاتها التي لا تتوقف مصانعها ومعاملها عن إنتاجها بغرض الربح؛ والربح فقط، حتى جعلت غالبية أبناء آدم؛ الفقراء قبل الأغنياء، ينظمون حياتهم حول السعي وراء “استهلاك السلع الاستهلاكية”، والتي بحكم طبيعتها غالبًا ما تكون سلع غير ضرورية، من خلال جعلها أشياء مرغوبة بمعنى ما، وذلك باستخدام وسائل الإغراء واللعب على جوانب الشهوة والرغبة في الإنسان حتى تخضع لأهواء الموضة الزائفة والزائلة والمتجددة دون حدود.

حتى وجدنا الأجيال المتأخرة من البشر؛ خلال العقود الماضية، تسعى إلى السعادة وتحقيق الذات من خلال امتلاك عدد غير منطقي من المنتجات. وحتى صارت أفعالنا الاستهلاكية تشبه طقوس العبادة التي نقيمها دون تفكير من شدة إيماننا بها.

الإعلان والاستهلاك الهدري

ثقافة الاستهلاك / الاستهلاكية

يمثل الإعلان المتوسل بالإعلام قمة الإهدار الرأسمالي للبشر والموارد، ولكنه إهدار متأصل في الرأسمالية المتوحشة التي لا تعرف سوى الربح. وتستخدم الرأسمالية المتوحشة كل أساليب الإغراء الممكنة وتسخر العلم الطبيعي والاجتماعي والفنون كأسلحة فتاكة للوصول لأهدافها تلك عبر الإعلام والإعلان.

فالمسلسلات والأفلام وبرامج التوك شو الاجتماعية بما تناقشه من قضايا وما تطرحه من أنماط حياة متكاملة وضعت عملية الشراء داخل التجربة الاجتماعية للفرد والأسرة: وقدمت شخصياتها للمشاهدين نموذجًا لكيفية الحصول على المتعة من خلال الاستهلاك. حتى وجدنا الجميع؛ الأثرياء بمختلف مهنهم ووظائفهم، والعمال الفقراء ومتوسطي الحال بتنويعاتهم المهنية والوظيفية المختلفة، يتفقون معًا في أغلب متع الحياة من خلال الاستهلاك.

فالإعلانات التي صارت جزءًا من الإعلام وفقرة لصيقة بالأعمال الفنية تتوسل بالفن لتوصيل رسالتها: توحد الجميع وتبيعهم جميعًا منتجات زائلة لا يحتاجون إلى غالبها. فمن خلال سيل الإعلانات المنتشرة في مراكز التسوق المعاصرة التي يتسكعون فيها ليل نهار، أو التي تطاردهم عبر الفضائيات أو التليفونات كل لحظة أو الإعلانات في الشوارع، أو في البيوت وهم يتحلقون حول الشاشات يستهلكون ما تشربهم به من قيم ورغبات وتوجهات، يتم تزيين الاستهلاك ويتشربه القلب وتتشهّاه النفس وتتلهف عليه الجوارح بعد أن تتشوف العين المتقلبة على الدوام بين الإعلان والإعلام في كل مكان وزمان وتمد نظرها إليه مطالبة به كما يقول القرآن: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]

فإذا كان الغني يمكنه أن يحصل على بيت يزدحم بكافة أنواع الكماليات، فالفقير أيضًا يمكنه ذلك؛ سواء بمنتجات شبيهة لها أو تقلدها إذا كان لديه من النقود ما يكفي لذلك، فإن لم يكن لديه النقود اليوم، يمكنه بسهولة أن يشتريها بالتقسيط ويدفع على فترة أطول من دخله المنتظر في المستقبل.

التقسيط.. غذاء وحش الرأسمالية:

في عصر الإنتاج الكبير الذي لا يتوقف، ومع طغيان الرأسمالية الهدرية التي لا تشبع من الربح كان ولا بد من اختراع كل السبل التي تغرق البشر في عملية الاستهلاك حتى لا يجدوا لحظة واحدة للتفكير فيما يفعلونه ومآلاته على حياتهم وأمانهم واستقرارهم، لأنهم إن فكروا لحظة فيما يفعلونه سيتوقفون فورا عن عمليات الانتحار التي يقومون بها من خلال فعل الشراء بالتقسيط، وبالتالي تتوقف ماكينات إنتاج الهدر الرأسمالية فيتوقف الربح وتشويه قيم البشر.

