عدة حضارات مرّت على مدينة درنة الليبية، جعلتها موطناً لمواقع أثرية شاهدة على تاريخ عصور سابقة. وتقع درنة بين ساحل البحر الأبيض المتوسط وسلسة تلال الجبل الأخضر، ويقسّمها أحد أكبر أودية ليبيا إلى شطرين.
وتأسّست درنة في العصر الهلنستي قبل الميلاد، وبُنيت كمستعمرة يونانية عام 631 قبل الميلاد. وأصبحت فيما بعد معروفة بمركزها التاريخي الذي يضم مسجداً وكنيسة وكنيساً، متأثرةً بثقافات عديدة هي اليونانية والرومانية والبيزنطية والإسلامية.
وخلال الفترة اليونانية، ضمّ الموقع مدرسة فلسفة أسّسها أحد تلاميذ سقراط، وفي العصر الروماني أصبحت معروفة بجالية يهودية كبيرة.
وكان أنْ تحوّل المَعلم الذي يبعد حوالى 60 كيلو مترا شرقي درنة، إلى مدينة رومانية في عام 74 قبل الميلاد، وبقي عاصمة كبيرة حتى زلزال عام 365 للميلاد، والذي وقع تحت البحر قرب جزيرة كريت.
وقد ألحق إعصار “دانيال” المدمّر أضرارا جسيمة بأبرز معالم درنة – موقع شحات الأثري (قورينة)، الذي أضافته منظمة اليونسكو إلى قائمة التراث العالمي المعرّض للخطر.
وقالت اليونسكو إنها “على اتصال بعلماء الآثار على الأرض، ويحاول فريق التصوير عبر الأقمار الاصطناعية التابع لها أيضا تحديد الضرر المحتمل”.
ماذا يضم الموقع؟
تتكون آثار موقع شحات من معبد زيوس اليوناني الضخم على بُعد حوالى كيلومتر واحد شمال أحياء بطليموس وأغورا.
وإلى الشمال الغربي، يقع حرم أبولو في وادٍ شديد الانحدار حيث تنبثق نبع مياه عذبة من تحت الأرض، وهو موقع المستوطنة اليونانية الأصلية.
ويبدو في الموقع رواق صالة الألعاب الرياضية الهلنستية التي يعود تاريخها إلى القرن الثاني قبل الميلاد، والمسرح الروماني المجاور.
وتضمّ الآثار منزل الكاهن جيسون ماغنوس، الذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني أو أوائل القرن الثالث الميلادي، ويحتوي على فسيفساء هندسية.
ويضم حي أغورا تمثالاً ضخما جالسا وتماثيل أخرى بمثابة حرم لإلهة الخصوبة ديميتر وابنتها، كما يقع الأرشيف في الحي، ويظهر فيه نقش يوناني.
ويضم المَعلم مُدرّجا مسرحيا يعود تاريخه إلى العصر الهلنستي.
ويحتوي حرم أبولو على حمامات تراجان، حيث تظهر بقايا نظام أرضية الهايبوكوست، الذي سمح للهواء الساخن بالدوران تحت الأرض.
ماذا لحق بالآثار؟
نشرت المحللة البارزة في شؤون ليبيا بمجموعة الأزمات الدولية، كلوديا غازيني، سلسلة من الصور التي أظهرت الضرر اللاحق بالموقع.
وتقول غازيني على منصة “إكس”: “منذ حدوث الفيضانات، تستمر المياه في الخروج من الأرض لأسباب غير معروفة. ويبدو أنها مياه صرف ملوثة تتدفق الآن عبر الأنقاض. ومن المحتمل أن تكون الفيضانات قد تسببت في أضرار بخزانات المياه في المنطقة”.
كما سقط جدار في شارع الوادي الذي يربط الجزء السفلي والعلوي من الموقع الأثري، بحسب غازيني، وقد أدى هذا إلى تغيير كيفية تدفق المياه، و”يخشى السكان المحليون أن يشكّل ذلك خطرا على الموقع في المرة التالية التي تهطل فيها الأمطار”.
كما سقطت “كتل من الرخام من منطقة المسرح”، وإذا ما استمرت المياه بعبور الموقع، فقد يتأثر الجدار الخارجي له؛ مما يتسبب بدوره في مزيد من الضرر.
وذكر موقع “ميدل إيست آي”، الذي تحدّث إلى أحد المسؤولين في هيئة آثار موقع الشحات، أن المياه كشفت عن قطع من الرخام مدفونة تحت الأرض في الجزء الجنوبي.
كما غمرت الفياضانات بعض المقابر وغيرها من الهياكل.
وقد دُفنت العديد من المقابر والحجارة الجنائزية وغيرها من الهياكل الأثرية التي ترجع إلى العصور اليونانية والرومانية والبيزنطية تحت الطين، أو حملتها السيول إلى الوديان السفلية لمنطقة المنصورة، بحسب “ميدل إيست آي”.
وثمة مخاوف حول مواقع أثرية أخرى، لا سيما ميناء أبولونيا، الذي أصبح جزءا من مدينة سوسة.
وقال أشخاص في المنطقة لموقع “ميدل إيست آي” إن بعض القطع الأثرية قد جُرفت إلى البحر.
جرف قبور
إلى جانب مسجد الصحابة الكبير شرقي درنة، الذي افتتح عام 1975 وتضرّر بفعل الإعصار، مقبرة خاصة بأكثر من سبعين صحابيا كانوا جزءا من الفتح الإسلامي في شمال أفريقيا، وقد بُنيت هذه المقبرة في العهد العثماني.
ومن هؤلاء زهير بن قيس البلوي، أبو منصور الفارسي وعبد الله بن بر القيسي.
وقد فتح عمرو بن العاص مدينة درنة بعد فتح مصر في أوائل العصر الإسلامي.
لكن الآن، جرف الإعصار تلك القبور، وألحق ضررا بتاريخ المدينة التي تقاطعت فيها حضارات عريقة عديدة، بعدما قتل الآلاف من سكانها.
بي بي سي عربي