أحمد مصطفى الغر
هل ذهبت القوات المصرية كخطوة إجرائية في إطار أفريقي رسمي، كما هو في الظاهر لتدافع عن الصومال ضد هجمات الجماعات المسلحة؟ أم أرسلت مصر قواتها في خطوة تحمل تعقيدات جديدة مع أثيوبيا، المتوترة علاقاتها مع مصر بشأن سد النهضة الأثيوبي؟
في تطور مفاجئ أعلن سفير الصومال لدى القاهرة عن وصول معدات ووفود عسكرية مصرية إلى العاصمة الصومالية مقديشو.
وتناقل المتابعون على مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات تظهر وصول طائرتين عسكريتين مصريتين. بينما قالت وسائل إعلام صومالية أن الطائرتين حملتا على متنهما معدات عسكرية وعددًا من الضباط، وتتحدث مصادر صحفية عن أن هناك اتفاقًا بين الصومال ومصر على إرسال عشرة آلاف من الجيش المصري، سيصل منهم خمسة آلاف على مراحل خلال أيام، أما الباقي فسيتم إرسالهم في ديسمبر القادم أي بعد ثلاثة شهور من الآن، وكما تقول تلك المصادر فإن هناك عددًا من هؤلاء العسكريين المصريين، خبراء تدريب وفنيين وليسوا كلهم مقاتلين.
وتعد تلك المساعدات المصرية هي الأولى التي تصل الصومال منذ أكثر من أربعة عقود، لكن لم تعلن الحكومة المصرية عنها رسميا.
ولم تمضِ سوى ساعات على وصول تلك القوات، حتى خرج بيان أثيوبي حاد اللهجة، يتهم جارتها الصومال بزعزعة الاستقرار في المنطقة.
ولم يسم البيان الأثيوبي مصر، لكنه قال “يتعين على القوى التي تحاول تأجيج التوتر لتحقيق أهداف قصيرة الأجل أن تتحمل عواقب وخيمة”.
وكرد دبلوماسي على الخطوة المصرية، أعلنت أثيوبيا تعيين مندوب لها بدرجة سفير بأرض الصومال (غير المعترف بها دوليا)، وذلك لأول مرة منذ بدء العلاقات بين أديس أبابا والإقليم الانفصالي.
فيما دخلت حكومة أرض الصومال الانفصالية على خط التوتر، وأصدرت بيانا صعدت فيه ضد مصر، وانتقدت إرسال قوات مصرية إلى دولة الصومال.
وفي تطور خطير، أتبعت أثيوبيا تهديداتها الكلامية والدبلوماسية بأفعال، فقد كشف الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، خلال مداخلة هاتفية على إحدى القنوات الفضائية المصرية، عن إغلاق أثيوبيا لبوابات سد النهضة بعد وصول القوات المصرية إلى الصومال، وذلك في اليوم التالي من وصول القوات المصرية إلى الصومال، وفي الغالب كرد فعل من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، كما يقول الخبير المصري.
تستغل أثيوبيا توقيت انشغال الغرب بالحرب في أوكرانيا وغزة، فتحركت تجاه توسيع مناطق نفوذها، والحصول على منفذ بحري وخاصة أنها دولة تصنف جغرافيا بأنها دولة حبيسة أي ليس لها منفذا بحريا.
يذكر أن هناك تقاربًا قد حدث بين مصر والصومال هذا العام، وعلى إثره وقعت الصومال، على بروتوكول أمني مع مصر.
وقد ذهبت الصومال إلى هذه الخطوة بعد أن وقعت إثيوبيا اتفاقا أوليا مع منطقة أرض الصومال الانفصالية، تحصل بموجبه أديس أبابا على حق انتفاع بأراضٍ ساحلية في ميناء بربرة مقابل الاعتراف المحتمل باستقلالها عن الصومال، ووصفت حكومة مقديشو الاتفاق بأنه اعتداء على سيادتها وقالت إنها ستعرقله بكل الوسائل الضرورية.
وكانت الصومال هددت في وقت سابق بطرد ما يصل إلى 10 آلاف جندي أثيوبي، موجودين هناك كجزء من مهمة حفظ السلام وبموجب اتفاقيات ثنائية لمحاربة حركة الشباب، إذا لم يتم إلغاء الصفقة بين إثيوبيا وأرض الصومال، والتي عمقت الخلاف بين الدولتين منذ مطلع هذا العام.
وفي الشهر الماضي، أعلن بيان صادر عن الاتحاد الأفريقي عن عرض مصر للمساهمة بقوات في مهمة حفظ سلام جديدة ستنطلق العام المقبل في الصومال.
وبذلك يكون وصول المعدات العسكرية المصرية إلى الصومال تمهيدا لمشاركة مصر في قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي في الصومال والتي يُطلق عليها اختصارا (أسيوم)، والتي من المقرر أن تحل محل بعثة الاتحاد الأفريقي الانتقالية الحالية في الصومال واختصارها (أتميس) بحلول يناير 2025.
لفهم ما يجري في الصومال، لابد من إدراك أبعاد الخلافات الصومالية الأثيوبية من جانب، والصراع المصري الأثيوبي من جانب آخر.
الصومال وأثيوبيا… تاريخ وحروب:
مع دخول الغرب لاحتلال منطقة القرن الأفريقي في منتصف القرن التاسع عشر، صار لموقع الصومال المتميز في المنطقة مكان للتنازع والتنافس بين القوى الأوروبية.
ففي عام 1839 أرادت بريطانيا إقامة حامية عسكرية لها على أرض الصومال لكي تؤمّن الطريق إلى مستعمرتها في عدن وتوفر لجنودها الغذاء خاصة من لحوم الأغنام الصومالية المشهورة، فاقتطعت من أرض الصومال مساحة أطلقت عليها الصومال البريطاني. وعلى المنوال نفسه سارت فرنسا عام 1860 فاحتلت مساحة من الأرض الصومالية عرفت باسم الصومال الفرنسي (جيبوتي فيما بعد)، ولم تتأخر عنهما إيطاليا فأقامت كذلك صومالا أسمته الصومال الإيطالي عام 1889.
تبدأ قصة النزاع الصومالي الأثيوبي، عندما احتلت القوات الإيطالية (في عصر الفاشية الإيطالية والتي سبقت الحرب العالمية الثانية) منطقة أوغادين الصومالية والتي كانت بريطانيا قد احتلتها وضمتها إلى أراضي أثيوبيا المجاورة.
وبعد زوال عصر الاحتلال الأوروبي وانتهاء الحرب العالمية الثانية وانسحاب إيطاليا من مستعمراتها السابقة، كان أمام الصوماليين، أسوة بالمستعمرات الأفريقية الأخرى، فرصة إعلان الاستقلال وتشكيل دولة صومالية واحدة، وهذا ما جرى عام 1960، إذ توحد الصومال الإيطالي والبريطاني، فيما استقلت جيبوتي (الصومال الفرنسي سابقاً) بذاتها، وبقي إقليم أوغادين الصومالي خاضعاً للسيادة الإثيوبية.
حتى اندلعت الحرب في عام ١٩٦٤ بين الصومال وأثيوبيا حول إقليم أوغادين، واستمرت لمدة ثلاث سنوات، فدعمت الولايات المتحدة أثيوبيا بالمال والسلاح والتأييد السياسي في المحافل الدولية، بينما وقف الاتحاد السوفيتي والصين وراء الصومال وقدمتا له المال والسلاح.
ولم تتوقف الحرب إلا بعد إنهاك القتال الجيشين ونضوب مواردهما اللازمة لاستمرار القتال، ولم يتم حل مشكلة أوغادين، ولذلك بعد عشر سنوات وفي عام ١٩٧٧ اندلع القتال مجددا بين الدولتين ليستمر طوال عامين ٧٧ و٧٨.
