ثقافة وفكر
أخر الأخبار

ما وراء السرد التاريخي في رواية خضير “العابد في مرويته الأخيرة”

تعمل روايات ما بعد الحداثة كوسيلة للبحث في تعقيدات التجربة الإنسانية وبناء الواقع، من خلال تفكيك المفاهيم التقليدية للتاريخ والهوية والسرد، والدعوة إلى التفاعل بشكل نقدي مع العالم، والاعتراف باختلاف وجهات النظر تجاه تلك المفاهيم وتنوعها.
فمن مميزات الرواية الما بعد حداثية، أنها شهادة على عملية التفاعل بين التجريب الروائي والبناء الثقافي المعقد للمجتمعات الإنسانية، وكيفية تكونها زمانيا ومكانيا، بالإضافة إلى ميزة أخرى هي ابتعادها عن تراتبية السرد الخطي التقليدي، وميلها إلى عملية التشظي والتناص وما وراء السرد (الميتافكشن) لذلك فقد مهدت لظهور مفهوم جديد يعرف بما وراء السرد التاريخي (historiographic metafiction) الذي فتح المجال أمام الروائيين لإعادة بناء أو (إعادة تحبيك) الماضي والحاضر والمستقبل، وطمس الحدود الفاصلة بينها، حيث يوفر مفهوم ليندا هيتشيون لما وراء السرد التاريخي، إطارا لفهم تعقيدات السرد وعلاقته بالتاريخ، إذ يشير ليس إلى الخيال الذي تبنى به الأحداث التاريخية في الرواية فحسب؛ وإنما إلى الطرق التي يتم بها بناء التاريخ وتفسيره، وطمس الحدود بين الخيال والتاريخ، وإبراز البنى السردية والأدوات النصية التي يتم من خلالها تحليل معرفتنا بالتاريخ وتشكلاته الاجتماعية والثقافية.

ففي صلب هذا المفهوم يمكننا الاعتراف بأن التاريخ ليس حقيقة موضوعية ثابتة، بل هو بناء ذاتي تشكله قوى ثقافية واجتماعية وسياسية، لذلك تنفي روايات ما وراء السرد التاريخي فكرة السرد التاريخي المتماسك، وينحاز روائيوها إلى البحث عن وجهات نظر جديدة ومختلفة، وربما إلى تفسيرات متناقضة، ويعتمدون على انثيال الذاكرة وانسيابيتها، لذلك فهم يستنطقون الأسس التي بنيت عليها الحقيقة التاريخية، ويدعون إلى التشكيك فيها، إذ إن من بين الأفكار الرئيسية لما وراء السرد التاريخي هو تأكيده على العلاقة بين التاريخ والخيال، وبدلا من النظر إلى هذين النمطين من الخطاب على إنهما متنافيان، ترى هتشيون، بأنهما متشابكان بشكل لا ينفصل، حيث ينخرط الروائيون في تقص واع لعملية السرد الروائي، وطبيعة الروايات التاريخية وكيفية فهمنا للتاريخ، لكن كيفية فهمنا لهذه الروايات، ومفهوم ما وراء السرد التاريخي، يحتاج إلى دراية كبيرة بالسياقات الثقافية المنتجة لها، ومرجعياتها التاريخية وتناصاتها، وهذا ما يمكن أن نجده، ربما في رواية «العابد في مرويته الأخيرة» للروائي محمد خضير سلطان، حيث نرى أن هناك إعادة لخلق أسطورة النشوء الأولى للتاريخ، ممثلة بالإنسان والمكان، وهذا ما تشير إليه ربما وبصورة مباشرة العتبة الاستهلالية للرواية (هذه المدونة لا صحة كبيرة لها، إنما هي إعادة ترتيب هجائية للحكاية الحقيقية المفقودة) إذ يحاول الروائي منذ البدء، أن يعيد تشكيل أسطورة الخلق؛ ليس من منطلقها الديني، بل من منطلقها الأسطوري، المرتبط بالحضارات العراقية القديمة، ورغم أن هذه الأسطورة متداخلة ومتمازجة مع حاضنتها التاريخية، في تشكيل وعي الإنسان العراقي القديم بذاته وزمانه ومكانه، إلا أنها وظفت روائيا في هذا العمل داخل حاضنة تاريخية/ ثقافية أخرى، يراد منها تشكيل تاريخ مواز، يمثل وعيا جديدا بالتاريخ وتشكلاته الاجتماعية والثقافية، يمثله ربما المولود الجديد (سليل البرية خارج أسوار أوروك) لذلك فقصة الخلق المعاد تصورها؛ لا تبنى وفق نمط الأسطورة المتناص معها، وإنما تحمل بين طياتها مجموعة من الإشارات والدوال التي تضيف لتلك المرجعية أبعادا أخرى، وتمثل بذورا لدوال ستنمو لاحقا في المسارات التاريخية التي تبنيها الرواية (ما كانت الربة الأم الكبيرة عابثة ولم تكن تهدر وقتها السماوي، حيث تقف بقوامها الجميل لتلقي قليلا حزمة القصب ذات النهاية التي تشبه النجمة المثمنة) حيث نجد لاحقا طائر الشقراق البري، الذي يعبر إلى جهة اليمين، ماء النهر، الطين الدهلة إلخ، حيث تمثل هذه الإشارات وغيرها بذورا ستنبت لاحقا، وستبنى عليها أحداث ورؤى تمثل دلالات مركزية في ثيمة الرواية.