فالتقسيط اليوم فرض لازم لاستمرار الرأسمالية الجشعة ودوام تربحها على حساب الإنسان والكون وموارده. فالإنتاج لا يمكنه أن يتوقف، ومن ثم فالعرض دائمًا يتجاوز الطلب، بل يسبقه اليوم، فالمصانع تنتج الأشياء ثم تبحث عمن يمكنهم شراؤها وكيف يمكن خلق حاجات لهم لشرائها، وهي صناعة شيطانية تغزو المجتمعات توهن ثقافتها وتفرغ إنسانها من قيمه التي هي قوام تماسكه.

طاعون التقسيط.. المصريون أنموذجًا:

تحول “التقسيط” في مصر إلى آلية أساسية لتلبية الاحتياجات في ضوء: تغير أنماط الاستهلاك بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار المتواصل، والحملة الإعلانية الشرسة لتزيينه في أعين أبناء المجتمع؛ خاصة الأجيال الشابة وناشئة الأمة. ففي الوقت الحالي يوجد أكثر من 15 تطبيقًا للتمويل الاستهلاكي قابلة للزيادة بسبب زيادة أعداد المتعاملين معها. وغالب هذه التطبيقات يسمح للمستهلك بالاشتراك مع التطبيقات الأخرى دون تعارض، مما يزيد من قدرته على الاستهلاك خاصة في ظل الشروط الميسرة التي تقدمها شركات التقسيط على عكس الشروط الأصعب التي تقدمها البنوك من أجل الحصول على السلعة بالتقسيط.

ونظرة سريعة على الإحصاءات المتعلقة بعملية التقسيط تخبرنا بذلك: فقد ارتفعت قيمة التمويل لدى شركات التقسيط بقيمة 3.6 مليار جنيه خلال النصف الأول من 2024م،1 واقترب عدد المتعاملين معها من مليون مستهلك. يشترون كل أنواع السلع الاستهلاكية بدءًا من الطعام والشراب مرورًا بكحك العيد والملابس والتليفونات المحمولة حتى الرحلات الترفيهية خارج البلاد وصولًا إلى الحج والعمرة.2

فأينما توجهت في الشارع أو تصفحت هاتفك المحمول، أو ذهبت للتسوق في أي متجر أو مول كبير، أو كنت جالسًا أمام التلفاز تشاهد أحد الفضائيات، ستستقبل هذه العبارات تلاحقك بشتى الوسائل الجذابة: المقروءة، والمسموعة، والمرئية: «نوفر لك أسرع وأسهل طريقة للدفع، عشان تخلي تجربة الشراء أحسن وأريح. قسّط كل ما تحتاجه من موقع كذا الإلكتروني من غير مقدم وفائدة ١٪ على ٢٤ شهر. العرض متاح من يوم الخميس ٦ فبراير إلى يوم السبت ٨ فبراير فقط».

ولاحظ وجرب فقط أخي القاريء أن تفكر في أي شيء مادي أو معنوي وأنت أمام جهاز الكمبيوتر أو شاشة التلفاز أو تتصفح التليفون المحمول الخاص بك، سرعان ما ستجد عشرات الاقتراحات المتعلقة بما تفكر فيه. هكذا بسهولة ويسر وفي ثوان معدودة “اشتر الآن وادفع لاحقًا” أو كما تُعرف محليًا باسم “تطبيقات التقسيط الرقمي”، والتي من خلالها يستطيع أي مستهلك أن يحصل على ما يريد، وذلك دون وجود شروط تذكر في غالبية حالات المستخدمين.

تقسيط ظاهره الرحمة باطنه العذاب

خطورة الديون:

تبدو عملية التقسيط ممتعة وسهلة ومحققة لما نظن أننا نحتاجه، وتبدو أنها نوع من النعم التي أنعم بها الله على عباده عبر هذه القلوب الرحيمة من أصحاب الشركات ومخترعي تطبيقات التقسيط، لكن الحقيقة المرة أن هذه الرحمة تستبطن العذاب الأليم لغالبية هؤلاء الذين يقعون فريسة لمصيدة الربا الفاحش التي تنصبها هذه الشركات.

حيث يدفع هؤلاء مقابل تقسيط هذه الأشياء نسبة فائدة حسب ما يعلنه البنك المركزي مضاف إليها رسوم شراء لا تقل عن 5%، وقد تصل إلى 12%، بالإضافة إلى عمولة الشركة، ونسبة أخرى تحسب على مخاطر تعثر العميل، بخلاف القسط والفوائد. مما يجعل سعر الفائدة يصل إلى نسب تتراوح ما بين 36% و40% لأجل عام واحد فقط. وقد تتجاوز في بعض الشركات 42% لأجل عام واحد فقط، وتزيد مع زيادة الآجال. بل ويصل في بعض التطبيقات مثل “بي تيك” إلى 47.5 بالمئة سنويًا على السلع، وكذلك الأمر في “فاليو” الذي يقدم الفائدة ذاتها بشكل سنوي، وكلاهما يُعد الأشهر والأسهل في مجال التمويل الاستهلاكي.3

