“محاكمات الظل… كيف تصنع جماعة الحوثي اعترافات وتهم تجسّس تحت التعذيب؟”

في اليمن، لم يعد الاتهام بـ”التجسس” يحتاج إلى أدلة أو محاكمة عادلة، يكفي أن تعارض الجماعة أو تعترض على مناهجها حتى تتحول في ليلة واحدة إلى “عميل للأمريكان” أو “مرتبط بالموساد”. خلال الأشهر الأخيرة، تصاعدت فجأة موجة محاكمات جديدة قادتها النيابة الحوثية في صنعاء، مطالِبة بإعدام 21 مواطناً بتهمة التخابر مع “جهات خارجية”، في وقت كشفت فيه شهادات معتقلين سابقين وأكاديميين أن معظم هذه الملفات لا تتجاوز كونها “اعترافات مصوّرة تحت التعذيب” تُستخدم كأداة للقمع السياسي وتصفية المعارضين. هذا التحقيق يتتبع الخلفيات المظلمة لفيلم الاعترافات المفبرك، كواليس إنتاجه، ومشهد القضاء الذي تحول إلى غرفة تنفيذ لأوامر أمنية، وآراء خبراء وناشطين يحذرون من أخطر موجة تجريف للوعي وتصفية للنخب في تاريخ اليمن الحديث.
الفيلم المفبرك…
شهادة الدكتور سعيد الغليسي، المعتقل السابق، أعادت فتح ملف “خلية الجواسيس” من جديد، بعدما كشف أن التربوي مجيب المخلافي –الذي ظهر في الفيديو– لم يكن يعترف بالتجسس، بل كان يدافع عن المناهج ويرفض إدخال مفردات غير أخلاقية ضمن التعديلات الحوثية. يؤكد الغليسي أنه التقى بالمخلافي داخل السجن، وأن الأخير صُوِّر لساعات معتقداً أن حديثه سيرفع إلى رئاسة الوزراء، لكن عناصر الجماعة قطعوا أجزاء واسعة من كلامه وغيروا السياق كاملاً ليظهر كـ”عميل للأمريكان”. المحلل الحقوقي عادل منصور يرى أن “الإخراج الركيك للفيديوهات الحوثية يشبه محاكمات الأنظمة الشمولية القديمة؛ متهمون منهكون، اعترافات جاهزة، ومشاهد مقطوعة بإتقان لإثبات الرواية الرسمية”. ويضيف: “هذه المقاطع ليست لتقديم الحقيقة، بل لترويع المجتمع وإرسال رسائل مفادها أن كل من يعارض سيتم تشويهه وتدميره”.
محاكمات بلا قانون…
في غضون ثلاثة أيام فقط، عُقدت محاكمتان في صنعاء انتهت بمطالبة النيابة التابعة للحوثيين بإعدام 21 مواطناً، قالت إنهم جزء من “شبكة تجسس” مرتبطة بالمخابرات الأمريكية والإسرائيلية والسعودية. الإعلام الحوثي تحدث عن “سبائك ذهب” و”مبالغ أجنبية” و”مراسلات مع ضباط”، لكنه لم يفسر كيف حصل هؤلاء المواطنون العاديون على معدات استخباراتية معقدة، ولا لماذا يتم عرض “الاعترافات” جاهزة في كل ملف قبل بدء المحاكمة أصلاً. الناشط القانوني مصطفى المتوكل يعلق لموقع الوعل اليمني “لا توجد هيئة دفاع مستقلة، لا توجد جلسات مفتوحة، لا يسمح لأهالي المتهمين بالحضور، ولا تُعرض الأدلة على نحو يسمح بالتحقق. هذه ليست محاكمات، إنها إجراءات تصفية مغلفة بقضاء صوري”. ويشير إلى أن أغلب المتهمين اختفوا قسرياً لأشهر قبل ظهورهم في الفيديوهات ذات الوجوه المنهكة والعيون المتورمة، وهي علامات واضحة –بحسبه– على التعذيب.