ومع ظهور الكيان الصهيوني، واتباعه استراتيجية شد الأطراف مع المنطقة العربية، تطورت علاقاته مع أثيوبيا، وبرزت النوايا الأثيوبية إلى العلن في إقامة سدود على النيل، تحت دعاوى توفير الطاقة الكهربائية
وفي بداية هذا القتال نجحت القوات الصومالية من استرداد أراضي أوغادين ولكن بتدخل امريكي نجحت أثيوبيا في قلب المعركة لصالح أثيوبيا، فأعلنت الصومال حينها وقف القتال، الأمر الذي أغضب فئات كثيرة داخل الصومال، وحدث ما يشبه الحرب الأهلية بين ميليشيات مسلحة ومجموعات عسكرية، وساهمت أثيوبيا في تأجيجها.
وأدى استمرار تلك الحرب أهلية إلى تحلل الدولة الوطنية الصومالية، لتظل تعيش ما يقرب من ثلاثة عقود من الفوضى في غياب الدولة المركزية.
وتسببت تلك الحرب الأهلية أيضا، في انقسام الصومال بين أربعة أقاليم، وهي مقديشو (الصومال الإيطالي سابقاً)، وأرض الصومال (الصومال البريطاني)، إلى جانب جوبا لاند وبونت لاند، وادعى كل منها استقلاله عن الجمهورية الصومالية في غياب أي اعتراف دولي معلن، لكن بدعم إثيوبي خفي.
وفي خضم هذه الفوضى نجحت أثيوبيا في وضع حكومة انتقالية موالية لها في العاصمة مقديشو، ولكن مجموعات إسلامية تجمعت تحت مسمى المحاكم الإسلامية نابذت تلك الحكومة الموالية للمحتل الأثيوبي ودخلت في صراع عسكري معها.
ولكن الحرب التي أعلنها الغرب على ما يزعم الإرهاب، وخشية تحول الصومال المبعثرة إلى ملاذ للإرهابيين المزعومين، فقد تسارعت الجهود الإقليمية والدولية إلى رأب الصدع بين الصوماليين لتشكيل حكومة موحدة تحاول بسط سيطرتها على الأقاليم الثلاثة.
ولكن الاستقرار لم يرق لأثيوبيا والتي لها مصلحة في بقاء الصومال ممزقة، فقررت توقيع مذكرة تفاهم مع رئيس جمهورية صومالي لاند، تضمن لأثيوبيا منفذاً بحرياً على خليج عدن مقابل اعتراف الأخيرة باستقلال الأولى.
وتستغل أثيوبيا توقيت انشغال الغرب بالحرب في أوكرانيا وغزة، فتحركت تجاه توسيع مناطق نفوذها، والحصول على منفذ بحري وخاصة أنها دولة تصنف جغرافيا بأنها دولة حبيسة أي ليس لها منفذا بحريا.
مصر وأثيوبيا…علاقات تتجاوز الجغرافيا:
لكون نهر النيل الذي هو شريان الحياة في مصر، يستمد 80 % من موارده المائية من النيل الأزرق الذي ينبع في هضبة الحبشة الواقعة في قلب أثيوبيا، فإن العلاقة بين البلدين متجذرة في التاريخ، ولكن لنفس السبب أيضا تسود العلاقات بينهما دائما التوتر، للشكوك المصرية الدائمة في النوايا الأثيوبية والتي تريد التحكم في المياه المتدفقة إلى مصر.
ومع ظهور الكيان الصهيوني، واتباعه استراتيجية شد الأطراف مع المنطقة العربية، تطورت علاقاته مع أثيوبيا، وبرزت النوايا الأثيوبية إلى العلن في إقامة سدود على النيل، تحت دعاوى توفير الطاقة الكهربائية، ولكن في حقيقتها كانت راغبة في التحكم في مياهه.
