من جماليات اللغة العربية وأسرارها أنها تمنح الكلمات رونقا، وتعطيها تعدّدا في المعاني والإيحاءات، فلكل كلمة أكثر من قصد وأزيد من معنى، وهناك كلمات يعدّها اللغويون فريدة كونها كثيرة المعاني، ومقالنا هذا يبحث في مفهوم النقد كمفردة ومعان وكمفهوم أدبي نقدي متعارف عليه، لكن نبدأ أولا بالمعاني اللغوية لمفردة نقد.
فقد جاء في معجم المعاني الجامعة: نَقِدَ نَقَدًا فهو نَقِدٌ، ونَقَدٌ. نَقِدَ الضِّرْسُ: تَآكَلَ، تَكَسَّرَ. نَقِدَ الْحَافِرُ: تَقَشَّرَ. نَقِدَ الْجِذْعُ: نَخَرَتْهُ الأَرَضَةُ. نَقِدَ الشيءُ: وقع فيه الفساد. نَقَدَ: (فعل) نقَدَ يَنقُد، نَقْدًا، فهو ناقد، والمفعول مَنْقود. نقَد الشّيءَ: بيَّن حسنَه ورديئه، أظهر عيوبه ومحاسنه. نَقَدَ الدَّرَاهِمَ: مَيَّزَهَا، نَظَرَ فِيهَا لِيَعْرِفَ جَيِّدَهَا مِنْ رَدِيئِهَا. نقَد صديقَه مالاً: أعطاه إيَّاه. نقَد التّاجرَ الثَّمنَ/ نقَد للتاجر الثّمنَ: أعطاه إيّاه نقدًا معجَّلاً
وأخيرا نقَد النَّاسَ: أي أظهر ما بهم من عيوب. وهذا المعنى الأخير هو الذي يتناسب ومقالنا هذا عن مفهوم النقد، أي أننا نخصص هذه المقالة لمفهوم النقد الذي يهتم بالنصوص الأدبية بمختلف أجناسها، شعرا أو سردا، أو مسرحا أو سواه، وطالما إن النقد في واحد من معانيه يعني إظهار العيوب، فمهوم النقد يركز على على غوامض النص الأدبية ويستظهر الاختلالات التي تشكل ضعفا لها.
هل ينشغل النقد بالعيوب وحدها؟ لكن مهمة النقد الذي يشكل اليوم علما مستقلا، لا ينشغل بالعيوب وحدها، وإنما هنالك مهام أخرى عميقة تسير بموازاة إظهار العيوب، ومن هذه المهام استظهار جمالية النص، وما يختفي ما بين السطور أو خلفها، أي يبحث في المعاني المغيَّبة والإيحاءات الشديدة.
يقول المعنيون بالنقد، يعرَّف مفهوم النقد بأنه نظرة كليّة إلى الفن والشّعر، يبدأ من التذوُّق والقدرة على التمييز، انتقالًا إلى التفسير والتعليل والتحليل والتقييم، وفق قواعد وأسس معينة، ضمن منهج علمي واضح، ويُلاحظ أن مفهوم النقد يختلف باختلاف مجاله؛ فنقد الأدباء والشُّعَراء غير نقد الفُقَهاء وأصحاب الفرق الإسلامية، ونقد الأصوليين غير نقد المحدِّثين.
فلكلٍّ قواعدُه ومناهجُه، إلا أنَّ المشترك بينها هو النظر والتمحيص في النصوص لتبيين عُيوبها ونقائصها، ثم الحكم عليها حسب المعايير الفنيّة التي تدرس من خلالها، وتصنيفها مع بقية النصوص وتحديد مكانتها منها. وتختلف قدرة النقاد على النقد باختلاف مجالهم، وعلمهم وأدواتهم وملكاتهم العلميَّة في مفهوم النقد.
إلا أنّهم يستخدمون مفردات مُقاربة؛ كالتقييم والرُّدود، والمناظرة والمحاورة، والجدل والبحث والمناقشة، ويضلّ لكل واحدٍ ما يميزه عن غيرِه من أسباب النقد وأساليبه، ولكن يشترط في الناقد أن يراعي مواطن الأمان في إيصال نقده بطريقة سليمة خالية من التجريح لكاتب النص أو الأديب أو المنقود، فيبدأ بمراعاة أحاسيسهم ونفسيّاتهم، وظروفهم المعيشية، والوقت والمكان المناسب لتقديم النقد.
من هذا التعريف الوافي يمكننا تطبيق المقاربات النقدية على جميع النصوص المكتوبة أدبية كانت أو علمية أو سواها، ولكن لكل حقل كتابي نقده الخاص، فنقد الشعر ليس هو نقد النصوص العلمية أو الدينية أو سواها، فكل من هذه الحقول نقد فيه ضوابط خاصة تنظر في ماهيّة هذه النصوص مع مراعاة اختلاف المناهج التي يتم تطبيقها في العملية النقدية لهذا النص أو ذاك، وهذا يؤكد أن الفوارق النقدية تتحدد بحسب هوية النص المكتوب، ولا يمكن تطبيق نقد الأدب على نقد الحقول الكتابية الأخرى.
ولكن ما هي الغاية من النقد، ومن النظريات الكثيرة التي ظهرت في مدارس أدبية نقدية كثيرة، فمثلا نظريات النقد في الغرب لا يمكن أن تتشابه مع نظرية الشكلانيين الشرقيين الذين كتبوا كثيرا عن الأدب الروسي، وتناولوا روايات ديستوفسكي وتولستوي وأنطوان تشيخوف ورسول حمزاتوف وغيرهم.
لابد أن نذكر بأن أهمية النقد تتجسد في قدرته على تفكيك النص وتشريحه وتبسيطه وتوضيح ما يغمض منه، وهذا يعني باختصار تقديم الرؤية النقدية السليمة التي تساعد القراء على فهم أفكار المؤلفين والاستفادة منها واستثماره في زيادة الوعي وتطوير الفكر وتعميق الذكاء وهذه كلها عوامل تنموية لحياة الإنسان.
إذ لا جدوى من كتابات عبثية هدفها مضاعفة حيرة الإنسان وهو يسعى لكشف المحجوب عنه من علوم وأسرار أخرى تحسّن حياته، وتخرج به من مجاهيل الدنيا غير المفهومة، النقد باختصار تقع عليه مهمة تفسير النصوص وتوضيحها وجعلها أقرب من المستويات الذهنية للقراء، مع أهمية إظهار عيوبها إذا كان فيها شوائب، أو إظهار مزاياها دونما مغالاة.
علي حسين عبيد – النبأ