مؤمن سحنون – موقع تبيان
كثيرًا ما نسمع في تصريحات وقرارات الدول الغربية حرصهم على حماية الأقلية الفلانية والخوف على حقوقها وغيره، حيث يوجد في كل مجتمع متنوع عدد من الإثنيات والتي يجمعها عادةً رابطة وإثنية أكبر، لكن البحث عن الأقليات بالنسبة للدول المستعمرة يرتكز على تفعيل الاختلافات وغض النظر عن المشترك العام، وإن كان هذا المشترك في أغلب الأحيان أقوى وأعمق من الاختلافات والخلافات والتنوعات، وكثيرًا ما يكون التنوع مصدر ثراء إذا كان الاجتماع على الثوابت المتفق عليها حاصل.
لكن في عصر الهيمنة أصبح ملف الأقليات أداة من أدوات المطامع الاستعمارية تستغلها لفرض واقع جديد، بل قد تعمل هذه الدول الاستعمارية على تكوين وإيجاد هذه الأقليات، لتكون لها مدخلًا لفرض السيطرة والقيود في البلاد المستعمرة، واقع دائما ما تضطهد فيه المجتمعات وحقوقها وتسلب من ثرواتها وحرياتها، تحت شعارات حماية الأقليات.
لعبة الأقليات

يحسن وصف التعامل الغربي مع ملف الأقليات بأنه لعبة، بما يكشفه الوصف من دلالة على التلاعب الدولي بأقليات معينة في العالم لتحقيق غايات معينة، مع غض الطرف عن ملفات أقليات أخرى متشابهة في ظروفها.
في هذا المقال سنحاول كشف قواعد هذه اللعبة، التي تأسست على مبدأ عدم وجود (مبادئ ثابتة) -على قدر ما- تحكمها المصلحة والغاية من وراء اللعبة، وبتعبير أدق حجم ملف الأقلية المستهدفة في معادلة الصراع والهيمنة.
معادلة لعبة الأقليات
ومن خلال النماذج المختلفة، في التاريخ القديم أو الحديث، يمكن صياغة معادلة مقاربة عن قواعد لعبة الأقليات، وهي:
(اختيار أقلية أو صناعة أقلية)، ثم (إذكاء ودعم التمايز والتحريض على الاستقلال بصناعة مبررات وأصوات داخلية)، ثم (تحريض على خروج دعوى من الداخل للاستفتاء وتشجيع مطلب الاستقلال)، ثم (تنظيم استفتاء برعاية دولية)، وفي الأخير (اعتراف دولي بالكيان الجديد).
وقبل أن نشرع في تحليل لعبة الأقليات المعاصرة، والتي تستند إلى تشريعات دولية وقوانين سنتها مؤسسات “المجتمع الدولي” و”حقوق الإنسان” في هذا النظام العالمي، فلنلقي إطلالة تاريخية على الأصول التي بُنيت عليها تلك التشريعات، لعل التاريخ يجيبنا جوابًا شافيًا عن جذور اللعبة.
ولتقسيم أسلوب استغلال الأقليات والتعامل معها، سنعرض نماذج عن صناعة أقلية، ونماذج عن استثمار أقلية موجودة.
صناعة الأقليات عبر (التوطين)