ولكن مع قوة الأنظمة السياسية التي كانت تتربع على الحكم في مصر، وتهديدها المبطن لأثيوبيا بالحل العسكري إن أقامت أي مشروعات على النهر، ظلت الرغبات الأثيوبية لا تتجاوز التصريحات من حين لآخر، ولكن مع الضعف الذي أصاب النظام السياسي المصري وتراجع هيبته، شجع ذلك الجانب الأثيوبي على المضي قدما في اتخاذ خطوات عملية على الأرض في بناء ما يعرف بسد النهضة.
وبعد التغيير العسكري للحكم في مصر، واتخاذ الاتحاد الأفريقي من التغيرات العسكرية في أفريقيا، تم تعليق عضوية مصر في الاتحاد، ومقره الرئيسي في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، وبالتالي فهو خاضع لضغوط حكومة المقر (أثيوبيا)، والتي اتخذت من مسألة الاعتراف بالتغيير الحادث في رأس السلطة في مصر ورقة مساومة لإرغام الحكم الجديد على التوقيع على اتفاقية مبادئ، يقر فيها الحكم المصري لأول مرة في تاريخ المنطقة بالموافقة على مبدأ إقامة سدود لا تضر بدولتي المصب وهما مصر والسودان.
ويبدأ الجانب الأثيوبي في البناء، وبالرغم من المفاوضات مع مصر والسودان قد وصلت إلى طريق مسدود، فقد استمر في إقامة السد وبدأ بعدها يقطع مراحل الملء، حتى أعلن الرئيس الأثيوبي أن اكتمال الملء وتشغيله الرسمي سيكون في ديسمبر القادم.
بل وصل في تهديده إلى مرحلة إقفال بوابات السد في اليوم التالي لإرسال القوات المصرية الى السودان.
ويبدو أن الحكم في مصر قد وصل إلى قناعة أن تراجع الدور المصري واستهانة أثيوبيا بالمطالبات المصرية يرجع إلى عدم اتخاذ المصريين خطوات تهديد ملموسة.
وعلى العموم فإرسال الجيش المصري يحوي في طياته عدة رسائل يوجهها الحكم المصري إلى أطراف عديدة:
١-ورقة للضغط على أثيوبيا التي أعلنت أنها ستبني ثلاثة سدود على النيل الأزرق الذي يغذي النيل بحوالي ٨٠ ٪ من مياهه، وكأنها رسالة فحواها: سنغلق عليكم (الأثيوبيين) أي منفذ للبحر وستبقي دولتكم حبيسة البر، إذا واصلتم التحكم في مياه النيل.
٢- رسالة إلى طرف إقليمي متحالف مع أثيوبيا، أن النظام المصري قوي، وهو غير مستعد لقبول ترتيبات داخل نظام الحكم في مصر بما يتوافق مع خوف هذا الطرف على استثماراته الكبيرة في مصر، في ظل تقدير هذا الطرف أن النظام في مصر غير مستقر.
٣- محاولة استرجاع النفوذ الإقليمي لمصر سواء في منطقة القرن الأفريقي أو في أفريقيا عموما، فبالتزامن مع توقيع مصر اتفاقية دفاع مشترك مع الصومال، جرى توقيع اتفاقية مماثلة مع نيجيريا.
4-رسالة إلى الحكومة الصهيونية في تل أبيب، والتي تزيد الضغوط على الحكومة المصرية، والتي شعرت أنها كان لها دور في إدخال السلاح ومعدات بناء الأنفاق إلى المقاومة في غزة، حتى أنها أرسلت نظامًا للدفاع الجوي المتطور إلى أثيوبيا، والتي نشرته حول منطقة سد النهضة تجنبا لأي قصف جوي مصري.
ولا أحد يتصور بالطبع أن الجيش المصري سيدخل في حرب مباشرة مع الجيش الأثيوبي، ولكن إرساله أيضًا ليس للنزهة، وربما يستند إلى التعاون مع تركيا والتي يوجد لها قاعدة كبيرة في مقديشو، خاصة مع زيارة الرئيس المصري إلى تركيا، حيث سيكون ملف الصومال وأثيوبيا على قمة جدول الأعمال بينهما.
.
المصدر: مجلة البيان