كل الأسماء للمعاني والأشياء والقيم والمبادئ العظيمة كانت قد أصبحت لدينا- معشر العرب- مجرد أسماء لمسميات في عالم الخيال والأساطير لا الواقع.. فلم تكن البطولة إلا خيالاً وحكايات أسطورية تُقال على سبيل المجاز لا الحقيقة. أما اليوم، فإن استشهاد القائد البطل أبي إبراهيم يحيى السنوار، وبتلك الطريقة الأسطورية أعاد للمسميات روحها وحقيقتها، فغدت البطولة حقيقة مجردة لا خيالاً وأساطير.
لسنا هنا في وادي الحديث والتغني والمديح، ولكننا في واقع الحال شهود هذه اللحظة وتداعياتها، نرى كيف أصبح الخيال واقعاً حقيقياً مشاهَداً لا تمثيلاً، كما اعتاد العالم تمثيل البطولة لا ممارستها؛ فالنهاية التي ختم بها الشهيد السنوار حياته هي استكمال فعلي لحياة حافلة بالبطولة لرجل استنثائي، عاش حياة ليست بالطويلة عمراً، ولكنها عميقة وواسعة المعنى والمبنى في زمن فقد فيه كل شيء قيمته ومعناه.
من يتابع حياة قائد كالسنوار، وكيف عاش حياته ما بين المنافي والسجون والعمل والاستشهاد، سيدرك حقاً أن البطولة الحقيقية موجودة، ويمكنها أن تكون على أرض الواقع، وهي ليست حكراً على نسج الأساطير والخيالات.. إن أمة ينتمي إليها السنوار أمة لا تموت، قد تمرض وتتعثر ولكنها حتما ستنهض بوجود هؤلاء الأبطال الاستثنائيين، الذين يعيد وجودهم وحياتهم المعنى المفقود للحياة من أساسها.
إن حياة بلا معنى حياة تافهة ورخيصة ومنحطة، يتحول فيها الإنسان إلى كائن رخيص لا قيمة له، ولا معنى لحياته ووجوده، وهذا المعنى هو ما جاءت من أجله الأديان والرسل قديماً، وما جاء من أجله الأبطال والقادة الاستثنائيون في كل وقت وحين.. ولما كانت أمتنا في حالة أشبه بالعقم على مدى عقود، جاء السنوار يستعيد لهذه الأمة معنى وجودها وكرامتها.
من هنا، تكمن رمزية البطل الشهيد القائد يحيي السنوار، رحمة الله عليه.. لقد خلدَ- باستشهاده كما خلدَ بحياته- المعنى الحقيقي للحياة كلها، المعنى الذي يجب أن يكون عليه أي إنسان في هذه الأمة المستباحة ومهيضة الجناح والناكصة عن دروب الريادة والتقدم، بما آلت إليه أوضاعها وأحوالها على مدى عقود من التراجع والتخلف والظلم والاستلاب الفكري والحضاري، الذي صارت تعيش به على هامش عالم اليوم بعد أن كانت في مصاف الأمم.
لقد أعاد استشهاد البطل السنوار الكثير من المعاني لمسمياتها، وأعاد الكثير من الأمور إلى نصابها ورحابها، بما أحدثه في حياته واستشهاده من دويّ هز وجدان العالم، والعالم الإسلامي على وجه التحديد، وأيقظه من سباته العميق. ولهذا كانت عظمة السنوار في استشهاده أكثف معنى مما كانت في حياته؛ فالرجل باستشهاده جسد خلاصة حياته كلها، وخلاصة قيمه ونضاله وقضيته، وهذا هو الخلود ومعناه في حياة الشهيد، الشهيد الذي بموته واستشهاده تسري في أمّته روح جديدة، يتحسس الناس من خلالها طريق الخلاص.
إن ما أقدم عليه الشهيد القائد السنوار في 7 أكتوبر كان بمثابة تفجير كبير في نهاية نفق مسدود.. كانت عملية طوفان الأقصى بمثابة هذا الانفجار الكبير الذي يجب أن يفتح نهاية النفق، وها هو قد فجر نهاية النفق ومضى في حال سبيله شهيداً بأبهى صور الشهادة والاستشهاد!. بتلك النهاية كان العدو يعتقد أنه قد قضى على الشهيد القائد السنوار وقضيته، ومسح من ذاكرة العالم يوم 7 أكتوبر، ولكنه لم يدرك أنها ستكون النهاية التي تعيد العدو إلى نقطة البداية، حيث نقطة تخلُّق البطولة والأبطال من جديد، ومن ثم عودة القضية إلى أوج حضورها.