وليس هذا فحسب ما ينتظر هؤلاء، لا، لكن هناك الشروط والأحكام المتعلقة بعملية التقسيط التي تنشرها تلك الشركات على مواقعها، والتي لا يعرف المستهلك عنها شيئًا ولا يلقي لها بالًا، وتحمل له من المفاجآت غير السارة الكثير، والتي يعرفها من تعامل معهم ووقعت له مشكلة تتعلق بجودة السلعة أو تغيرات سعر الفائدة ورسوم الشراء وغيرها من مكونات الخلطة التقسيطية الشيطانية. حيث يجوز لتلك الشركات إجراء تغييرات على هذه الشروط والأحكام في أي وقت دون إعلام المستهلك الذي يجب عليه متابعة موقع الشركة لمعرفتها نفسه حيث يعد استمراره في استخدام الموقع قبولًا لهذه التغييرات.

من أجل ذلك كله، سرعان ما يفيق أغلب هؤلاء على كارثة تراكم المديونيات وتراكم الأقساط وعدم القدرة على الدفع بسبب عدم تناسب دخولهم مع قدرتهم على سداد تلك الأقساط المحملة بفوائد باهظة، فيلجأون لعملية حرق السلعة4 دون استهلاكها بأقل من سعرها لسداد ما سبق التمتع به. وغالبا ما تظل نسبة كبيرة منهم في هذه الدائرة الجهنمية حتى يتغمدهم الله برحمته فيفلتون منها بالسداد والتوقف عن هذا الفعل التخريبي أو يكون مصيرهم السجن؛ ناهيك عن حالات الطلاق التي تتم بسبب ذلك وربما الانتحار.

شجرة الخلد والرؤية الصحيحة للاستهلاك:

عندما يحدثنا القرآن الكريم عن الاستهلاك لا ينكره ولكن يهذبه، ويقول لنا ببساطته وتيسيره للذكر بمعناه العميق: {كلوا واشربوا ولا تسرفوا} [الأعراف: 31]. وعندما نتأمل سيرة رسول الله ﷺ نجدها نموذجًا وقدوة حقيقية في ذلك يمكن للمسلمين إتباعها دون كثير مشقة؛ إن أدركوا أبعاد نمط الحياة الطيبة التي عاشها صلى الله عليه وسلم، وهو النموذج الذي يحبذه الله لعباده المؤمنين حتى لا يستزلهم الشيطان ويوقعهم في حبائل استهلاك لا ينتهي إلا إلى النار في الآخرة، والقلق والهلع وسائر أمراض القلوب والعقول والنفوس بل والأبدان في الدنيا.

فالقرآن يحدثنا عن الأنبياء والرسل الذين كانوا يمشون في الأسواق ويأكلون الطعام مثلنا تمامًا {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ} [الفرقان: 20]، لكنهم أدركوا معاني الحياة قبل أن يتذوقوا طعم الطعام وقبل أن يدخلوا الأسواق فيشاهدوا ما فيها من متع لا حصر لها، فلما دخلوها لم يغرهم بهرجها ولا كثرة سلعها ولا جمالياتها أو طعومها عن حقيقة ما يجب أن يتعاملوا به معها. فكان هديهم في حياتهم: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، أو كما قال خاتمهم ﷺ: ((كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة)) [مسند أحمد: 6809]؛ لأنه كما قال الحق تعالى {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27]. فقد: ((تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أُعطِيَ رَضِيَ وإن لم يُعطَ سَخِطَ، تَعِسَ وانتكس، وإذا شِيكَ فلا انتَقَش)) [البخاري: 2887].

في ضوء هذه الرؤية القرآنية لعملية الاستهلاك كجزء طبيعي من الفطرة، يؤكد هذا المقال أنه: ليس السبيل الصحيح لمعالجة مشكلة التقسيط التي تفشت في مجتمعنا المصري، هو الدعوة إلى أن نبدأ بتقليل عدد الأشياء التي نمتلكها، وأن نشتري فقط ما نشعر حقًا بالحاجة إلى استخدامه أو استهلاكه. والينبغيات الكثيرة الجميلة والصادقة التي يعرفها كل هؤلاء الملايين من المستهلكين ولكنها لا تجد ولن تجد لها صدى في قلوبهم وعقولهم وأنفسهم وفي مشاعرهم؛ التي تُهاجم كل لحظة بسيل من الإغراءات التي لا تقاوم، والتي أسست على نمط حياة استغرق سنوات طويلة من التربية والتعليم في البيت والشارع والمدرسة والجامعة والنظام الاجتماعي السياسي ككل، تغدي النزعة الاستهلاكية في الإنسان وتنبذ وتحارب الترشيد وتعلي من قيمة اللحظة العابرة واللذة العابرة على القيمة المستقرة والنموذج الفطري السليم الذي فطر الله عليه الإنسان.