وضع الروائي وفي الجزء الأول من الرواية وفي صفحتها الأولى هامشا لعنوان هذا الجزء (خارج أسوار أوروك) يحيل فيه إلى أنه (اقتباس بتصرف من النصوص الرافدينية ومنها ملحمة جلجامش) الذي ربما يجعلنا نتوقع أن هذه الإشارات وهذه الحكاية هي صورة مماثلة للأصل/ المرجع، أو ربما هي صورة شعرية لذلك الأصل/ المرجع، مما قد يشكك بافتراضنا عن التناص وما وراء السرد التاريخي في بناء هذه الرواية، لكن وأن افترضنا هذه المطابقة، أو المماثلة مع ذلك المرجع؛ إلا أنها تختلف ربما في كيفية تضمينها، في نسق بنائي يقود هذه الحكاية صوب مدى آخر من التوظيف، الذي سيظهر لاحقا في الأجزاء الأخرى من الرواية، التي تمثل سدى حكايات العابد ورواته.
إعادة بناء الحكاية الأسطورية، يأخذ تمثلات عدة في الرواية، ومنها أنها زرعت بذوراً لنمو تاريخ مواز، يحمل روح تلك الأسطورة- المرجع، لكن بصورة جديدة، تجعلها تعيش في أزمان عدة، حيث يرينا هذا الاقتباس من الرواية مثلا (لم يقترب سليل البراري قط من أسوار أوروك ولجش وحسب، بل حتى بابل والكوفة والحيرة ومكة والبصرة والقدس وأور وآشور) إن هذه الأمكنة ليست أمكنة بحد ذاتها، وإنما هي إشارات لأزمان مختلفة، لكنها تحمل روحا تاريخية واحدة، حيث إن هذه المدن تنتمي إلى أزمنة نشوء مختلفة وغير متقاربة، أي أنها صور متنوعة للروح التاريخية المسيطرة، والمهيمنة على رؤيتنا لتلك الأزمنة وذلك التاريخ. عندما تبدأ تتشكل صورة العابد وأثره المكاني (كان مجلس العابد شاخصا وسط البلدة الناشئة بصورته المروية القديمة، مثل مرابض الأم الكبرى المندثرة، والجديدة مثل مياه تجري، تجري وتتجدد باستمرار، ومنذ مئات السنين) فهو يبدأ بالخروج من سطوة اللبنة الأولى التي أنشأته، إلى صورة أخرى متخيلة، وموازية للتاريخ الافتراضي لنشوء هذه المدن والأماكن، لكن تبقى بذور تلك النشأة هي التي تحكمه وتقيم سداه، وعملية الخروج هذه من الحكاية الأسطورية المتناص معها، إلى تشكيل هذا التاريخ الموازي، تسندها بعض الحجج المضمنة، التي تسند هذا التاريخ وتمثلاته، كما في معاني الأسماء التي طلب أحد رواة العابد تدقيقها، وهذه الصيغة الحجاجية، هي محاولة لإثبات هذا الخيط التاريخي الذي يتشكل من جديد، وكذلك ما يتعلق بغناء المغني سعدون لنغمة (أنا ليا ويلي) وربطها بالإله (ويلي السومري) (يرى سميث أن هذه النغمة البكائية قريبة جدا من أجواء قربانية لذبح الإله ويلي في سومر ومهر دمه بإنسان ما بعد الخلق) وكما نلاحظ أن هاتين الصيغتين من الحجاج التي يحاول بها الروائي أن يسند روايته لذلك التاريخ، تنبعان بصورة مباشرة من الحكاية الأولى للخلق، التي مثلت مرجعا وتناصا.

القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى