
مرّت ثلاث سنوات منذ إعلان تشكيل مجلس القيادة الرئاسي في اليمن في 7 أبريل 2022، كخطوة وُصفت حينها بأنها “تحول تاريخي” يهدف إلى إنهاء حالة التنازع على السلطة، وتوحيد الجبهة المناهضة لجماعة الحوثي، وإعادة إحياء مؤسسات الدولة، والذهاب نحو تسوية سياسية عادلة تُنهي الحرب المستمرة منذ أكثر من عقد.
لكن بعد هذه السنوات الثلاث، تتصاعد الأسئلة أكثر من أي وقت مضى: ماذا تحقق فعليًا؟ وأين أخفق المجلس؟ وهل لا يزال هذا الكيان قادرًا على لمّ شتات القوى المتصارعة تحت مظلة واحدة؟ أم أن واقع الانقسامات بين أعضائه، وتوزعهم بين العواصم، قد حوّل المجلس إلى هيئة رمزية، بعيدة عن نبض الداخل اليمني وتحدياته المعيشية والسياسية والأمنية؟
بداية بتفويض واسع… وانطلاق مرتبك
تشكّل مجلس القيادة الرئاسي بموجب إعلان رئاسي صادر عن الرئيس السابق عبدربه منصور هادي، في لحظة بدت فارقة بعد سنوات من الجمود السياسي والعسكري. وضمّ المجلس ثمانية أعضاء، يمثلون مختلف القوى والتيارات اليمنية، بينهم رئيس المجلس الدكتور رشاد العليمي، وقيادات عسكرية وسياسية بارزة مثل عيدروس الزُبيدي، سلطان العرادة، طارق صالح، عبد الرحمن أبو زرعة، عبدالله العليمي، فرج البحسني، وعثمان مجلي.
كان يُفترض أن يتولّى المجلس صلاحيات رئيس الجمهورية ونائبه، مع تفويض كامل لإدارة المرحلة الانتقالية، وتوحيد الصف الوطني، واستعادة مؤسسات الدولة، والتوجه نحو عملية سلام شاملة. إلا أن الانطلاقة سرعان ما اصطدمت بالواقع المعقد على الأرض، وبدلاً من بناء تكتل موحد، ظهرت التباينات والخلافات، وتحوّلت إلى حالة مستمرة من الانقسام السياسي والمناطقي.
نجاحات محدودة ومكاسب جزئية
لا يمكن القول إن المجلس لم يحقق شيئًا خلال ثلاث سنوات، إذ استطاع تثبيت حضوره الدولي والإقليمي، من خلال مشاركته في المحافل السياسية، والحفاظ على الاعتراف الدولي بالحكومة الشرعية. كما نُظر إلى تشكيل الحكومة الحالية برئاسة أحمد عوض بن مبارك، مطلع عام 2024، كمحاولة لإعادة إنتاج كيان سياسي وتنفيذي أكثر كفاءة وانضباطًا، بعد إخفاق حكومة معين عبد الملك في تلبية تطلعات الشارع.
على المستوى العسكري، شُكّلت قوات جديدة في بعض المحافظات، وتوسّعت دائرة التجنيد والتدريب، خاصة في المناطق الجنوبية، إلى جانب استمرار الدعم من التحالف العربي، وبالذات من السعودية والإمارات. كما حظيت عدن، العاصمة المؤقتة، بعدد من المشاريع الخدمية بدعم سعودي وإماراتي، وإن ظلت محدودة الأثر أمام حجم الاحتياجات المتزايدة.
فشل في توحيد الصفوف… وتراجع في حضور الدولة
ورغم هذه المكاسب الجزئية، إلا أن التقييم العام لأداء المجلس يُظهر فشلاً واضحًا في الجوانب الجوهرية، وفي مقدمتها عجزه عن تشكيل جبهة موحدة في مواجهة جماعة الحوثي. إذ ظلت الجبهات العسكرية متفرقة، غير منسقة، وكثيرًا ما تأثرت الترتيبات الميدانية بالخلافات السياسية بين المكونات المنضوية في المجلس نفسه.
أبرز إخفاقات المجلس تجلّت في استمرار التباينات العلنية بين أعضائه، وغياب أي صيغة تفاهم دائمة أو آلية عمل مشتركة. فالزُبيدي، على سبيل المثال، يقود المجلس الانتقالي الجنوبي من أبوظبي، بينما يواصل سلطان العرادة دوره كسلطة فعلية في مأرب. أما طارق صالح، فيقود قواته من الساحل الغربي، خارج منظومة وزارة الدفاع، وهو ما ينسحب على بقية الأعضاء الذين بات لكل منهم منطقة نفوذ وولاءات خاصة، بعيدًا عن مركزية القرار السياسي أو العسكري.
هذا التوزع بين العواصم، حيث يُقيم بعضهم في الرياض وآخرون في أبوظبي أو القاهرة، عمّق الفجوة بينهم وبين الداخل اليمني، وأسهم في تعزيز ما بات يُعرف بـ”مناطق الكانتونات”، حيث تتحكم كل جماعة أو شخصية بمنطقة جغرافية دون رقابة أو توجيه مركزي حقيقي.
كانتونات متعددة… وانهيار لمفهوم الدولة
بات من الواضح أن مناطق “الشرعية” لم تعد كيانًا موحدًا، بل أشبه بفسيفساء متنافرة. فعدن تخضع لسيطرة المجلس الانتقالي، وتعيش تحت إدارة أمنية وعسكرية منفصلة. ومأرب تحت نفوذ العرادة والإصلاح، بينما الساحل الغربي يخضع لقيادة قوات طارق صالح. أما حضرموت، فتمرّ بصراع داخلي بين مكونات محلية تطالب بالحكم الذاتي وترفض وصاية أي طرف، كما هو حال الشيخ عمرو بن حبريش وحلف قبائل حضرموت.
في المهرة، الوضع مختلف تمامًا، إذ تعيش تحت نفوذ سلطوي خاص بمكونات محلية رافضة لأي حضور مركزي، في حين تبقى شبوة ساحة تجاذب مستمر بين الانتقالي والإصلاح. هذه الحالة من التعدد والسيطرة الفعلية المنفصلة تعني فعليًا أن ما يُعرف بالشرعية قد تفككت على الأرض، ولم تعد سوى غطاء سياسي هش، لا يعكس واقع السلطة ولا يمثل وحدة القرار.
المواطن… بين الإحباط والحنين للدولة
من قلب هذا المشهد، يبرز صوت المواطن العادي، الذي كان يأمل أن يكون مجلس القيادة الرئاسي بداية نهاية الحرب، وبوابة للخلاص من الانقسام والفوضى. لكن بعد ثلاث سنوات، باتت كثير من الأوساط الشعبية تنظر إلى المجلس ككيان بعيد عن هموم الناس، محصور في مناكفات سياسية وولاءات خارجية، غير قادر على تحسين الخدمات أو وقف الانهيار الاقتصادي.
الرواتب لا تُصرف بانتظام، وقطاعات الصحة والتعليم تنهار، والانفلات الأمني يزداد، والمواطن في العاصمة المؤقتة عدن والمحافظات الأخرى يشعر بأن الدولة ما زالت غائبة، إن لم تكن ميتة فعليًا. هذه الصورة القاتمة دفعت البعض للحديث عن فقدان الثقة بأي سلطة سياسية حالية، والمطالبة بإعادة النظر في تركيبة المجلس أو حتى البحث عن صيغة وطنية بديلة.
سؤال المرحلة: إلى أين يتجه المجلس؟
في الذكرى الثالثة لتشكيله، يواجه مجلس القيادة الرئاسي لحظة حاسمة. فإما أن يراجع أداءه ويعيد بناء شراكة سياسية حقيقية بين مكوناته، ويضع حدًا لحالة التفكك، أو أن يستمر في التآكل البطيء حتى يلفظه الواقع السياسي والاجتماعي كليًا.
ثمة دعوات متزايدة لإعادة هيكلة المجلس، وتحديد صلاحيات واضحة، وإنشاء مركز قرار موحد، مع ضبط العلاقة بين الحكومة والمجلس، وفرض رقابة فاعلة على السلطات المحلية. لكن مثل هذه الخطوات تتطلب إرادة سياسية غير متوفرة حتى الآن، في ظل تمسك كل طرف بنفوذه ومصالحه.
يبقى السؤال مفتوحًا: هل يستطيع مجلس قيادة شتات أن يلمّ جراح بلد مشتت؟ أم أن التجربة تمضي نحو نهايتها بصمت، فيما يتجه اليمن إلى مزيد من الانقسام؟
صحيفة عدن الغد – القسم السياسي