وإنما السبيل الصحيح لمعالجة هذه القضية هو تعميق معاني العهد والميثاق في فطرة هذا الإنسان الذي تَحَوّل إلى مستهلك ليعود إلى ميثاقه الذي واثق به ربه على اتباع هديه والابتعاد عن الشجرة المحرمة، ليستطيع استئصال عقيدة الاستهلاك من داخله؛ والتي سبق وأخرجت أبويه من الجنة.

فالاستهلاك بشكله الحالي هو الشجرة المحرمة التي حذرنا الله من الأكل منها، لأن الأكل منها يخرجنا من الجنة الحقيقية والحياة الطيبة التي يهبها الإيمان.

وساعتها ينشأ حل المشكلة بشكل صحيح؛ تحويل الاستهلاك الهدري إلى استهلاك رشيد يُصلح الإنسان ويرشد تعامله مع المال وتدبيره وتنزيله سلوكيات حقيقية تعيده مؤمنًا بدلًا من كونه مستهلكًا اليوم. فيتحول الملايين من مستهلكين إلى بشر راشدين. وساعتها يمكننا أن نجعل التنافس على هلكة المال في الحق والاستهلاك المنتج بدلًا من هلكته في الباطل والاستهلاك الهدري المستفز أو المفرط.

ما العمل؟ معالم على طريق العودة للاستهلاك المثمر

لذلك يدعو المقال إلى بناء حركة منظمة لمناهضة الاستهلاك الهدري الترفي، تقوم على أساس حلف واسع بين أبناء المجتمع من المسلمين وغيرهم من أهل المروءات والفطر السليمة من مختلف الأيديولوجيات.

وتقوم على قيم وشعارات وفعاليات جذابة بشتى السبل والأدوات تدين الشراء المفرط والاستهلاك المفرط للممتلكات المادية. وتركز على حد كبير على أسباب الحصول على هذه السلع وتفند فسادها، من خلال الإجابة المقنعة الجذابة بشتى الوسائل على هذه الأسئلة: لماذا وكيف يشتري الأفراد سلعًا معينة ويستهلكونها؟ وما آثار مثل هذا الاستهلاك على استنزاف موارد الأفراد وتحطيم مستقبلهم وتدهور اقتصاد المجتمع، وما علاقة تلك السلع بالتدهور البيئي؟ وما علاقتها بانهيار أو تشويه ثقافة وقيم وأساليب الحياة التي تحفظ المجتمع؟ وما دورها في انتشار الحالات النفسية السلبية مثل التوتر والقلق وانعدام الأمن والاكتئاب والانتحار بين العديد من الأفراد ذوي الطموحات الاستهلاكية الهدرية؟

فمن خلال الإجابة على هذه الأسئلة في قوالب إعلامية ودعائية وفنية جذابة يمكن رفع درجة الخطر في المجتمع حتى يرى أبناؤه الذين تحولوا إلى مستهلكين قواريّ وسامرييّ5 اليوم من شركات التقسيط على حقيقتهم، وهم يفتنون الأمة عن حياتها الطيبة بإغراقها في زينتهم التي لا تنتهي من المتع والسلع وتسهيل الحصول عليها بشتى الطرق؛ وآخرها التقسيط، ليغرقوا سفينة مجتمعنا في البحر اللجي للاستهلاك.

وأترك القاريء الكريم مع آيات سورة الأعراف يتأملها بعد قراءة ما سبق وسيدرك؛ إن تدبرها  حق التدبر، ما يعينه على الإفلات من مصيدة الاستهلاك الهدري بأفضل من ملايين المقالات، فذلك هدي رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • افتح مصحفك على سورة الأعراف من الآية 11 إلى الآية 33.
  1. “الشراء بالتقسيط”.. ترحيل أرصدة الفقر إلى المستقبل. ↩︎
  2. تحذيرات من أزمة قروض استهلاكية مع التوسع السريع لشركات التقسيط. ↩︎
  3. https://web.facebook.com/photo.php?fbid=803388975315322&id=100069326794686&set=a.103872331933660&_rdc=1&_rdr ↩︎
  4. حرق السلعة يعني شراؤها بالتقسيط ثم بيعها بأقل من قيمتها للحصول على ثمنها النقدي لسداد ما تراكم عليهم من أقساط. ↩︎
  5. نسبة إلى قارون وسامري صاحب العجل. ↩︎

موقع : تبيان

زر الذهاب إلى الأعلى