احتلال تكساس
كانت تكساس مدينة مكسيكية، قد وقع الاعتراف بأنها جزء لا يتجزأ من هذا البلد إثر اتفاقية آدامز-أونيس سنة 1819م، لكن اللعبة الأمريكية رأت إرسال أمريكيين ضمن حركة استيطانية قادها ستيفين أوستين بداية من سنة 1821م.
نشط المستوطنون الأمريكيون في تطوير صناعة القطن في المدينة وأنشأوا نظامًا من الرق والعبودية، وعندما أصبحوا يمثلون ثقلًا سكانيًا طالبوا الحكومة المكسيسية بالاستقلال الذاتي، وتمردوا على رفض الحكومة لمطلبهم ونتج عن تمردهم مجزرة عام 1836م.
بعدها حصلت تكساس على استقلالها في يوم 2 مارس من العام ذاته، فسارع جاكسون الرئيس الأمريكي إلى الاعتراف بها، ثم بدأت أمريكا بالدعوى لضمها في عهد الرئيس تيلر بعد تسع سنوات من إعلان استقلالها، الضم الذي شجعه “سكان تكساس” القادمون من أمريكا، لتصبح تكساس المكسيكية مدينة أمريكية أثناء عهد الرئيس جيمس نوكس بولك وذلك يوم 01/03/1845..!1
النموذج الأمريكي (احتلال كاليفورنيا)
لم تتوقف مطامع أمريكا تجاه جارتها إلى هذا الحد، إذ بدأ الجنرال زكريا تايلور بحملة على “ريو غراندي” وسيطر على المدينة، ثم احتل مدينة فكتوريا المكسيكية، وتواصل الزحف باحتلال مكسيكو سنة 1848م، فأُرغمت المكسيك على التفريط في كاليفورنيا والمكسيك الجديدة وأريزونا ونيفادا وأوتاه.
ولا تزال هذه المدن محتلة إلى اليوم، عبر صناعة الأقليات وتكبيرها والحرب، وما زالت تابعة لأمريكا، يقف مرشحو الانتخابات الرئاسية فوق منابرها ليتحدثوا عن أمريكا الحرية راعية السلام وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها والسيادة الوطنية.
النموذج الأمريكي (احتلال هاواي)
أما احتلال هاواي فقصة أخرى من قصص الاستيلاء تحت غطاء صناعة القابلية من الداخل2، فقد سال لعاب العم سام على ما تملكه هذه الجزيرة من فواكه بحرية، وما تمثله من موقع تجاري استراتيجي، فبدأت الإرساليات البروتستانتية من أمريكا في اتجاه هاواى عملها سنة 1820م، وما كانت حركة التبشير هذه إلا لصناعة دعاية مؤيدة لأمريكا على مدى بعيد عبر احتلال العقول، ومن هذه السنة حتى سنة 1840م لم تدخر الدعاية البروتستانتية جهدًا في تعميد أهالي هاواى على صليب أمريكا ذي الثلاثة أعمدة.
أما عموده الثاني فكان التجارة، فقد غزت الرساميل الأمريكية أسواق وموانئ الجزيرة ونشطوا للهيمنة عليها، وكان هذا العمود مع العمود الثالث الذي هو استيلاء المزارعين الأمريكيين المهاجرين على المحاصيل، وحالما اكتملت الثلاثية الأمريكية، أصبحت الأرض ممهدة لضم الجزيرة إلى البلد المهيمن، خاصة بعد عقد معاهدة مبادلات تجارية بين الملك كالاكاوا والرئيس غرانت سنة 1875م.
ثم جاء الحدث المتكرر، إذ دبّر المستوطنون الأمريكيون سنة 1893م انتفاضة خلعوا إثرها الملكة ليليوكالاني، وطالبوا بالانضمام لأمريكا، وأعلن المزارعون عن قيام جمهورية هاواى رغم رفض الرئيس كيلڨلاند، لكن أمريكا سارعت بالاعتراف بها لتكتمل فصول اللعبة، وفي 1898م أعلنت أمريكا ضم هاواى على مدى طويل.
بريطانيا واقتطاع سنغافورة
كانت سنغافورة جزءًا من دولة ماليزيا المسلمة التي خضعت للاحتلال البريطاني، وعندما أدرك البريطانيون أن احتلالهم العسكري لن يبقى، ولضمان مصالحهم والثروات المنهوبة بعد خروجهم؛ قاموا بتشجيع الهجرة الصينية لسنغافورة، وعندما أصبحت هذه الهجرة ذات ثقل سكاني، أوعزوا إلى حركة الاستيطان بأنهم حسب ميثاق الأمم المتحدة لهم حق “تقرير المصير”، وسنة 1965م جاء مندوب من الأمم المتحدة إلى الاتحاد الماليزي وقال أنه لابد أن يحدث استفتاء شعبي، ليصوت الصينيون لصالح الانفصال عن الاتحاد الماليزي وأصبحت سنغافورة دولة معترف بها في الأمم المتحدة سنة 1965م.
بريطانيا وزرع الكيان الصهيوني

وعد بلفور المشؤوم
يعتبر نموذج دولة اليهود الصهيونية إسرائيل، أكثر النماذج فجاجة في نماذج الاحتلال عبر توطين عنصر خارجي، فقد كانت فلسطين تحت الاحتلال والانتداب البريطاني بين سنة 1920م و1948م، وعبر حراك صهيوني-غربي دعمت بريطانيا وأوروبا هجرة يهود العالم إلى فلسطين، وقامت دولة الانتداب3 برعاية المطلب الصهيوني سياسيًا بصدور وعد بلفور سنة 1917م، الذي أقر وأوجد عملاء عندهم قابلية نشوء الدولة الهجينة، وعسكريًا بتدريب جزء من اليهود المستوطنين داخل الجيش البريطاني، ودبلوماسيًا بصناعة رأي عام غربي ملتف حول المسألة الصهيونية.
وكان الهدف من إنشاء دولة إسرائيل بالنسبة للغرب واضح، وهو زرع أقلية هجينة وغريبة، داخل أمة من الشعوب، تعادي في جوهرها وجوهر وجودها هذه الأمة وشعوبها، وتعمل على إضعافهم، ومنع قيام كيانهم من جديد.
ولا أدلّ من ما صدر به مؤتمر كامبل المنعقد في بريطانيا سنة 1907م، الذي جاء في مخرجاته حول المسألة الصهيونية: «إن إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط أوروبا بالعالم القديم، ويربطهما معًا بالبحر الأبيض المتوسط، بحيث يشكل -في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس- قوة عدوة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها؛ هو التنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة».4
في الختام
كانت هذه لمحة عن طريقة الاحتلال عبر صناعة عنصر بشري غريب عن البلاد المستهدفة، ثم اللعب على استخراج رأي عام من هذه الأقلية أو المكون البشري المحدث ينادي بالاستقلال، ثم تمثيل المؤسسات الدولية لدور المستجيب لدعوة هذا المكون في تقرير مصيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع:
أميركا التوتاليتارية الولايات المتحدة والعالم إلى أين – ميشال بوغنون موردان، ص44.
المصدر السابق، ص56.
الانتداب البريطاني لفلسطين، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية.
مؤتمر كامبل بنرمان، ويكيبيديا.