إن أمة ترى أن الاستشهاد هو بداية حياة لها من الصعب سحقها وهزيمتها.. هذه هي الحقيقة التي سعى لأجلها الشهيد البطل السنوار، الذي قضى عشرين عاماً خلف القضبان، وحُكم عليه بالموت المؤبد قبل الممات الحقيقي، ومع ذلك كان مؤمناً وبيقين تام أنه سيخرج من خلف القضبان ليصنع هذه النهاية المجيدة له ولأمته وشعبه!. إنها عقيدة الإيمان التي استوطنت روح الرجل ووجدانه، إيمانه العميق أن الحياة قصيرة وأن لا قيمة لها ولا معنى إن لم تتوج بخاتمة عظيمة ومجيدة، ولا عظمة ولا خاتمة عظيمة كالاستشهاد في سبيل قضية عظيمة وعادلة كقضية استعادة أرض ومقدسات شعب كالشعب الفلسطيني، صودر حقه في الحياة وحقه في أرضه ومقدساته.
إن عملية 7 أكتوبر واستشهاد السنوار هما بمثابة التجلي الأكبر لسردية القضية الفلسطينية وحقها المقدس منذ نشأتها، تلك السردية التي عمل الغرب والشرق على محوها وطمسها على مدى عقود طويلة، وتمالأت معها أنظمة عربية منذ النكبة والنكسة وما بينهما وما بعدهما، حتى جاء طوفان الأقصى وقائده السنوار، فنسف كل تلك السرديات الكولونيالية ورديفها لدى أنظمة الخيانة العربية، التي تواطأت في محطات كثيرة، وأما اليوم فقد خانت فلسطين وقضيتها، وأصبحت أنظمة خارج إطار الشرعية والمشروعية.
لقد رسم السنوار باستشهاده طريقاً واضحاً لاستعادة الحق العربي الفلسطيني المغتصب، وهو طريق البندقية وحدها، لا طريق السلام والاستسلام المهين الذين طبعت معه جل الأنظمة العربية، بتوجيه واضح وصريح من الغرب الكولونيالي، الذي يريد من خلال عملية الاستسلام أن يسحب مشروعية حق المقاومة من تحت يد الشعب العربي الفلسطيني، ومن ثم أن يسلبه حقه في الحياة بفرض لون من الحياة منزوعة الكرامة، لا تكون على أرض فلسطين ولو اضطره أهلها للجوء والشتات.
إن طريق المقاومة هو المدخل الوحيد لأي معالجات وحلول ممكنة لاستعادة الحق، ولا طريق لاستعادة الأرض المغتصبة إلا بسواعد أبنائها وبنادقهم، ولو وقف العالم كله في وجوههم، وهذا الحق المشروع هو ما أكدته سردية 7 أكتوبر وقائدها الشهيد القائد البطل يحيى السنوار، الذي هزم بحياته ومماته مملكة الشر المطلق “إسرائيل”، دولة الكيان الصهيوني المصطنعة على أرض لا يملكون فيها شيئاً.
لقد خط السنوار باستشهاده- كما في حياته- طريقاً واحداً للخلاص، هو طريق المقاومة والتضحية.. ولا طريق لاستعادة الحق المغتصب غير البندقية وثقافة المقاومة، كحق مشروع ومقدس في استعادة الحقوق المستلبة. وكلما سقط شهيدٌ مقاوم أنبتت الأرض ألف بطل مقاوم، هكذا حتى تحرير كامل الأرض المغتصبة واستعادة الحق السليب.
رحم الله الشهيد القائد البطل يحيى السنوار، وكل رفاقه الشهداء في هذه المعركة المباركة، معركة طوفان الأقصى، ولا نامت أعين الجبناء والرعاديد الذين سيلعنهم التاريخ وسيلعنهم اللاعنون من الأجيال القادمة. وأما السنوار، فقد سُجِّل له تاريخٌ مجيد وملهم، سيظل نبراساً من بعده، وسيظل نهجه هو النهج الأصوب الذي لا محيد عنه في استعادة فلسطين.. كل فلسطين، من البحر إلى النهر.