عائلات مهدّدة
تعتقد أسر المعتقلين أن مجرد سؤالها عن أبنائها جريمة تُعاقَب عليها. مصادر في صنعاء أكدت أن المشرفين الحوثيين هددوا الأهالي بإخفاء أبنائهم نهائياً إن تحدثوا للإعلام أو قدموا شكاوى للمنظمات الحقوقية. إحدى الأمهات قالت لـ«الشرق الأوسط»: “قالوا لي بالحرف… لو تكلمتِ سنجعله يختفي من الوجود”. أما أهالي المعتقلين من محافظة إب فوصفوا أنهم يتعرضون للابتزاز والترهيب عبر وجهاء محليين أُجبروا على نقل رسائل التهديد. الخبير الاجتماعي جمال احمد يرى أن هذه السياسة تهدف إلى “خلق مجتمع خائف بالكامل، تُكمّم فيه أفواه الأسر قبل النشطاء، وتصبح السلطة الأمنية فوق كل القيم والقوانين”.
سجون سرية
تتوسع دائرة الانتهاكات في محافظتي صنعاء وإب على وجه الخصوص، حيث تحولت المحافظة الأخيرة إلى مركز احتجاج واسع ضد سلطات الحوثيين، ما دفع الجماعة إلى اعتقال المئات. ناشطون أكدوا أن الصحافي محمد المياحي يخوض حالياً إضراباً مفتوحاً عن الطعام داخل أحد السجون السرية، بعدما اعتُقل عقب منشور انتقد فيه خطاب زعيم الجماعة. صديق له قال: “ما يحدث للمياحي يحدث لمئات غيره. مجرد كتابة رأي أصبحت جريمة”. ويرى محللون أن هذه الممارسات تؤكد أن الجماعة تعتبر حرية الرأي تهديداً مباشراً لمشروعها، فتتعامل معها بوصفها خطراً أمنياً لا حقاً دستورياً.
القضاء كغطاء…
يرى الباحث سالم الوادعي ” أن هذه المحاكمات ليست منفصلة عن مشروع أوسع. يقول: “الحوثيون لا يحاكمون أشخاصاً، بل يهاجمون الوعي ذاته. كل أكاديمي، كل تربوي، كل صحافي مستقل هو تهديد لمشروعهم العقائدي”. ويضيف أن “التهم الجاهزة بالتجسس هي وسيلة لتشويه الخصوم وضرب ثقة المجتمع بهم، وتحويلهم من رموز فكرية إلى مجرمين في نظر الجمهور”. أما الناشطة مروي الحميدي فتؤكد أن “تلفيق الاعترافات وتحويل القضاء إلى أداة سياسية هو واحدة من أخطر مظاهر إعادة هندسة المجتمع، فالجماعة لا تريد معارضة ولا نقاشاً، بل مجتمعاً مطيعاً يرى العالم بعين واحدة”.
من فيلم الاعترافات المفبرك، إلى محاكمات الإعدام السريعة، إلى تهديد أسر المعتقلين، تبدو الصورة أوضح من أي وقت مضى: نحن أمام مشروع متكامل يستهدف الوعي قبل استهداف الأفراد، ويعيد تشكيل المجال العام عبر الخوف والتعذيب والقضاء الصوري. في بلد مزقته الحرب، لم تعد المعركة بين طرفين سياسيين، بل بين مجتمع يسعى إلى الحياة والحرية، وسلطة ترى في العقل خطراً وفي الكلمة تهديداً وفي التعليم بوابة للتمرّد. السؤال الذي يبقى معلقاً: إلى متى سيظل اليمنيون يواجهون هذا القمع بلا حماية؟ وما الذي سيتبقّى من الوطن إذا استمرت آلة التجريم في سحق نخبه، واحدة بعد أخرى؟






