لم تسلم منهما مؤسسات نزيهة.. “الانتحال والسطو” وخطورتهما على الأدب والنقد

تشيع في الآونة الأخيرة في مجال البحث العلمي عامة والنقد الأدبي خاصة ظواهر سلبية كثيرة وسلوكيات مرفوضة سواء على مستوى الأفراد أو مستوى المؤسسات. والمؤسف أن تشخيص هذه الظواهر والحض على وضع قواعد تردع ممارسيها بعقوبات مجزية، لا يزال أصحاب القرار يرونهما غير مهمين، لا في أوانه العاجل ولا في غده الآجل. فالآذان لا تسمع، والعيون لا تقرأ، فلماذا بعد ذلك الردع وإنما هو السكوت وتقبل الأمر الواقع حتى كأن الحديث في مثل هذه الظواهر لا يعدو أن يكون مثل حوار الطرشان إن لم نقل إنه مثل الهواء في الشبك.

وعلى الرغم من ذلك، فإن الإصرار على المكاشفة وفضح المستور أمر ينبغي أن يحدونا إلى المضي في ذلك، أملا في وضع حلول، تصحح الأخطاء وتردع المخالفين بقرارات جريئة وفعالة.

الانتحال والسطو

في مقدمة الظواهر السلبية الانتحال العلمي الذي به يسطو اللاحق على جهود السابق عبر الإغارة على أفكاره مموها فقرة هنا ومتلاعبا بسطور هناك، محاولا تجيير ما يمتلكه السابق لصالحه عدوانا وتجنيا. وهو ما أخذ يتزايد هذه الأيام حتى لم يعد غريبا إن نحن كشفنا أساليب صار يتقنها الكثير من أنصاف الدارسين وأشباه الباحثين ويعرفون طرائق، امتلكوا الاحتراف فيها، والمحصلة أن يظهر الساطي أو الساطية أمام الملأ بمظهر المتخصص الناجح الذي يستحق الإطراء والاشادة.

ولقد أُبتلي النقد الأدبي بمثل هؤلاء السطاة الذين يُغيرون ويستمرون يغيرون ولا يكفون، متمادين في أفعالهم يختلسون من غيرهم أفكارهم الواردة في كتبهم ومقالاتهم ويحورونها من دون أي وازع من ضمير ولا خوف من حسيب أو رقيب، متبعين أساليب رخيصة ومفضوحة وبلا استحياء.

وما يزيد في خطورة الانتحال والسطو هو استشراؤهما داخل مؤسسات يتوقع منها النزاهة العلمية والأمانة والأصالة. وهو ما يجعل السؤال ملحا حول الأسباب التي تؤدي إلى تزايد هذا النوع من السلوكيات غير العلمية؟ وهل يصح التغافل عن الساطي وعدم محاسبته؟ وإلى متى تظل حقوق الملكية الفكرية عندنا مهدورة؟

والغريب أن يتصور بعضهم أن الانتحال والسرقة لا يكونان إلا بالأخذ الكامل من الغلاف إلى الغلاف، وكأن ليس في عصرنا أساليب تجعل أشباه الباحثين وأنصافهم يتفننون في الاعتياش على جهود الآخرين والصعود على أكتافهم مغتصبين أفكارهم اغتصابا، مع أن أمر التيقن من الانتحال يمكن كشفه بأدوات خاصة، تعتمد عليها المجلات الجامعية الرصينة وبها تتوثق مما يصل إليها من أبحاث فتتأكد من أصالة ما تنشره في كل عدد من أعدادها.

والحقيقة أن الانتحال العلمي صار اليوم أشنع مآلا من حاله قديما، لا لأن المنتحِل يتعدى على الملكية الفكرية ويستحوذ على ما ليس له حق فيه فحسب، وإنما أيضا لأن الانتحال ينخر أساسات القيم الثقافية والعلمية ويفتح الطريق للمزيد من التعدي والتجاوز غير الأخلاقي، وإذ لم يكن ثمة حساب أو عقاب، فإن السرقة ستصبح أمرا مشروعا ورائجا وطبيعيا. وهو ما يقتضي التصدي للساطين وفضح ممارساتهم وإشهارها على الملأ من دون وجل أو تردد.

