إحسان الفقيه
شهد تاريخ العرب كثيرا من أسماء الأعوام بأحداث شهيرة، كعام الفيل، وعام الحزن، وعام الرمادة، وعام الجماعة، لكن يبدو أن عام 2023 الذي أوشك على الانتهاء، سوف يأخذ اسم: عام فتنة «أبو عبيدة».
فعلى إحدى القنوات العربية التي اعتادت النهش في جسد المقاومة الفلسطينية، اجتمع الضيف ومضيفه على تشويه صورة «أبو عبيدة» المتحدث باسم كتائب عز الدين القسام، الذي عرف بالملثم، لأنه يخفي معالم وجهه بلثام، فكان مما قدّم به المذيع لضيفه ليؤسس عليه، توصيفه لهذا العام بأنه عام الافتتان بالمنقّب، يهمز المتحدث باسم القسام، بتشبيه لثامه بنقاب المرأة.
وسبقه إلى هذا المنحى أحد المنتسبين للعلم، وقاله نصا «أبو عبيدة المنقبة» في سياق هجومه اللاذع على حركة حماس، واتهامها بالمسؤولية عن كارثة القطاع، ولا أدري أي نص اتكأ عليه دعيّ العلم هذا، في لمز الآخرين والسخرية منهم والطعن فيهم.
ومن ينسى ذلك الذي جعل يصرخ على منبره «جاهد بالسنن يا أبا عبيدة»، ولئن كنت قد تناولت حديثه من قبل تفكيكا وتعقيبا، لكنني لم أتعرض لحركة خبيثة قام بها هذا الدعي، عندما غطى وجهه وهو يتحدث عن أبي عبيدة، لمزا وتعريضا. وغيرهم يتحدى «أبو عبيدة» بأن يكشف عن وجهه، ويتحدث بغير هذا اللثام، متهما إياه بالجبن، والبعض الآخر يستند إلى الجهل بمعرفة شخصية «أبو عبيدة» ويرى أنه سبب كافٍ لعدم تصديقه.
أصبح أبو عبيدة رمزا في وقت تتعطش فيه الجماهير إلى الرموز، وأصبح قدوة في وقت تبحث فيه الشعوب عن قدوة حقيقية
في ما أعلم، هي المرة الوحيدة التي يُهاجم فيها ملثم على هذا النحو، فلم نسمع هذا الهراء عندما يتعلق الأمر بالقوات الخاصة، التي ينفذ عناصرها العمليات وهم يغطون كل أجزاء جسدهم بما فيها الوجه، فلا يظهر شيء منهم البتة، ومع ذلك لم يتهمهم أحد بأنهم جبناء. هل يرى العرب أن قناع زورو في الفيلم الهوليودي يستحق التصفيق، بينما قناع «أبو عبيدة» يستحق التجريح والتشويه والغمز واللمز والتحقير؟
رجال الطوارق الأمازيغ الذين عرفوا في التاريخ الإسلامي بالملثمين، الذين أسسوا دولة المرابطين، من عادتهم أنهم يتلثمون ولا يكشفون وجوههم، ومع ذلك لم يستهجن أحد صنيعهم، بل أطلق عليهم لقب نبلاء الصحراء، يضاف إلى ذلك أنهم أخذوا مكانة لافتة في الأعمال الروائية والسينمائية.
وقصص الشجعان الملثمين في التاريخ كثيرة، منهم العالم المعروف عبد الله بن المبارك، الذي قاتل في المعارك ملثّما لئلا يعرفه أحد.
ولست أدري ما هو الفارق لديهم في أن يلقي أبو عبيدة خطاباته وهو ملثم أو كان سافر الوجه، طالما أن بياناته تعبر عن كتائب القسام، ويخرج على الجماهير بالحقائق التي لم يستطع الاحتلال تكذيبها؟
هل نطالب الرجل بالكشف عن شخصيته وتعريض نفسه وأهله للاستهداف من العدو الصهيوني؟ هل سنسميها حينئذ شجاعة أم حماقة؟
هل كان الحذر والحيطة يوما جبنا وخنوعا؟ أليس الرجال على مرّ التاريخ في الحروب يرتدون الخوذات والدروع ليتقوا بها الضرب والطعن؟ أليس إخفاء الشخصية عن الأعداء من هذا القبيل؟
وما سبب هجوم علماء السلطة على لثام هذا الرجل والتعريض بأنه منقب؟ هل يرتديه في حفلة تنكريّة؟ أم هو يؤسس لإحدى الموضات الجديدة في ملابس الرجال؟
أرى أن اختصاص لثام الناطق باسم كتائب القسام بالهجوم، أنه لا يوجد سبب للهجوم عليه، بمعنى أن تصريحات الرجل غاية في الدقة والاتزان ومشفوعة بالتوثيق، فلا يستطيعون سبيلا إلى الطعن فيها، وهي تصل إلى الملايين، وتتأثر بها شعوب الأمة، بل لا نبالغ إن قلنا إنها تحظى باهتمام كبير لدى دول العالم بأسره، فلذلك أرادوا الطعن فيه من هذا الجانب، جانب اللثام.
قطعا لا أريد بهذه الكلمات الدعوة إلى تقديس «أبو عبيدة»، ولا إلى الغلو في شخصه، لكنها كلمة حق أردت بها إحقاق الحق، الذي يتراءى لي أن الهجوم على «أبو عبيدة» يأتي بدافع تأثر الجماهير العربية والإسلامية بخطاباته، حتى أضحى رجل الأمة المعروف لدى شيبها وشبانها وأطفالها ونسائها، أصبح أبو عبيدة رمزا في وقت تتعطش فيه الجماهير إلى الرموز، وأصبح قدوة في وقت تبحث فيه الشعوب عن قدوة حقيقية.
لقد بلغ حجم التأثر بشخصية المتحدث باسم كتائب القسام، أن اسمه يتداوله المطربون والفنانون، الذين تقوم أعمالهم على الترفيه المحض، وأصبح الناس يلتفون حول خطاباته في المقاهي، كحالهم مع مباريات الكرة، وأصبح حلم الناشئة أن يكون كلهم «أبو عبيدة».
هذا التأثير هو الذي ضاقت به صدور قوم من بني جلدتنا، مدفوعين بحسابات أيديولوجية، أو بالتبعية للأنظمة المعادية للتيار الإسلامي، ويصنفون حركة حماس ضمن هذا التيار، وبعضهم غارق في وحل التطبيع مع الصهاينة والتقارب معهم على حساب إخوة الدين والدم والعروبة والجوار، إلى درجة أن أحدهم يوصي الصحافي الصهيوني إيدي كوهين على إحدى مساحات x (تويتر سابقا) بأن تنشط دولة الاحتلال لقتل مئة ألف فلسطيني، وأن دولة الاحتلال تسامحت مع الفلسطينيين أكثر من اللازم.
هم يريدون لجماهير الأمة أن تبقى على هامش الحياة، لا تقوم لهم قائمة تجعلهم يسألون حكامهم ويحاسبونهم، لذلك أرادوا للناس أن يتخذوا قدوات لهم رؤوسا جهالا تافهين، يغرسون الخور والضعف والدعة في الناشئة خاصة.
من أجل هذا يتم الهجوم على «أبو عبيدة» لأنه صار رمزا، في الوقت الذي دبّ في الأمة داء تحطيم الرموز، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.