ثقافة وفكر
أخر الأخبار

ما بين الكلام حيا والكلام ميتا.. بين الملفوظ والمكتوب

على قدر ما تثّبت الكتابة الكلام وتقيّده، فإنّها تسمح أيضا، لسبب ما أو ذريعة ما، بإعادة ترتيبه أو بتصحيفه وتغيير معناه. وقد ذكرنا في مقال سابق أنّ الشّعر الجاهلي وهو ديوان العربيّة لا العرب وحدهم، لم يسلم من هذا التّبديل. وسواء علينا أحملنا رواياته المتدافعة وهي أشبه بروايات ناسخة وأخرى منسوخة، على أنّها مظهر من مظاهر التّقليد الشّفهيّ في رواية الشّعر أو مظهر من «كتابيّته»، فلا مناص من الإقرار بأن سلطة الكتابة نسبيّة؛ وليست مطلقة كما قد يتبادر إلى الذّهن، بل ربّما سوّغنا الرّأي القائل بهشاشة الكتابة وبعدم الإفراط في تقدير «الحقيقة» حقيقة الكلمة المكتوبة، وذهبنا مذهب الذين يرون أنّ آلسّلطة -كلما تعلق الأمر بالكتابة- سلطتان مشتقّتان من نبعين مختلفين ولكنّهما متجاورتان في النصّ الواحد، أو هما لازمتان وكلّ منهما مكمّلة للأخرى. وقد تتصدّر إحداهما أو هي تغلب على قرينتها. والسّلطتان هما: سلطة الكلمة مكتوبةً وسلطة الكلام منطوقًا. وعسى أن يكون من الواضح أنّنا نستخدم اصطلاح «كلمة» للتّشديد على السّمة الكتابيّة في النصّ، واصطلاح «كلام « للتّشديد على السّمة الشّفهيّة فيه. واللّغة إنمّا تتأدى بطريقتين: الكلام الشّفهيّ والكلام المكتوب. وهما نظامان ينهضان على حامل مادّي أو نفسيّ ويتوزّعان على مجالين: صوتيّ وخطيّ. والأوّل غامض ملتبس أو هو مبهم مادام يدّل على أيّ أداء للغة، ولذلك نستخدمه بمعنى «وحدة دلاليّة شفهّية» تتأدّى بوساطة حوامل التّخاطب المسموع. وأمّا الثّاني فبحوامل التّخاطب المرئيّ.
نحتفظ من هذا التّفريع: كلام وكلمة، بما هو أساسيّ في أيّ تعبير أدبيّ أو شعريّ، فالكلمة هي منذ البدء تسجيل الكلام. والكلام سابق أبدا على الكلمة. ومن ثمّ فإنّ الكتابة، في علاقتها باللسان أو اللغة الصّوتية، ذات طبيعة «استعاضيّة «أو»استبدالية». ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى عناية المسلمين باصطلاحات الضّبط في القرآن وعلامات الوقف، مثل وضع الصّفر فوق حرف العلة للدّلالة على زيادة ذلك الحرف فلا ينطق به في الوصل، ووضع خاء صغيرة بدون نقطة فوق أيّ حرف للدّلالة على سكونه.
إنّ الملفوظ ذو وفرة وغنى من حيث مكوّناته الصّوتيّة، إذ يتميّز بقوّة الصّوت أو مداه وبسرعته أو بطئه وبنغمه أو نبرته. وهو لا يستدعي الأسماع فحسب، وإنّما « المرئيّ أيضا ويستخدمه لتوضيح فرق أو لإبراز معنى، إذ غالبا ما تلابسه حوامل أخرى إضافيّة ليست من طبيعته مثل الإيمائيّة التّعبيريّة وحركة الذّات المتكلمة وما إلى ذلك ممّا هو أمسّ بالإيقاع /الإنشاد. وهي سمات ممّيزة للكلام الشفهيّ قد تجلو بعض بواعثه وخفاياه. وقد تعرب عن خلجات صاحبه وبدَواتِ نفسه. وقد تستوضح معنى وتستوفي فكرة. ولكنّها تذهب بذهاب الكلام وتنطوي بانطوائه. والكلام إنّما يكون حيث لا يكون، فهو الذي ينتمي أبدا إلى الماضي أو أنّ حقيقته في الماضي وليس في «الحال». فثمّة حدود يقف الكلام إزاءها مصدودا لا تسعفه حركة ولا تنجده إيماءة أو سانحة من السّوانح المرئيّة التي يترصّدها المتكلّم (المنشد) ويتذرّع بها. من ذلك سرعة عطبه وتلاشيه وهو الخاطف الزّائل، ووضعه المحكوم بحضور آنيّ مشترك: حضور صاحبه وسامعه معا، المقيّد بـ «أنا ـ هنا ـ الآن» وشروطه السّمعيّة الصّوتيّة ووِضْعاتِها. فهذه كلّها أمارة من أمارات عوَزه وعلامة من علامات دثوره، قد تفسّر،في جانب منها؛ تفاوت الإنشائيّة مراتب ومنازل؛ وهي النّاحية التي استرعت غير واحد من النقاد القدماء. وقد ذكر ابن الأثير أنّ العرب «وهم أهل الفصاحة والبلاغة من غير تعلّم، [كانوا] يجيدون في القليل من أشعارهم».
فبأيّ ذرائع تتذّرع الكتابة وبأيّ حيل تحتال، لتحفظ على الكلام «الحيّ» ثروته وغناه؟ وكيف لها أن تعرب عن الأصوات الموقّعة والتعبيريّة الحركيّة، بكلمات مكتوبة تقيّد الإدراك وتحصره في مجال واحد هو مجال المرئيّ؟
من الطّبيعيّ إذن أن تتمخّض الكتابة، خاصّة كتابة القصيد عن خسارة يصعب أن يعتاض عنها. فالكلمة المكتوبة، منظورا فيها من موقع الشفهيّة، لا تحوي خصائص ذات نظام صوتيّ ولا هي تقتضي مواكبة الحركيّ الإيمائيّ، ولا المقام الحميم الماثل للعيان، حيث يتسرّب المتكلّم (المنشد) في كلامه ويفتنّ في أساليب خلق التّأثير في سامعه، بما يملأ حواسّه ويفعم شعوره.
إنما هي خلو من كلّ هذه السّمات التي تكوّن ثروة الملفوظ الشفهيّ وغناه. والكتابة بهذا المعنى لا تعدو كونها إجراء يقيّد الكلام أو يثبّته، على قدر ما ينسخ وجوهه التعبيريّة ويطمسها. ولعلّ هذا ما يجعل الكلمة المكتوبة، وقد استفرغت من غناها الصّوتيّ، تنقاد بسرعة أكثر من الكلام إلى نوع من الاستعمال المتواطئ أو المشترك الذي يحافظ على المعنى نفسه في مختلف صيغه وأشكاله: فهي وقد ضاعت منها خصائص الكلام الصّوتيّة أو هي تلفت لحظة الكتابة؛ تتثبّت في الكلام المكرور وتترتّب في صيغ متعاودة متواترة. وربّما أمكن بناء على هذا، أن نعيد النّظر في «شفويّة « الشّعر القديم [الجاهلي]، وأن نفسّر ظاهرة تكرير المعاني والموضوعات والصّيغ في الشّعر العربيّ قديمه ومحدثه؛ حتى لكأنّهم كانوا يكتبون بأصابع واحدة. وكثير منه «مقولب» أو هو من معاد القول ومكروره. وربّما أعوزته الصّفات الفرديّة الممّيزة التي هي ضالة الشّاعر.
فلعلّ هذه الظّاهرة أن ترجع إلى الكتابة، وليس إلى الشّفويّة كما دأبنا على القول؛ أي الكتابة التي نشدّد على أنّها يمكن أن تنشأ خارج الأمّية بالخطّ، بل لعلّ في حفاوة النّقد العربيّ القديم بـ»سرقات الشّعراء وما تواردوا عليه» (هو عنوان الكتاب المفقود المنسوب إلى ابن السّكيت.243هـ). ويكاد لا يخلو مصنّف منه، ومن باب قائم به؛ ما يدلّ على أنّ الحسّ النّقديّ لم يتنبّـه إلى هذه الظاهرة، إلاّ مع بدايلت التّدوين أو الكتابة.