من لا يحترم جهد الذي سبقه ويغتصب حقوقه، لا ينبغي أن نتهاون معه فلا نحاسبه على سرقاته. ومثل هذه الظاهرة تحتاج منا تصديا كي لا يغتر السارق بسرقاته منتفعا من علو خلق الذي سرقه وكي لا يشيع الزيف والادعاء فيندر وجود الأصيل والمعطاء بيننا.

وكثيرة هي أفانين السطو على الأفكار وانتحالها منها عدم الإحالة على المصادر في موضوع من موضوعات البحث والنقد، ومنها الاعتياش على موضوعات ومفاهيم طرحها سابقون في كتبهم ومقالاتهم فيأخذها المتقاعسون والخاملون ويدعوها لأنفسهم بكل بساطة. ومنها أن يستغل الباحث إشرافه على طالب نابه يحسب أن مشرفه ضليع في هذا الموضوع، فيسطو المشرف على كتاباته ويحولها لصالحه ويضع لها عنوانا وينشرها دراسة أو كتابا يحمل اسمه أو يحصل من خلاله على ترقية أو مكافأة وربما جائزة.

والأدهى أن الجهات ذات الصلة تغض الطرف وتتستر على مثل هؤلاء الساطين فلا توجه العقوبات الرادعة إليهم، بل تتركهم يتحولون إلى مهرة محترفين يعلِّمون غيرهم أساليب السطو والاحتيال. وإذا استمر الحال على ما هو عليه، فإن هذه الظاهرة السلبية والخطيرة ستتحول بمرور الزمن إلى سياق من السياقات الطبيعية المستشرية في مؤسساتنا الجامعية والثقافية.

مواجهة حازمة

إن وقوف المؤسسات العلمية والأكاديمية والمنابر الثقافية الحقيقية ينبغي أن يكون حازما وصارما في وجه من يغتصب ويستولي ويسطو على فكر أو نظرية أو علم ثم يدعي ذلك كله لنفسه.

ومن دون ذلك الحزم وتلك الصرامة سيظل ميدان النهب والتزوير مشرع الأبواب لكل من يريد أن يكون له في مجال لا يتقنه مكانة ووجاهة وغنيمة، متصورا أنه بإمكانياته المتواضعة سيتمكن من التشدق في ميادين العلم والمعرفة والتمنطق بموضوعات هو ليس أهلا لها.

إن أول موجبات الحزم ضرورة تطبيق قانون الملكية الفكرية تطبيقا جريئا وسريعا وببنود شاملة تتصدى لكل طرق المراوغة والمصادرة والاعتياش. ومثلما لم يعذر النقاد العرب القدماء الشعراء الذين يسرقون المعاني ـ غصبا وإغارة ـ من شعراء آخرين أعلم منهم بالشعر وأشهر صيتا واشتهارا وأعلى شأنا ومكانة في عالم الإبداع الشعري والابتداع البلاغي، فكذلك ينبغي علينا أن لا نعذر هؤلاء السراق أو نتستر عليهم.

أملنا بمؤسساتنا الثقافية أن تكون على قدر المسؤولية فلا تبقى متفرجة وأحيانا مباركة لهذه السرقات المفضوحة، فتدعمها بحجج واهية. ولا نستبعد أن يكون بعض منها مسوغا هذه السلوكيات على أنها ممارسات صحيحة وهي في ذلك واهمة كل الوهم. هذا إن لم نقل أنها ستكون متسببة في ما سيتسع ويشيع من ممارسات شائنة بوصفها مشاعة وطبيعية. ولا إمكان وقتذاك لتغييرها إذ سيسطو الساطي وهو منتش ويغير الغائر متبجحا وماكرا، بينما نحن ننظر ولسان حالنا يقول العين بصيرة واليد قصيرة.

ما يزيد في خطورة الانتحال والسطو هو استشراؤهما داخل مؤسسات يتوقع منها النزاهة العلمية والأمانة والأصالة

إن الكتابة البحثية أمانة قبل أن تكون مسؤولية، وإذا لم يكن الباحث على قدر كاف للقيام بها فإن عليه أن يتركها، لأنه لن يطالها مهما فعل وما ذلك إلا بسبب كون ما تحتاجه منه من إخلاص في التوثق والجدة في الطرح والعمق في التشخيص والتمحيص في التناول هو ليس أهلا له. وإذا كان هذا مطلوبا في الدراسات الأدبية والنقدية فإن ذلك الأمر مسلمة بديهية مفروغ من الحديث عنها أساسا في الدراسات الإنسانية والعلمية كافة.

وعكس ذلك سيكون التهاون الذي فيه السرقة وبلا وازع من ضمير ولا سلطان من رقابة ذاتية أو غير ذاتية، فيعيد إنتاج ما أنتج قبله باجترار محض وتكرار مسفه ومبتور أو مشوه. والنتيجة أننا لن نتقدم في مستوياتنا العلمية بل سنتراجع خطوات كثيرة إلى الوراء. وهذا ما أخذنا نشهده بازدياد مطرد من الناحية الكمية في البحوث المقدمة لنيل درجات دراسية عليا كالدبلوم والماجستير والدكتوراه، مع انحسار نوعي ملحوظ في طبيعة تلك البحوث، ناهيك عما يحصل في كواليس لجان تحكيم المسابقات العلمية والإنسانية.

ولعل قائلا يعتذر لهذا الواقع المزري بما تشهده الحياة المعاصرة من تسلط الرقميات وغزو الفضائيات وانتشار غير محسوب للمعلومات بغض النظر عن دقة مصدريتها ورجاحة مرجعياتها، الأمر الذي يجعل الباحث أمام مغريات عديدة تفرض عليه أن يختار ما هو يسير وسهل وينتقي ما هو طوع اليد ونصب العين ما دامت العين باصرة واليد مخيرة لا ممنوعة، وما دامت قوانين الملكية الفكرية غير معمول بها.

ونرد بأن هذا يضاد القيم الأخلاقية ويجعل فاعله أمام طائلة القانون، بل إنه سيعلِّم الأجيال القادمة التهاون والتقاعس عبر اتباع الطرق الملتوية، متهاونة على حساب العلم وسياقاته الرصينة والجادة مطوعة الغش نظرا وسماعا سامحة لنفسها بالأخذ من دون ذكر المصدر الأصل، أو مجيزة ذلك بالتناص والتعالق والتداخل بين النصوص.. وهلم جرا من الممارسات التي أخذت للأسف تتسع يوما بعد يوم وعلى مرأى ومسمع من ذوي الشأن والقرار في مؤسسات البحث العلمي والشؤون الثقافية.

وأمر السطو فظيع، ولا ينبغي إباحته بحجة أن الباحث في بداية مشواره ومسوغ بتوجيه من فلان أو علان باعتبار أنه يتعلم فيخطئ هنا ويصيب هناك، ومن ثم سيتعلم من أخطائه وسيعضد تصويباته باتجاه أن يبلغ الإجادة أو شبهها في مشروعه البحثي، فكيف بعد يكون السطو مباحا أمام باحث/ة يحمل شهادة جامعية ويحصل على مباركة رسمية من لدن جهات رسمية معروفة. وهنا تغدو الطامة بالطبع كبيرة والمزلق خطيرا وعظيما.

إن السكوت وعدم ردع هذا النوع من النقدة والمتناقدين والمتدكترين المتمرسين سطوا واحتيالا وانتحالا ينبغي أن يتحول إلى إعلان وتشهير، قطعا لطريق الفهلوة والمكيدة وكي لا يحصل الساطي على ما لا يستحقه من الحظوة والمقبولية، مصدقا مع نفسه أن هذا السلوك المشين ناجح، وأن عليه أن يستمر مستقبلا على ذات النهج من الاعتياش والعمل المخاتل والتدليس المبيت والسطو المحترف.

إن هذا الطرح ليس جزافا، بل هو يأتي في معرض تشخيص نفر من الباحثين تنقصهم الأمانة العلمية والدقة البحثية، ففقدوا شروط الكتابة الأكاديمية أو من الذين تناسوا أن الإخلاص للمسؤولية والأمانة هو متطلب من يريد أداء المهمة البحثية بكل ما فيها من استناد إلى التوثيق وإثبات الحق للسابق وأرجحيته على من هو لاحق.

Exit mobile version