“ما لم تخبرنا به آمنة” رواية بنَفَسٍ تاريخي يستكشف المستقبل
الكاتبة تطل على وطنها من نافذة أسرة بورسعيدية
في روايتها الجديدة “ما لم تخبرنا به آمنة” تقدم الكاتبة الواعدة رهام راضي قراءة متعمقة لمصر في فترة الأربعينات، ورغم النفس التاريخي المسيطر على مفاصل الرواية، حيث عادت الكاتبة إلى عام 1919 وختمت روايتها عند العام 1967، إلا أن القارئ يستكشف رؤية مستقبلية حداثية تربط ماضينا بحاضرنا ومستقبلنا وربما هذا المغزى من وراء العمل الذي يحتمل قراءات عدة.
تناقش الكاتبة بهدوء أعقد مشكلاتنا، وتطل على مصر الوطن من نافذة أسرة “سيد حمودة” المواطن البورسعيدي الذي تجري في عروقه الدماء الوطنية، والذي ضحّى في طفولته وفي كبره بالغالي والنفيس لهدف واحد فقط هو التغيير وتحقيق النصر.
الصبر والمقاومة
تقع الرواية، الصادرة عن دار نشر الرواق، في فترة الحرب العالمية الثانية وصولا إلى نكسة 1967، وتتخذ من القاهرة وبورسعيد مسرحا لأحداثها، وفي براح زماني مكاني تم تشييده بتحكم فائق، تنضج الأفكار وتنسج القصص والحكايات، ومعها تبنى شخصيات الرواية على مهل وبوعي شديد من كاتبة الرواية.
الثيمة الملحوظة والمسيطرة على الرواية هي الصبر والمقاومة التي يتسم بها وطن عانى من الويلات والمحن، والكثير من المشكلات والإحباطات وبعض الأفراح والأحزان، التي فرضت نفسها على سكان عمارة، تشعر أن الروائية واحدة من قاطنيها، تعيش تفاصيلهم الدقيقة وتنقل أصواتهم وأحلامهم البسيطة وأناتهم وأوجاعهم المزمنة، وتصنع من خلالهم أروع القصص والحكايات التي أضفت على السرد حيوية وثراء.
تمثل شخصية “آمنة” الأم الأرمنية الأصل المصرية الروح والهوى، بوصلة تحرك الأحداث وتقود أحلام وأفكار ومصائر الجميع، فهي البصيرة التي ترى رغم أنها فاقدة للبصر، وهي أم للبورسعيدي الوطني “سيد حمودة”، الذي فقد والده وعرف اليتم مبكرا وتركه يواجه العالم والمشكلات، مسترشدا بنصح وتوجيه والدته آمنة، وفي شقة بسيطة يقطنان بها.
تخرج الروائية بنسيج متكامل لحكايات سكان عمارة بأكملها، يمثل سكانها مصر الوطن والشعب والهم والحلم المشترك للخلاص من المحتل البريطاني، والخلاص من ويلات الحرب العالمية الثانية.
وإذا كانت آمنة الكفيفة هي زرقاء اليمامة التي تبصر ما لا يبصره الآخرون حول حياتهم ومستقبلهم ومصائرهم، فإن “فريد” ابن سيد حمودة هو الرادار الذي رصدت الكاتبة من خلاله تحولات المجتمع المصري، في حقبة تاريخية تتسم بالثراء والزخم والتنوع في الأحداث والأفكار.
التاريخ والخيال
لقد أعان الكاتبة على صياغة سرديتها بإحكامها شغفها بالتاريخ، وجهدها البحثي المطول في الكتب والتقارير والصحف القديمة التي صدرت في تلك الحقبة، بل والتواصل المباشر مع شخصيات حقيقية عاشت وعاصرت من عاشوا في تلك الفترة، ولهذا أجادت الكاتبة في وصف الأحداث بمنتهى التجرد والدقة، فقدّمت أسماء شوارع وأماكن ومقاهي حقيقية سواء في بورسعيد أو القاهرة، ومزجت ببراعة بين التاريخ المعبّر عن الواقع والمعاناة، وبين الحلم والمستقبل المعبّر عن الخيال والطموح لمعظم الشخصيات، ووظفت في ذلك لغة ومفردات وجملا حوارية هي بنت تلك الفترة الزمنية الثرية.
وعلى عكس أعمالها الروائية السابقة التي مزجت فيها العامية بالفصحى واستغرقت أحيانا في العامية الدارجة، كما في «مرآة فريدة»، “سمعة شريفة”، و”حكمة بكر” تبنت الكاتبة رهام راضي اللغة العربية الفصحى في روايتها “ما لم تخبرنا به آمنة” بامتداد فصولها الثمانية، ومن خلالها بنت حوارات التاريخية والخيال والأحلام، فهم ووعي كبير من الكاتبة في وصف تحولات شخصيات العمل تمر بمراحل وتمثل ثلاثة أجيال، تجسد في مجملها حكاية وطن كان ولا يزال يتحدى المحن.شخصياتها مع استثناءات طفيفة تلائم البناء النفسي والمعرفي لشخصيات الرواية، فقدمت لنا “علية” البنت والزوجة، و”فردوس” و”عنايات” وحتى “أم عثمان” صاحبة المعاناة الأكبر التي تحلم دوما بالعودة إلى بلدها، ومن خلال هذه اللغة الرصينة نجحت الكاتبة في تمرير الثورات والاحتجاجات والهتافات والحروب دون افتعال أو ملل اجترار واستعادة وقائع التاريخ.
تمثل رواية “ما لم تخبرنا به آمنة”، قراءة واعية ومدهشة في حقبة مهمة من تاريخ مصر، وتمثل لغة الرواية والمزج الرائع بين الوقائع والحقائق