إنّ «الاستعمال المتواطئ» هو أحد سمات الكلمة المكتوبة أيضا. ولعلّ هذا ما جعل أكثر شعراء العربيّة؛ وقد أدركوا منذ أن أنشد عنترة «هل غادر الشّعراء من متردّم»، أنّ ظاهرة تكرير المعاني كما هي، ممّا يجافي خاصّة الشّعر ويذود عنه جوهره؛ يصرفون همّهم حينا إلى تكثيف «المعنى على المعنى» أو ما يمكن أن نسمّيه «المعنى المكنّى» الذي يتأدّى على أساس من معنى سابق يحتال له الشاعر أو يحتال عليه، بشتّى أساليب القول وأفانينه. وربّما صرفوه آنا إلى «المعنى غير المسمّى» أو الذي تتعذر تسميته، أو ما يمكن أن نسمّيه «اللاّمتصوّر» أو «المعنى الإحالي». وربّما صرفوه إلى المعنيين معا كما هو الشّأن في نماذج من شعرنا قديمها وحديثها، غير قليلة حيث يتسنّى أن نقف على «نسبيّة السّلطة» سلطة الكلمة المكتوبة أو على «سلطة النّسبي» فيها، أي الكلمة التي هي همّ الكتابة وقلقها الأشدّ. وربّما حقّ لنا استئناسا بهذا الاستعمال المتواطئ في المكتوب؛ أن نستعير لمثل هؤلاء الشعراء، تعريف فاليري للكاتب من حيث هو «الشّخص الذي لا يقع على كلماته».
فالكلمة المكتوبة هي بحكم «مقامها التّلفظيّ» من الكلام الذي لا تستجاب دعوته في الحال، ومصيرها غامض مجهول، وأثرها موقوف أبدا على المرسل إليه الذي يمكن أن يردّ عليها قيمتها الكلاميّة أو أن «يحيّنها» في وضع خاصّ به وبمواقيت قراءته ومواقعها.هي أشبه بصرخة مكتومة في بياض الورقة إذ لا تستثير تلك الاستجابة الآنيّة التي يستشيرها الشفهيّ السّماعيّ. إنّما هي تحدّ كلمة لاحقة بها وأخرى لاحقة عليها وتجعل الكلام (النّصّ) آخذا بعضه بعضا. وغالبا ما تكون قيمتها من حيث التّبادل تواطئيّة تفكّرية تأمّلية، إذ يعوزها الصّوت أو الكلمة النّقيض التي من شأنها أن تؤثّر في التلفّظ أو القول. فهي «هبة» ذات معنى واحد وحيد، و»خسارة لغوية» و»قربان» و»محرقة»، بل هي تخلّ وهجران وخذلان إذ تهجر عالم الكلام «الحيّ» لتتأبّد في الكلام «الميّت». والكتابة بهذا المعنى مزق وصدع وجرح. وفي «الشّعر على الشّعر» أو «الخطاب الواصف» كما نسمّيه اليوم ؛ حيث الكتابة تتملى ذاتها وتتفكّرها وتتدبّر بناها ووظيفتها، أكثر من إشارة ومن قرينة دالة على أنّ مكابدة اللّغة تستبق نشوء القصيدة، بما يسوق إلى القول إن الشّعريّة «الكتابيّة» تتأدّى في صنع الشّعر على قدر ما تتأدّى في الصّمت العويص الذي يسبق القصيدة، ويهجس بها.
ما يعنينا في هذا السّياق إنّما هو المشادّة التي لا فكاك منها، بين الكلمة مكتوبة والكلام ملفوظا.
من أين تتأتّى هذه المشادّة؟ وما هي علّتها؟ وكيف للكلمة الشّعريّة المكتوبة وهي «التواطئيّة» «الناقصة» المستفرغة من أصواتها وأجراسها أن تضمن سيرورتها الكلاميّة اللاّحقة؟ وهل للكتابة وهي «الكلام الميّت» أن تعتاض عن «خسائرها «الصّوتيّة والإيقاعيّة، بعلامات خطيّة مرئيّة، وتحفظ مقاما «تذاوتيّا» تتسنّمه، وتحافظ، في الكلمة وبها، على طاقة التعبيريّة الحواريّة الحيّة؟

منصف الوهايبي – القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى