Blogمقالات
أخر الأخبار

ماذا عن الإبادة؟ صراع العقل والضمير

أمام عينيك يسقط ولد صغير من الرصيف إلى شريط القطار، القطار يقترب سريعاً وأنت أقرب الناس إلى الولد، يمكن أن تقفز إليه محاولاً إنقاذه ولكن أغلب الظن أن القطار المقترب سيدهسكما معاً.
يمكن أن يلجمك العقل فلا تتدخل، فلا فائدة من موت شخصين بدلاً من موت شخص واحد، ولكن أين تهرب من ضميرك ومن صورة الأشلاء؟ وهل تستطيع النوم بعدها؟
ما سبق ليس “معضلة القطار” التي يحب استخدامها أهل الفلسفة، فعلى عكس المشهد السابق، تمنحك “معضلة القطار” دور البطولة وربما الألوهية إذ تجعلك أنت السائق، وأمامك على شريط القطار خمسة أشخاص مقيّدين، ويمكنك أن تنحرف بالقطار إلى الشريط الآخر حيث شخص واحد مقيد، فتقلل عدد الضحايا، فهل من حقك اتخاذ مثل هذا القرار، أي اختيار من يموت؟

ثمة تنويعات لا نهائية على هذا الاختبار، كأن يكون الشخص الوحيد طفلاً بريئاً بينما الأشخاص الخمسة مجرمون آثمون، أو أن لا يكون هناك سوى قضيب واحد مقيّد إليه عدد من الأبرياء، وهذه المرة أنت تقف فوق جسر يعلو القطار ويمكنك أن تدفع شخصاً كبير الحجم من الأعلى فيعطّل القطار، ويموت واحد بدلاً من الجميع.
تتنوع تلك الاحتمالات الفلسفية ولكن واقع الأمر أنها نادراً ما تواجهك في الحياة، وإنما يضعك واقع الحياة فعلاً -وفي كثير من الأحيان- في قصة الولد الصغير الذي ينتظرك أن تتدخل من أجله وإن دفعتما الثمن معاً، قد يكون الولد الصغير في القصة هو معتقل سياسي ينتظر أن تدافع عنه، أو فقير جائع يريدك أن تتحدث باسمه أو تقاسمه رزقك، أو ضحية تعذيب يتوقع منك أن تتدخل من أجله، أو، قطاع صغير محاصر يتعرض للإبادة أمام أنظار العالم بأسلحة دولة نووية، وتماماً كالولد الصغير الذي سقط على شريط القطار، يخبرك العقلانيون إنك لا قبل لك بإنقاذه، لأنك لو حاولت، فإنكما، في أغلب الظن، ستموتان معاً.
تتعدد مخاطر المعادل الواقعي لقصة الولد والقطار، ماذا لو استدرجتك “غزة” إلى الحرب؟ هل أنت مستعد لدفع الثمن؟ لمواجهة أميركا والناتو؟ لسقوط الضحايا بالآلآف وتدمير المدن؟ ماذا عن الاقتصاد الذي يعاني بالفعل؟ عن سعر العملة وانقطاع الكهرباء وأزمات السكر؟ يتحدث العقل بكل عقل.
ولكن ماذا عن الإبادة؟ ماذا عن المجاعة الفلسطينية في شمال القطاع؟ ماذا عن قفص الموت الذي ينزح داخله الضحايا من ركن إلى ركن؟ ماذا عمن نجا من القصف الأول، فأصيب في القصف الثاني وفقد ابنه في القصف الثالث؟ وماذا عن منفذ غزة الوحيد إلى العالم؟ عن آلاف الجرحى الذين يبحثون عن فرصة للخروج والعلاج؟ في بيتك شخص مخطوف يتم تعذيبه طوال الليل فكيف يمكنك أن تغفو على أصوات عذابه؟ يتسائل الضمير.
ليس سراً أن صحة المرء النفسية تتحسن كلما ضاقت الفجوة بين عقله وضميره، وإذا كانت العقلانية هي اعتبار المنطق مصدراً للمعرفة والتبرير، وإذا كان الضمير هو عدم التعارض بين سلوك الفرد وقيمه الأخلاقية، فإن الوقائع المتطرفة القاسية، كالأخطار المهدِّدة للحياة، أو أن تشهد على إبادة جماعية، تضع الجميع أمام التصادم الصعب بين العقل والضمير، فيحاول كل منهم أن يقرّب أحدهما من الآخر، على طريقة تقريب الخيط من الإبرة أو الإبرة من الخيط: “إن عدم التدخل هو الخيار الإنساني الحقيقي، لأنه، في المحصلة النهائية، سيمنع توسع الحروب وسقوط المزيد من الضحايا”، يقول من حسموا معركة الضمير لصالح العقل.

“بل إن التدخل الآن، لمصلحة الضحايا، هو ما سيمنع تغول الوحش على الآخرين في المستقبل” يقول من وجدوا طريقة لجعل الضمير أفضل مسار للعقل، “إننا لا نستحق الحياة لو سمحنا لكل هذا الموت أن يستمر” يقول من يتحدث بلسان الضمير وحده.
أين الصح وأين الخطأ؟ في “أوقات عصيبة”، إحدى أشهر روايات تشارلز ديكنز، يتفادى السياسي جيمس هارتهاوس اعتناق أي أفكار، لأنه اكتشف أن “كل مجموعة من الأفكار تتساوى في الخير والشر مع أي مجموعة أفكار أخرى”، وعلى الرغم من قوة الحجج البراغماتية التي يسوقها ديكنز على لسان جيمس في الرواية، فإن المؤلف ينحاز إلى الضمير في النهاية، ربما لأن المرء قد يبدل أفكاره مع مرور الزمن، لكن يصعب عليه أن يبقى إنساناً إن هو صمت أمام مجزرة.

محمد خير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى